عار التدخل الخارجي ... والإملاءات الأمريكية


رشيد قويدر
2011 / 12 / 11 - 15:51     

تدوي في أرجاء المركز المالي العالمي براكين الأزمة الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية، نتيجة عقود مديدة لمنهج الرأسمالية المتوحشة، ولطبيعة التطور البنيوي الأزموي لسياساتها الوطنية والدولية، ولمظالمها الإنسانية وتشوهاتها القانونية، ولكل ما تمثل من إيديولوجيا فاسدة. بدأت الاحتجاجات في قلب المركز المالي العالمي منذ عقد من الزمن في سياتل وغيرها، وأخذت تهزّ كيانات المراكز الاقتصادية والسياسية الكبرى في الاقتصادات الكبرى الموصوفة بالضواري الإمبريالية، والأهوال والحروب التي حملتها معها في جنبات العالم، وعلى وجه الخصوص المنطقة العربية.
تعكس ضخامة الاحتجاجات هول الأزمة البنيوية، والمعضلات التي تهدد مسار اقتصاداتها العظمى، من "وول ستريت" إلى منطقة "اليورو" المهددة بخطر الإفلاس والانفلات، المراكز الإمبريالية المهيمنة وإرثها التاريخي الاقتصادي الطفيلي على الموارد العالمية والعربية، وخاصة لدى توابع عربية مستلبٌ قرارها الوطني؛ اختارت أن لا يكون لها قرار سوى قرار الانصياع للاملاءات ...
إن هذه الطفيلية ... والأدق المنهج الأمريكي "الداروينية" الاجتماعي، باتت تعمل على حل أزمتها بالحروب، والعيش على موارد الآخرين من الشعوب، فهي الآن ذاتها تعيش مؤشراتها المرتفعة من الفقر والبطالة وتداعي العلاج والضمان الصحي، وتثير الرعب والقسوة لدى مواطنيها من المستقبل، أما الاحتجاجات الكبرى فقد أخذت اليوم مظاهر الاعتراض على التدهور الاقتصادي ـ الاجتماعي؛ نحو معالجة الأزمات ذاتها بالمعنى السياسي والاقتصادي والأخلاقي، نحو الجوهر الفعلي لحقوق وكرامة الإنسان لا التشدق به فقط، أي معالجة مولدات الفقر والبطالة بما تعني جوهر حقوق الإنسان والديمقراطية ...
في هذا المأزق لهذه المراكز الرأسمالية؛ جرت محاولات "ترقيع" الأنظمة والقوانين والإبقاء على مولدات الأزمة بمعضلاتها الاجتماعية، واستمراراً بذات الإيديولوجيا والسياسات الاستغلالية المُفقرة للمجتمعات، فالتنازلات الشكلية لم تتأتى بدوافع إنسانية. وقد فتحت الأزمة البنيوية شهية إمبريالياتها الأطلسية تجاه خيرات الشعوب وثروات أوطانها. وللأسف؛ إن النظام العربي الرسمي من التوابع الموصوفة، فالشعوب منهوبة خيراتها وعلى حساب مستقبلها، لما هو مرسوم بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"؛ أي كناية عن "سايكس بيكو" جديد. وإدارة أوباما بأزماتها لم تتخلَ عن "شرق أوسط المحافظين الجدد" إذ تواصل المنهج ذاته، والأدوات والوسائل ذاتها، والسياسات ذاتها، والالتزام الكامل بـ "إسرائيل" تجاه تفوقها ودعم عدوانها وتهويدها، تجيير كامل نفوذها في المنطقة لمصلحتها، بدءاً من "الفوضى الخلاقة" وإثارة الحروب الأهلية، والفتن الطائفية والإثنية، وتمزيق اللحمة العربية، وتفكيك وشائج الروابط القومية بتكريس ما بعد قطرية سايكس بيكو. إنه لمن المذل والمخزي أن تتحول "الجامعة العربية" إلى بورصة في "وول ستريت" تديرها إمارة صغيرة بحجم قطر، وكناية عن شركة محدودة، في الوقت الذي صمت ويصمت به العربي الرسمي عن الاحتلال ومحارق غزة وحصارها، وعن تهويد القدس وفقاً للمخططات الصهيونية، ولكل ما يتعلق بعروبتها من أراضٍ ومقدسات ومساجد وكنائس ومقابر، نحو فرض أمر واقع جديد، وأما الصمت فهو إما عن عجز أو عن رضا، والمفارقة هي أن الصامت العربي والمنفذ الصهيوني كلاهما مصفح بدعم وتبعية أمريكية ...
