توبة طائر نقار الخشب/ قراءة في كتاب : - الحكمة الكردية - للدكتور بدرخان السندي


حسب الله يحيى
2011 / 12 / 2 - 11:38     

عرفت الفلسفة منذ عهد قديم بأنها " حب الحكمة " فما هي ( الحكمة ) حتى نحبها ونتعلق عبر هذا الحب بالفلسفة والفلاسفة ؟
برتراند رسل / الفيلسوف ورجل السلام العالمي يعد ( الحكمة ) : " تلطيفاً للحماقة " فيما يعد علماء الاجتماع ( الحكمة ) بمثابة الحقل الذي يفصل بين الخير والشر ، بينما يحسب علماء المعرفة والفكر ( الحكمة ) كونها المفردة التي تجمع بين المعرفة والسلوك على اساس الموازنة الصحيحة التي تلتقي عندها الحقائق الرئيسة والحالات النموذجية .
من هنا لايمكن الفصل في ( الحكمة ) بين المعرفة بوصفها تراكم خبرات وقراءات ، من دون تحويل هذه المعرفة الى قيمة سلوكية تنطلق من هذا الوعي المعرفي وصولاً الى معطيات الحكمة والرأي الحكيم .
صحيح ان ما يقوله الفيلسوف اليوناني بيبس من ان : " التفلسف وحده يقود الى الحكمة " ولكن ( الحكمة ) قد ترد في عين الوقت في الاقوال المأثورة والامثال الشعبية والتجارب الحياتية اليومية التي نستخلص منها نظرة ثاقبة حكيمة .
كذلك نرى ان معرفة الانسان بطبيعة اخطائه ، يعد عين الحكمة ، بوصفها خلاصة منطقية تقود صاحبها الى التأني والحذر في اتخاذ اي قرار او موقف مالم يكن مستنداً على حقائق واسس واسباب موجبة .
وقد ترد ( الحكمة ) في الاسئلة الذكية التي يتم طرحها ، لنجد اجوبة نتبين من خلالها طبيعة سلوك ومعرفة وذهنية الآخر .
لذلك نجد ان ( الحكمة ) : " احد كتب العهد القديم ويسمى ايضاً حكمة سليمان ، وفيه عظات ونصوص تتصل بخلود النفس ، فهو ضرب من ادب الحكمة يشبه اسفار ايوب والامثال .. " ـ كما ورد في ( الموسوعة العربية الميسرة ) والصادرة في طبعتها الاولى بالقاهرة عام 1965 وطبعتها اللاحقة عام 1972 ـ
وتورد الموسوعة اسماء حكماء الاغريق السبعة في السياسة والفلسفة وتشمل اسماء : بياس ، خليون ، كليوبولوس ، برياندر ، بيتاكوس ، سولون ، طاليس .
وهم الذين عرفوا في الجذر التاريخي على انهم بناة ( الحكمة ) وعباقرتها المؤسسون .
وفي الادب الشعبي العربي ، تم اعتماد " الامثال بشكل اساسي في الوصول الى الحكمة عبر كتاب " الامثال المولدة " لابي بكر الخوارزمي المتوفى سنة 383 هـ ، واعقبه الثعالبي في كتابه الاثير " ثمار القلوب في المضاف والمنسوب " الذي يعده النقاد في مرجعيته الاولى يعود الى الخوارزمي أصلاً ..وتلاهما الميداني في كتابه الشهير " مجمع الامثال " .. فضلاً عن عشرات الكتب العراقية والعربية التي اتخذت المثل الشعبي احد اوجه المعرفة الشعبية التي تقود اصحابها الى حب (الحكمة) ومن ثم الدخول الى عالم الفلسفة الرحب .
