شروط نزعة أممية جديدة

بيار روسيه
2011 / 11 / 5 - 22:12     


أقلعت العولمة النيوليبرالية على نحو حقيقي مطلع سنوات 1990، مباشرة بعد انفجار المعسكر السوفيتي. و كانت إطارا لهجوم قوي بشكل مرعب على حقوق الشعوب، الديمقراطية والاجتماعية. لكنها أبانت أيضا عجزها عن تأمين نظام عالمي جديد مستقر، مفضية منذ 1997-1998 إلى أول أزمة مالية كبيرة، مركزها آنذاك آسيا. ومذاك توالت الأزمات حتى منعطف العام 2008، لما انتقل مركز ثقلها إلى بلدان الشمال – الولايات المتحدة الأمريكية أولا ( قروض الرهن العقاري عالية المخاطر Subprime )، ثم الاتحاد الأوربي حاليا.

ويكتسي انعطاف 2008-2011 أهمية بالغة من زاوية نظر الدينامية (الكامنة) للمعارك الشعبية على صعيد دولي. بدءا من متم سنوات 1940، كانت البرجوازية نجحت في إضفاء استقرار دائم على حكمها بالشمال، متخطية بوجه خاص أزمة 1968-1974، التي كانت مع ذلك جدية بالولايات المتحدة (عواقب حرب الهند الصينية)، وفي أوربا ( أزمة ديكتاتوريات الجنوب ، الإضراب العام في فرنسا). وكان الجنوب يعتبر آنذاك "منطقة العواصف" في عالم مشدود بالحرب الباردة. هذا بالأقل حتى الانحدار المعمم لنضالات سنوات 1980 (هل يمكن القول إن نهاية نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، مطلع سنوات1990، يختم هذا الفصل التاريخي؟).

في طور أول، ساعدت العولمة النيوليبرالية، بطابعها الكوني و عنفها، على بزوغ نزعة أممية جديدة. والجديد فيها أنها أعطت قوة لتطلع كان فقد المصداقية بعمق بسبب الستالينية بوجه خاص. و هو جديد أيضا لأن النضالات كانت، في الشمال و الجنوب و الشرق و الغرب، تكافح نفس المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي و البنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية) التي تطبق السياسات النيوليبرالية ذاتها في العالم برمته. كانت الظروف الاجتماعية مختلفة جدا حسب البلدان، لكن منذ 1996 (ضد مجموعة السبعة الكبار في فرنسا، و المؤتمر الزاباتي في مكسيك)، بدأت الحركات التقدمية تؤكد على وجود قاسم مشترك في كل أشكال مقاومة النظام النيوليبرالي.

و اليوم، يتدهور الوضع الاجتماعي بالشمال تدهورا نوعيا. و يتمزق النسيج الاجتماعي على نحو بالغ العنف (اليونان)، و تدريجي (فرنسا). وبوجه الاتساع الهائل للفقر، و تفكيك الخدمات العامة (منها التعليم و الصحة)، لم يعد المطلوب دفاع عن الحقوق المنتزعة بنضالات حقبة ما بعد الحرب، بل استعادتها. وهذا وضع يتناغم مع الحملات المنظمة بالجنوب مثل Reclaim people’s dignity في آسيا.

و تدريجيا، ينبعث في البلدان الرأسمالية «المتطورة" ما كان مميزا لبلدان العالم الثالث. وهكذا أصبحت مسألة الديون مركزية بدول الشمال، طارحة نفس المشاكل السياسية التي بالجنوب. و يجري استعمالها لتبرير هجوم عام على الحقوق الديمقراطية و الاجتماعية. وهي لامشروعة بعمق بنظر الشعوب، لأنها نتاج مباشر للسياسات النيوليبرالية التي قلصت موارد الدول من كثرة ما وهبت كبار مالكي الأسهم من هدايا. لقد باتت إشكالية الديون تطرح بدول الشمال، مثل الجنوب، مسألة وقف السداد و الافتحاص المواطن و الإلغاء.

كما أن عنف الأزمة يفسر التغير الحاصل في دينامية التعبئات. وطبعا لم تتوقف قط النضالات على صعيد وطني. لكن تبلورت، بدءا من سياتل (1999)، حركة العولمة البديلة بمناسبة القمم الدولية لمنظمة التجارة العالمية و مجموعة الكبار G7/G8-G20 ... و تظل تلك القمم المضادة مواعيد سياسية هامة، لكنها الإقبال عليها تراجع. وعلى نحو دال، توجهت حركة الساخطين باسبانيا نحو حكام البلد أولا. و كذلك بالمنطقة العربية، تظل القضية الفلسطينية في خلفية أزمة الأنظمة، لكن كل انتفاضة تقوم ضد ديكتاتورية البلد المعني.