على الجانب الإقليمي ينسحب الأمر على رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، ودوره المرسوم في المنطقة، فبعد صولاته وجولاته "المبهرة"؛ نستخلص منه أنه ليس مهماً إذا كانت تركيا إسلامية أو علمانية، طالما الدولة في الحالتين هي في خدمة الإمبريالية وقواعدها العسكرية ومخططاتها، وعضواً رئيسياً في حلف الأطلسي.
من هذه اللوحة يمكن تناول الخطوط العامة لما حاق ويحيق بالعرب وأوطانهم، سياق أزمة المركز ومخططاته ومشاريعه وبيادقه في المنطقة. لقد انتهت المفاوضات الأمريكية ـ العراقية لتمديد الاتفاقية الأمنية إلى الفشل، والمفارقة ونحن على أبواب عام جديد؛ هي أن الرأي العام العربي والدولي لا يمكنه تصديق ما أعلنته واشنطن عن رحيل قواتها من العراق؛ وخلاصه من ربقة احتلال ثقيل وبغيض ومدمر، ليستعيد حريته ودوره الوطني والقومي، ذلك لأن الممارسات الأمريكية على الأرض في العراق وبالخليج بالذات، علمت الشعوب بألا تثق بالوعود الأمريكية.
سبق لوزير الدفاع الأمريكي أن اعتبر بأن الانسحاب من العراق هو "نقطة تحول تاريخية"، دون أن يوضح معنى هذا التحول في سياق الإستراتيجية الأمريكية القائمة والتي صاغها المحافظون الجدد في إطار "الشرق الوسط الكبير"، مقرونةً بكامل أنماط الرياء والتضليل لتبرير غزوها وتدخلها، محمولةً على ادعاءات "الديمقراطية وحقوق الإنسان". استحالة التصديق بأنها تخلت عن أطماعها بثروات العراق، وخاصةً النفط والطاقة؛ ودور "إسرائيل" بالسيطرة على قلب وتلابيب المنطقة والإمساك بها بطرق مختلفة، وباعتبارها الركيزة الهامة في مفاصل الإستراتيجية والصراع على هذه المنطقة، ما تشير له المخططات البديلة بالانسحاب من العراق، بالاستناد إلى قواعد عسكرية جديدة في منطقة الخليج وبالقرب المجاور للعراق؛ ولما يسمى بإعادة الانتشار. ذات الأمر في دول آسيا الوسطى وعلى حدود روسيا الاتحادية والصين، وبالعمل على أدوار إقليمية توكل لحلفائها.
إن محنة المصداقية الأمريكية هي محنة تاريخية طويلة الأمد؛ فهي ترتبط بفلسفة "الذرائع" التي تستند عليها، وتنتهي بـ "الداروينية" التي تصطدم الآن بالأزمة المالية العالمية، فالنظام السياسي الأمريكي بأساسه مختلاً، ويمكن قراءة أهل هذه الإدارة ذاتها؛ وبحسب توماس فريدمان ومايكل ماندلباوم في كتابهما الجديد: "أمة أمريكية متوعكة" يمكن تناول ذلك دون أية إساءة لقراءة الواقع، وسوى أنها ستضيف لنا العديد من الكوارث الجديدة عربياً التي ينبغي تجنبها.