وفي هذا المضمار يجيء كتاب د. بدرخان السندي : " الحكمة الكردية "*الذي يعتمد على " جمهرة من الامثال والحكم الكردية " للوصول الى " الحكمة الكردية " التي يمكن تلخيص تجاربها في مثل يورده د. السندي يقول : " توبة طائر نقار الخشب " الذي " يتوب ليلاً وينسى نهاراً ، وهكذا بعض الناس ممن يتوب ليلاً ليعود الى سابق عهده نهاراً او بالعكس " وهو ما نعده اعماماً على الطبيعة البشرية التي تنتهي الى حكمة ما و عن قناعة تامة ، لكنها تتخلى عنها في موقف او زمن مختلف لتقع في المحظور السابق نفسه .. وكأنها لم تستخلص شيئاً او ترسخ فهماً معمقاً دالاً من الحكمة الاولى . او النبع البكر .. لتقع في الخطأ السابق نفسه ! وفي قراءتناء لـ : " الحكمة الكردية " نقف عند عدد من الامثلة الواردة لنناقش بعض ماورد فيها من مفاهيم ورؤى باتت تستحق المناقشة بعد المتغيرات الاجتماعية والمعرفية التي بتنا نعيشها وتشكل تأثيراتها المتباينة علينا .
فالمثل القائل : " يرى الله الرؤوس اولاً ثم يلف عمائمها " يكشف عن حقيقة ان الرب يصنع الرؤوس على وفق رؤيته .. لكن اصحاب هذه الرؤوس يخفون في الزي الذي ينشدونه للتعبير عن طبيعة ما يريدون ان يراهم الناس به ، لا ماهو ماثل في طبيعة هذه الرؤوس من افكار قد تكون نقيضة تماماً للزي الخارجي الذي يتخفى ولا يكشف عن دواخله .
ويرد مثل : " الله يدبر عش الطائر الاعمى " شبيهاً للمثل القائل : " حتى الذئب الاعمى يرزقه الله " وكلاهما يشيران الى ان رعاية الاله لاتكمن في طبيعة المخلوق وشكله ، وانما يتوجه الخالق الى تحقيق العدل في مخلوقاته جامعاً بين طائر غريد صغير ، وذئب قدّ طبعه على القسوة والخشونة !
وفي المثل القائل : " من يحترم كبار السن يحترم الله " عطاء جميل يجمع بين حكمة الالة وحكمة مخلوقاته التي تعلمت عبر عمرها المديد كيف يكون الاحترام المتبادل بين الخالق والمخلوق ، وبين الكبير والصغير ، وبين الاب وابنه ..
لكن المثل الوارد : " ليكن المرء كلباً على ان يبقى ضمن قومه " لايحمل معه ( حكمة ) يمكن الركون اليها ..فالقوم الذين يذلون احدهم ويعمدون الى اهانتة من دون وجه حق ، ليس بوسع الانسان الاستجابة اليهم والخضوع لهم .. فالمرء لايمكن له البقاء ذليلاً مهاناً تلبية لقوم لايحترمون انسانيته .
فيما نجد المثل : " لاتنسى الاقباج اوطانها " جدير بأن يحتذى ،ذلك ان طائر الحجل ( القبج ) الذي يكثر في جبال كوردستان ، من اكثر الطيور التي تنتمي الى اعشاشها ( اوطانها ) وهي الصفة التي تقترن بالكرد انفسهم ، مثلما تقترن بكل الشعوب التي تذود عن الاوطان التي تنتمي اليها .
وفي المثل المنصوص : " لاتخشى عالماً واخشى ظالماً " بصيرة حكيمة ، لأن الوعي لايجعل صاحبه ظالماً ، وانما يجيء الظلم في المألوف من قوى ظلامية في وعيها ، انانية في سلوكها .. لذلك تتخذ من الظلم سبيلاً لتثبيت قواعدها بعد ان فشلت في تأسيس هذه القاعدة على الوعي الذي لاتملك حجته ومنطقه ومسوغاته لديها .. وهو ما يقترن بالمثل اللاحق : " الحلم افضل من العلم " فالحليم متأنٍ والعلم لاحق بالعلم متقدماً عليه ، ذلك ان التأمل العاقل لابد ان يقود صاحبه الى العلم السديد والرأي الحكيم .
ووصولاً الى اليقين المطلق لابد من تأسيسه على المثل النابه : " رجل لا يشك لا دين له ولا ايمان " .
ان مبدأ الشك هنا ، مبدأ فلسفي بنى عليه ديكارت نظريته العلمية التي تقوم على ان الشك مصدر اليقين ، ومن دون شك لايمكن الوصول الى الحقيقة التي نهدف اليها .
ومثل ذلك : "اجتنب الذهاب الى مجلس رجل متذبذب في رأيه" فمثله لا يعرف الاستقرار وبالتالي فهو في حالة تغيير واستبدال مستمرين .. وهو الامر الذي يجعل الآخر في حيرة من امره .. لذلك يحسن التعامل مع انسان يحمل معه ثبات الحجة وقرار الحكم ..
