هواجس الشعوب من حطف ثوراتها


محمد بودواهي
2011 / 12 / 9 - 19:00     

الثورات التي تمت في تونس ومصر وليبيا وأنهت مرحلة أكثر من ثلاثة عقود من انفراد زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القدافي بالسلطة ، ما تزال مستمرة من خلال الأحداث التي تشهدها مجموعة من الدول في المنطقة. استمرار هذه الأحداث تعكس حقيقة ان هذه الشعوب قررت ان لا تعيش في الإطار الذي ترسمه مصالح الأنظمة وأسيادها الامبرياليين ، وترسم بدلا عنها أطارات مخالفة تحقق لها العيش في ظل مجتمعات الحرية والكرامة . وقد تم تحقيق الكثير من المكاسب والأهداف التي كانت تحسب حتى الأمس القريب ضرب من الخيال . وإذا آخذنا ممارسات الأجهزة البوليسية القمعية للأنظمة الحاكمة بعين الاعتبار، سنجد ان ما تقوم به جماهير الشعوب هي عبارة عن ملاحم حقيقية من التضحية والشجاعة ومن الأعمال البطولية ، لأن كل من ينزل إلى ساحات الميادين وإلى الشوارع للمطالبة بحقوقه المشروعة يدرك تماما بأنه ينزل إلى ميدان مواجهة عدو لا يتردد في استعمال العنف والذخيرة الحية ولا الإفراط في استخدام القوة بما فيها الدبابات والأسلحة الثقيلة الأخرى، ببدنه المعزول من كل مظاهر القوة التقنية والمادية. رغم أنه يدرك تماما بان الموت والاعتقال والتعذيب من اقرب الاحتمالات التي قد تحدث ومع ذلك لا يتردد في المساهمة في هذه الأحداث النضالية التاريخية الهامة التي غيرت وما تزال تغير المعايير التي كانت تتحكم في نظرتنا إلى القيم الإنسانية ، ورغم انه قد مضت على الأحداث عدة شهور وأعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين في تزايد، إلا ان ذلك لم يضعف من همة الجماهير وإصرارها على تحقيق هذا التغيير المنشود مهما كان الثمن، ودلك لأن المصالح الجوهرية للشعوب، المادية والمعنوية، هي التي توجهها إلى ميادين النضال.

إلا أن هناك مخاوف جدية وحقيقية على مصير هده الثورات وعلى مستقبلها لان التحديات التي تواجهها كبيرة جدا والقوة الغاشمة التي تستهدفها هي القوة المهيمنة على العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، والأخطر من ذلك ان هذه القوى تعمل على النفاذ إلى عمق الشعوب ودواخلها المعرفية والفكرية من خلال داء الليبرالية وقيمها الفردانية والاستهلاكية، وتجعل من ذلك أرضية لتنفيذ مشروعها السياسي والاقتصادي والعسكري. للأسف هناك نقاط ضعف تعاني منها الحركة الشعبية في المنطقة وخاصة ما يتعلق منها بالمستوى التنظيمي، حيث انه هناك حاجة ماسة لخلق صيغ تنظيمية جديدة تضم كافة القوى السياسية والاجتماعية التي تختلف جوهريا مع النظام القائم في المنطقة من جهة، ومع المشروع الامبريالي من جهة أخرى، اي تنظيم مجتمع ديمقراطي مستقل الإرادة وقادر على تمثيل تطلعات الشعوب في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية . ان انعدام هذه الصيغة التنظيمية الواسعة النطاق يجعل من بعض الصيغ التنظيمية الأخرى والتي لم تكن لها فعالية تذكر في المشهد السياسي سابقا، ان تقدم نفسها على أنها ممثل للشعب، الأمر الذي سيجعل الغرب لن يحقق السيطرة من خلالها على الثورة بسهولة. من الواجب أيضا على القوى الثورية في المنطقة أن لا تكتفي بمناهضة الامبريالية في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية فقط، بل ان الأهم من كل ذلك هو التصدي للمفاهيم والنزعات التي تسعى إلى فرضها على المنطقة، لأننا نعرف ان أهم نقاط ضعف شعوب المنطقة هو استسلامها روحيا للحداثة الرأسمالية بما تحملها من مفاهيم ونزعات فردانية واستهلاكية وأساليب حياة تتعارض مع المجتمعية وقيمها الثقافية. ان التبعية الروحية لمفاهيم الحداثة الرأسمالية تجعل من التصدي لهمينتها السياسية والعسكرية امر في غاية الصعوبة. ثورات شمال إفريقيا و الشرق الأوسط يجب ان تكون لها مفاهيمها الخاصة وقيمها التي تستند إليها، وان هذه القيم والمفاهيم يجب ان لا تتعارض مع الخصائص المجتمعية التاريخية الايجابية لهذه المنطقة. ان استيراد القيم وطرق الحياة من الخارج وخاصة اذا كان مصدرها الغرب الرأسمالي، يجعل من كل المكاسب التي تحققت بإراقة الدماء معرضة للخطر والزوال.