وبحسبهما أيضاً؛ فإن أية قراءة لمبدأ الديون الأمريكية المتراكمة، فإن مبدأ العجز المالي منذ رونالد ريغان، ويرتبط بالإنفاق الطائش ودونما أي تفكير بالغد؛ ويشيران إلى أنه في العام 2009 انفق المستهلكون الأمريكيون 7.1 مليار دولار على رقائق البطاطا المقلية المقرمشة، في حين أنفقت الإدارة الأمريكية 5.1 مليار دولار على أبحاث الطاقة، أما في مجال التعليم فيشيران: "إن جامعتيّ شينخوا وبكين هما أكبر مزودتين بالدكتوراه اليوم في الولايات المتحدة"، وأن "49 % من البالغين الأمريكيين لا يعرفون الفترة التي تستغرقها الكرة الأرضية للدوران حول الشمس"، ويردان ذلك إلى الإخفاق المزمن في الاستثمار والصناعة التي جعلت أمريكا قوية، والأهم أنهما ينعيان وجود طريق لملايين البالغين الذين تستنزفهم الأزمة؛ الانكماش والعلاج بالصدمة وفلسفة الذرائع والداروينية؛ هي ما أوصلت إلى المأزق، حيث لا جدوى من زيادة الضرائب لدفع نفقات الحروب، أو أية محاولات ترقيعية لهيكلة المصارف، فالمحنة عميقة متراكمة وطويلة الأمد، وصولاً إلى الاحتباس الحراري، وستكون علاجاتها بلا طائل طالما تقوم على القواعد العسكرية، وعمليات الغزو والنهب على النحو المشهود بليبيا وتدميرها، وطالما أن الشعوب تأبى عار الاحتلال للأوطان، ونحن نرى أن هذه المحنة تنطبق اليوم على فرنسا ساركوزي والمملكة المتحدة التي لم تكن تغيب عنها الشمس.
وفي اكتمال مشهد الأزمة الأمريكية؛ يأتي ما أعلنته مؤخراً وزارة الخزانة بأن الدين العام للولايات المتحدة ارتفع إلى أكثر من 15 تريليون دولار في العام 2011، بما يوازي 48 ألف دولار لكل مواطن، وهي مرشحة للتصاعد الذي يقضي على فرص العمل أو زيادة الضرائب، وقد فشلت خطط إنقاذ البنوك، في الوقت الذي تشوه به قناة "فوكس" وغيرها؛ حركة "احتلوا وول ستريت" الغاضبة، باعتبارها حركة مهمشين، لا حركة مناهضة للرأسمالية وحركة مواطنين، أولئك الذين يجري قمعهم بوسائل قاسية جداً بعيداً عن حقوق الإنسان.
في التوابع العربية وعلى سبيل المثال أيضاً؛ تُستهدف سوريا. فبعد أيام على "الفيتو" المزدوج لروسيا الاتحادية والصين بشأن إصدار قرار في مجلس الأمن "غطاء دولي ضد سوريا يفتح للتدخل الأجنبي"، شهدنا انعطافتين سريعتين: الأولى تشكيل "المجلس الانتقالي" المعارض في تركيا، والذي يقترن بالتسمية والسيناريو مع "المجلس الانتقالي" الليبي، رغم الفوارق الهائلة. أما الثانية: فهي الانعقاد السريع لمجلس الجامعة العربية، وبطلب عاجل من مجلس التعاون الخليجي، في السعي الحثيث لتدويل الأزمة السورية، وفتح الطريق أمام التدخل الأجنبي الدولي، وقام مجلس "الجامعة العربية" يوم 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 باتخاذ قرار تجميد عضوية سوريا في هذه الجامعة، ابتداءً من الـ 16 من ذات الشهر، وجاء هذا القرار بعد إعلان القيادة السورية ترحيبها بلجنة عربية لتقصي الحقائق على الأرض، وتزويد مجلس الجامعة بالمعلومات الدقيقة المستوحاة من الواقع، بدلاً من مساعي زرع الفتنة وحشد الرأي العام والتحريض ضد سوريا عبر التضليل والفبركات الإعلامية، وحيث أن الديمقراطية والإصلاح لها أن تتحقق بالعمالة للأجنبي وعبر صواريخ وطائرات "الناتو".