وهذا يعني كذلك ان لا نستجيب لـ "الطاسة الفارغة كثيرة الصوت" فالصائت من البشر والكثير الحديث عن نفسه ، الذي يحيطها بالضجة شبيه بذلك الوعاء الفارغ الذي يلقي ضجة حال سقوطه .. وهو الامر الذي يكشف عن الفراغ الضاج المقترن به ..
وعينه المثل "يشعر الناس بالحسد نحو كل شيء ما عدا العاقل غير محسود" ذلك ان العقلاء في المجتمع قلة نادرة من البشر الذين لهم القدرة على اعتماد الحكمة سبيلاً الى مسرحياتهم العملية ، فيما الكثرة لا يشغلهم سوى مراقبة الاخرين والعمل على هدم وافشال مشاريعهم وتشتيت افكارهم وتغيير مواقفهم وتغييب حضورهم الفاعل في الارتقاء بالمجتمع من خلال عقولهم النيرة التي يوجهونها لهذا الغرض .
وينصح المثل المرء على ان : "لا تحكم على البطيخ من لونه" فاللون الخارجي قد لا يفصح عن الجوهر الداخلي للأشياء ، فالمظاهر خداعة ، والمحتوى غير المكشوف وغير المرئي للعيان ؛ قد يحمل معه جوهره وياقوته الثمين والبالغ الندرة .
ويورد د. السندي العديد من الامثلة الشعبية التي نتبين من خلالها التقليل من شأن المرأة وعدم الانصياع الى رأيها ويرى المثل "ثلاثة اشخاص لا عقل لهم ، منصاع لحكم امرأة ، ومسافر وحده ، ورجل يدخن ويتسلق مرتفعاً" ومع اننا نجد المقارنة غير سليمة وغير منسجمة مع بعضها ؛ لا نعتقد في الوقت نفسه ان حكمة امرأة عاقلة متأنية قد تكون اكثر سداداً وحكمة ودراية من رجل تتغلب عليه الاهواء وتسلبه الرغبات منطق العقل .
كذلك نجد ان : " امرأة عاشت على ارغفة الازقة لن تنسجم مع ذوي النعيم " فالتعليم بمقدوره ان يصير الفاقة وحتى الرذيلة ويدفع بهما الى العفة ومن ثم الى احترام النعيم الذي قد تواجهه المرأة في مستقبلها ، ولا يصح ان نعمم تجربة معينة لنعدها حالة عامة نتعامل على وفقها .
كما ان وجود " رجل تحكمه امرأة لن يبيض وجهه في الدنيا " اعمام غير عقلاني فالمرأة كائن يمكن له ان يتصرف بعقلانية تامة لا تغلب عليها العاطفة التي عرفت بها المرأة ولها القدرة على مواجهة المصاعب والمشكلات والعمل على حلها بروية كما الرجل الحكيم من دون وجود فوارق بين جنس وآخر .
ومنطق " إذا ملكت النسوة مقاليد الامور فما من ارض تشيد ومن قرية تعمر" ولو صحت (حكمة) هذا المثل لاطلقنا حكماً لا يملك قدراً من الانصاف والحقنا الضرّ بنصف (المجتمع) وحولناه الى مجتمع معطل عن الاجتهاد والدراية وقفلنا فيه اية صورة من صور العطاء والابداع ووضعناه في خانة الجهل والكسل ..
هذه الامثلة التي يوردها كتاب د.السندي ؛ يعتمدها المؤلف بوصفها من المتداول ، من دون أن يسجل موقفه أو مناقشته لها وهي ليست مهتمة بالتأكيد ولكنها مهمة قارئ مجتهد يريد ان يصحح الاعمام غير المناسب ، وينشر المثل السائر الذي من شأنه الوصول بنا الى الحكمة البليغة والمنظور العميق .. وفي مناقشتنا لعدد من الامثال الواردة في الكتاب ، انما نريد الوصول الى حقيقة ان مانعده مثلاً متداولاً على الالسنة ،قد يكون معطلاً في حاضرنا الراهن ، وقد تعطله وتغيبه التجارب والحقائق المادية الملموسة ..