في هذا الإطار نرى بان الولايات المتحدة قلقة بشان ما يحدث، لأنها تخاف من ان يؤدي الفراغ الذي من الممكن أن يتركه سقوط الأنظمة إلى صعود القوى التحررية على المسرح السياسي وتوجيه الجماهير إلى الأهداف التي تتناسب مع تطلعاتها وآمالها بغض النظر عن ما تحاول القوى الخارجية فرضه من أجندات. ولإزالة هذه المخاوف وضمان ان تسير الأمور في الطريق الذي يخدم مشاريعها في المنطقة، تعمل على إضعاف القوى التي تخوض نضالا مستقلا والتي تمتنع عن الدوران في فلك السياسة الأمريكية، من خلال ممارسة الضغط عليها وشل تأثيرها وتغيير أولوياتها والتشهير بها لعزلها وتجريدها من المساندة الجماهيرية. وتقوم بذلك مستخدمة ثقلها الدولي وما تتمتع به من قوة مادية وإعلامية. الهدف من كل ذلك هو تجريد الجماهير وحرمانها من القوة الطليعية القادرة على استثمار الطاقة الثورية الموجودة في مشاريع تحررية ديمقراطية تضمن للشعوب العيش بكرامة واستخدام مواردها الوطنية بما يخدم أمنها ونموها وازدهارها ماديا وروحيا.

إن لثورات لازالت مستمرة وهناك حالة من اليقظة والحساسية من قبل الثوار إزاء محاولات الالتفاف والسرقة وهناك نضال شرس لحماية المكاسب في تونس ومصر. نرى بين الحين والآخر أن الحكومات المؤقتة في كلا الدولتين تنتهز فرصة هدوء الجماهير لتمرير خططها ولكنها حين تواجه رد الفعل السلبي للجماهير، تتراجع وتضطر للخضوع لإرادتها ورغبتها، وبالتالي فأن المكاسب التي تحققت لصالح الشعوب ما تزال غير مضمونة وأن ضمانها وتطويرها يمكن فقط من خلال صياغة دستور ديمقراطي يشكل أساسا لبداية مرحلة جديدة في المنطقة أي أن ضمان مكاسب الشعب يكمن فقط في صياغة دستور ديمقراطي. وفي الدول التي لم يتحقق فيها بعد سقوط الأنظمة ما تزال الاحتجاجات مستمرة وان القمع لم يتمكن من إيقافها وفرض الاستسلام عليها.

من الأهمية بمكان، على ضوء ما تقدم، إدراك المعنى التاريخي لهذه الثورات . فهي قد وضعت حدا لعصر طويل من أشكال حكم قائم على الفساد والاستبداد والممارسات القمعية، وشكلت أرضية لتربية أجيال جديدة لا تخاف من السلطة وتتحدى القمع وتفضل الموت بكرامة على العيش في حياة الدل والمهانة . وبالتالي مهما كانت النتائج فأن تأثيرها سيكون حاسما وستبقى تلهم الأجيال القادمة الأمل في الحرية والكرامة والديموقراطية الحقة .