بين الأخذ بالحقيقة والإقرار بها؛ وبين التعمية عليها بالتضليل المقصود بونّ هائل، بسعة الفرق بين الضوء الساطع والظلام الدامس، ونحن نشاهد الخلط المتعمد، محاولات تحويل الأكاذيب إلى حقائق، هنا أيضاً وليس آخراً على سبيل المثال كي نتحمل مصداقية ما ندعي، وعلى القارئ مراجعة جريدة "الشرق الأوسط" السعودية ـ تاريخ 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 ـ تحت عنوان: "مصدر أمريكي: الحكومة التركية بصدد (قرارات معينة) حيال الوضع في سوريا"، من السطر الأول إملاءات مطالب مصدر في الخارجية الأمريكية لـ "الجامعة العربية" طلب عدم ذكر اسمه ووظيفته، ومن أراد أن يطلع فليقارنها بحيثيات قرار الجامعة الذي اتخذته حرفياً.
إن أشكال التدخل الأمريكي وحلفاءه في شؤون الدول المستقلة لا يتوقف على مركزها فقط، بل أيضاً على ولاتها في الأقاليم، وينسحب هذا أيضاً على أنقرة التي تمد يد العون برعاية أمريكية للمجموعات الإرهابية والإمداد المالي والإعلامي من أكثر من جهة عربية، الأمر الذي يختلف مع دعاة الإصلاح الفعلي في الداخل السوري؛ فالإصلاح الحقيقي حريص كل الحرص على المصالح الوطنية والقومية، وعلى استقلالية القرار السوري، وباعتباره حصانة ضد هذه التدخلات، لا يشرع الأبواب للتدخل الأجنبي فلا ينتهي كما انتهى مصير "الثورات الملونة".
تركيا ستحصد نتائج مرّة، فلن تحصل مما تفعله على أية نتائج سوى الإضرار بمصالحها وسمعتها لدى الشعوب، وتركيا أردوغان تلميذ نجيب ومعها ولاةٌ عرب يطمحون من خلال تمويل مجموعات ما في الخارج الوصول إلى استنزاف حرب أهلية هي بعيدة عن المكونات السورية وحضارتها التاريخية السحيقة، فما تفعله كناية عن نشر "القيم الأمريكية" و"الفوضى الخلاقة" عن طريق العنف في الشرق الأوسط، عبر افتاءات حاخامات التكفير والدم والفتاوي الميتة، وعبر النوائح والمباخر التي تخمر على رائحة المذاهب في أول هبوب للدم؛ تنزُّ منها رائحة الطائفية الكريهة، رائحة اللا عقل، فالعقل خارج سياق منطوق التحولات التاريخية، طالما يرفض المراجعة والنقد والمراجعة الأخلاقية المعرفية الواسعة والجادة، ما نراه من كوارث فاجعة في الجغرافيا الديموغرافية، تصل إلى حد التدخل العسكري الخارجي للفتك بانتفاضة البحرين الإصلاحية، والتي تطالب بـ "ملكية دستورية"، نحن أمام مفارقات وتناقضات لا يمكن تبريرها أو تسويغها في (التابو الطائفي)، حين لا يحق لهؤلاء أن يستصرخوا العالم للكشف عن حقيقة ما يجري في التعاطي مع الجوانب الحقوقية للحياة والمعيش والمواطنة، فهما في مستويين متفارقين، حالة تستوقف وتذهل كل ذي بصرٍ وبصيرة ... لأن شهية الغرب النفطية ولعابها السائل تفترض التعتيم والمذابح ...
في الإصلاح؛ إن أصل التشريع هو حماية الأوطان والمواطن، وتبدأ بإعادة تأهيل القوى الحيّة في المجتمع لأن تكون ذاتها صاحبة المواجهات الوقائية، وعلى وجه الخصوص محاولات استهداف الوطن، فما من سوري حقيقي يتحمل "عار العدوان على وطنه" ... أما الإصلاح فإنه شيء آخر يستهدف ترميم الفراغ والخراب، وحصانة الأوطان والمضمون الاجتماعي للدولة.