ونتوجه الى حقل آخر من الامثلة التي تصقلها التجارب والمحن مثل " مائة حكيم لا يعرفون قدر ما يعرف المتألم" ذلك ان المتألم هنا يحس بعمق الالم اليقظ والمتحرك في اعماقه ، فيما الحكيم يتعامل مع الظواهر والحالات محتكماً الى تحليلاته العقلية ورؤيته المعرفية .
و" الصخور الضخمة لا تستطيع الخلاص من الاحجار الصغيرة " فتلك سنة من سنن الطبيعة التي أوجدت على البسيطة صخوراً تشكل كتلاً ضخمة صلبة والى جانبها احجار صغيرة تعايشها وتواجه ظروف الزمان معها ولها القدرة على مضايقة تلك الصخور على الرغم من القوة والثبات اللتين تتصف بهما .
وفي المثل القائل :" سل ولا تخف" توجه سديد للوصول الى حقائق الامور حتى لا يبقى الانسان غفلاً عن المعرفة ، جاهلا بما يدور حوله .. فالسؤال وعي ورغبة صادقة لا تخشى ان تعبر عن جهلها وعدم درايتها في أمر ما لتسأل عنه .. بدلاً من الاحتفاظ بجهلها .
و "الصائغ اعرف بقيمة الذهب" دعوة الى الركون نحو المهنية والخبرات بوصفها القادرة وحدها على تحديد قيم وفاعلية الاشياء .
وفي توجه تربوي رصين نرى ان : " من تعلم مع الحليب لن ينسى في المشيب" وهي دعوة الى اخذ اطفالنا بالتربية وهم صغار حتى ينشأوا على قيم نبيلة ووعي سليم ، ذلك انه ليس من المقبول ابداً : " لن يبقى الخروف في الحضيرة دائماً " ولابد ان يتغير ويشهد تحولات جديدة مع مرور الايام واكتساب المعرفة والتعايش مع الاخرين والخروج من ثم الى عوالم جديدة وهذا يعني ان " كل حجر له قيمته في الدار " من دون تهميش او اهمال لأحد فلكل دوره ومسؤوليته ومعرفته على وفق درايته بهذا الامر او ذاك ..
مع علمنا ان " هناك فتى يصير زهرة أبيه وآخر يصير شوكة في عين أبيه" وهناك من : " يحمل الولد سلاح ابيه وتغزل البنت بمغزل امها " لكن الحكمة تجيء من : " اسرة بلا شخص كبير يحل فيها الخراب " و " ان ضعفت الشجرة ضعف ظلها " .
كل هذه الامثلة تؤكد على التربية والتعليم ودورهما في الارتقاء بالابناء عقلياً ومهنياً ومعانقة لحياة لاحقة ..
خلاصة .. نتبين ان (جمهرة من الامثال والحكم الكوردية) التي جمعها وترجمها وعلق عليها د. بدرخان السندي ووضعها جميعاً تحت عنوان " "الحكمة الكوردية" تحمل معها مؤشرات ودلالات واضحة ومميزات عميقة لطبيعة الشعب الكوردي شأنه شأن المثل القائل " الشعوب ينابيع دائمة " الشعب الكردي واحد من هذه الشعوب التي تجذرت الحكمة في مسيرة حياتها وتفاعلت مع عقلاء القوم ونبلائهم وتجارب الناس عبر حياتهم اليومية لتشكل في مجملها " الحكمة الكردية " التي لا يمكن فصلها عن حكم كل الشعوب الحية التي تعتمد العقل والحكمة والروية في مسيرة حياتها وصولاً الى التطور والازدهار والحياة الافضل .
من هنا نجد في كتاب د . السندي جهداً معرفياً بارزاً جديراً بأن يكون بين ايدينا وايادي ابنائنا بوصفه خلاصة تجارب ووعي شعب حي تمكن من بناء ارادته بنفسه وتحقيق قدر كبير من أمانيه وطموحاته المنشودة ..
وهو في مسار مستمر على هدى حكمة تعتمد العقل سبيلاً لمستقبل افضل .
ـــــــــــــــــــــ
*الحكمة الكردية / جمهرة من الامثال والحكم الكردية ـ جمعها وعلق عليها : الدكتور بدرخان السندي ـ دار الثقافة والنشر الكردية ـ بغداد 2011