مرحلة -سيريالية-.. فى تاريخ الوطن


سعد هجرس
2011 / 12 / 10 - 16:45     

يبدو المشهد العام فى مصر الآن "سيرياليا" بامتياز.
فميدان التحرير الذى كان – ولايزال – بؤرة إشعاع للثورة المصرية، والذى تحول إلى مصدر إلهام للمدافعين عن الحق والخير والجمال حتى فيما وراء البحار والمحيطات، أصبح هدفاً لهجوم منهجى متصاعد من جانب أطراف متعددة تسعى إلى احتواء الثورة أو اغتيالها، وأصبح "متهماً" بكل ما هو سلبى بدءاً من زعزعة الاستقرار وانتهاء بتعطيل عجلة الإنتاج!
والحكومات التى جاءت بعد تنحية حسنى مبارك أعادت إنتاج نظامه، وسارت على خطى سياساته حرفيا وبكل إخلاص.. ضاربة عرض الحائط بكل المطالب التى رفعتها الثورة التى لولاها لما جلسوا فى قصر الأميرة شويكار على مرمى حجر من ميدان التحرير.
ورأينا ان حكومات ما بعد 25 يناير أعادت استخدام أساليب وسياسات حبيب العادلى من قمع وقتل للمتظاهرين واستخدام للغاز المسيل للدموع والرصاص الحى والمطاطى.. وخلافه.
والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى أصدر الإعلان الدستورى الذى يحظر إنشاء أحزاب سياسية على أسس دينية، كان هو ذاته الذى سمح بقيام عدد يسد عين الشمس من هذه النوعية التى لا تخفى عزمها على فرض الشريعة وإرساء دعائم الدولة الدينية سواء تحت اسم دولة الخلافة أو غيرها من التسميات.
ولم تحاول بعض هذه الأحزاب السياسية الدينية إخفاء عزمها على تقييد الحريات العامة والخاصة وفرض وصايتها على حرية الإبداع حتى أن أحد أكبر مراجعها وصف أدب نجيب محفوظ بأنه أدب "دعارة". والأخطر أن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين التى يفترض فيها أنها "الأعقل" والأكثر خبرة وتمرسا بالسياسة فقد قال ان منصب المرشد العام أعلى من مستويات رئيس الجمهورية فى المسئولية والأمانة. وهذا الكلام معناه فرض الوصاية المطلقة على الدولة بكل مؤسساتها الدستورية!
والقوى الليبرالية واليسارية المدافعة عن مدنية الدولة قبلت – عمليات- بهذا الانتهاك الفظ للإعلان الدستورى، وتعاملت مع الكيانات التى ترفع رايات الدين كأمر واقع .. بل إن بعضها دخل فى تحالفات معها.
وفى ظل هذه المفارقات .. جاءت انتخابات مجلس الشعب، وفى المرحلة الأولى منها صوتت أغلبية الناخبين لصالح من قالوا بالأمس ان الديموقراطية كفر والعياذ بالله!
فإلى أين تتجه سفينة الوطن.. والحال كذلك؟
***
الصورة تبدو "سيريالية" كما نقول، لكنها ليست "سوداء".
وأهم تحول حدث بعد 25 يناير هو ان المصريين كسروا حاجز الخوف، وخلعوا رداء السلبية والعزوف عن المشاركة فى تقرير مصيرهم، وأصبحوا رقماً حقيقاً- إن لم يكن الرقم الأكبر والأهم- فى المعادلة السياسية.
هؤلاء المصريون هم الذين صنعوا الثورة وأجبروا حسنى مبارك على التنحى، وهم الذى أسقطوا مخطط "التوريث" وهم الذين ضغطوا حتى تم إدخال الرئيس المخلوع إلى قفص الاتهام هو وولديه وأركان نظامه المترنح..
وهم الذين مازال بعضهم معتصمين فى ميدان التحرير وأمام مجلس الوزراء دفاعاً عن الثورة وأهدافها.
وهم الذين شارك معظمهم فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى أول انتخابات حرة (رغم كثير من التجاوزات والمخالفات) تجرى على ضفاف النيل.
وينبغى احترام اختياراتهم.. أيا كانت هذه الاختيارات فهذه هى الديموقراطية.
وإذا كانت هذه الاختيارات – فى رأى البعض وأنا منهم – ليست هى الأفضل والأمثل والأنفع للبلاد فى هذه المرحلة الانتقالية المهمة، فإنهم هم الذين سيصححون المسار مستقبلاً، لأن التفويض الذى منحته غالبيتهم لتيار الإسلام السياسى ليس "شيكا على بياض"، وليس تفويضاً "مطلقاً"، وإنما هو تفويض مؤقت ومشروط، فهو محدد المدة وليس تفويضاً ابدياً.
كما أن الأغلبية الإسلامية التى دخلت إلى البرلمان لن تكون بلا ضوابط فليس من حقها – مثلا – تغيير هوية الدولة، أو سن تشريعات مناقضة للقوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان والحريات.
فضلا عن أن تيار الإسلام السياسى ليس كتلة صماء، بل يوجد داخله تمايزات وتباينات كثيرة تتراوح بين الاعتدال والتطرف، والسياسة تفترض الاستفادة من هذه التناقضات الثانوية وجذب المعتدلين ومحاولة تقليص معسكر المتطرفين الأكثر تزمتاً وتشدداً.
والأهم هو ان على القوى المدافعة عن مدنية الدولة أن تتعلم الدرس، وأن تتلافى نواقصها وسلبياتها ونقاط ضعفها الحالية.. من أجل إدخال ملامح أكثر منطقية إلى هذا المشهد السيريالى.