لقد دخلنا دورة نضالات جديدة. وهي تستجيب لأزمة معممة للسيطرة الرأسمالية، تتغذى من عدم استقرار مزمن للعولمة و من عواقب تدمير البيئة. يمكن القول إننا في بداية حقبة جديدة حيث كل شيء ممكن- لكن ربما من الأفضل قول إن لا شيء مستحيل. فوضع اليسار الجذري- اليسار الاجتماعي و اليسار السياسي- ليس سهلا بأي وجه.

و إن الوضع في تونس ومصر يوضح هذه الحالة المتسمة بالمفارقة. فعلى عكس التوقعات، لم تجر الانتفاضة الشعبية في هاذين البلدين تحت راية الدين بل حول مسائل اجتماعية (البطالة...) و ديمقراطية (الاستبداد...)، وكان فيها لأجنحة من الحركة العمالية دور محرك، مع مشاركة نسائية دالة. و عاد أقصى اليسار إلى الظهور. لكن فور طرد الحكام المستبدين من السلطة، استعادت القوى المحافظة المبادرة، بدءا بالإسلاميين (الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة في تونس ).

و في أوربا، يغذي عنف الأزمة سخطا حقيقيا ضد الرأسمالية، لكنه لا يفضي (بعدُ) إلى تقوية اليسار الجذري. و التطورات متباينة الأشكال- فشل انتخابي قاس لكتلة اليسار في البرتغال، نجاح التحالف الأحمر-الأخضر في الدانمرك- لكن ثمة بالأحرى،بوجه الإجمال، انزياح سياسي نحو اليمين، بما في ذلك مكونات حركة العولمة البديلة التي باتت أكثر اعتدالا.

الواقع أن أقصى اليمين هو المستفيد لحد الآن من رفض النيوليبرالية، لدرجة وصول تشكيلات ذات ميول فاشية إلى السلطة في المجر. و تلجأ البرجوازيات الأوربية، أكثر من ذي قبل، إلى سياسة "فرق تسد". و تواجه قوى اليسار مصاعب في مواجهة هذه السياسة التي تساعد تعزز اليمين المتطرف المعادي للأجانب و العنصري، ما يفسر عنف الهجمات ضد المسلمين و الغجر (سكان مسيحيون رحل).

وتعود المصاعب التي يعاني منها اليسار الجذري إلى أسباب عميقة جدا. فمنعطف سنوات 1990 مطبوع بتغير حقبة (نهاية الحرب الباردة، العولمة الرأسمالية)، و بقطع في هوية اليسار(أزمة مرجعية اشتراكية)، وتجدد أجيال. هذه العناصر مجتمعة خلقت هوة بين التجربة النضالية لسنوات 1960-1980 و تجربة "جيل سياتل". و الأرجح أن هذه الهوة أقل عمقا في آسيا، حيث نجد أقصى يسار اشد حيوية مما في أوربا، لكنها مع ذلك تمثل سمة للوضع العالمي. و تتجلى بوجه خاص فيما يتعلق بمسألة التنظيم، فخلال الحقبة السابقة، كان كل توسع وكل تجذر للتعبئات يفضيان إلى موجة انضمام إلى النقابات و الحركات و الأحزاب التقدمية. و غالبا ما يكون الأمر خلاف ذلك حاليا. و يرى البعض في " التنظيم المائع" تقدما. و التقدم بنظري غير ذلك، إنه في التعبير (المتفاوت) عن ثقافة نضالية أكثر احتراما لتنوع الحركات و استقلالها، وأكثر ديمقراطية. لكن الرفض الرائج للتنظيم الدائم يبدو مكمن ضعف خطير فيما النضالات الطبقية تشتد.

وفضلا عن هذا، لم يسبق للحركة العمالية ، فيما يخص أوربا الغربية، أن شهدت منذ متم سنوات 1940 وضع أزمة اجتماعية معممة. هكذا، ومنذ مطلع سنوات 1990، كانت مسألة تنظيم العاطلين لأمد طويل مسألة جديدة(كما ببعض بلدان آسيا: اليابان، كوريا الجنوبية ...)، ما أدى إلى تردد كثير في البحث عن سبل. ولا يقتصر الأمر على الانشطار السياسي الكلاسيكي بين معتدلين وجذرين، فكل "ثقافة" الحركة النقابية و "درايتها" و أنماط اشتغالها باتت اليوم غير ملائمة.

قد تكون تجربة عقد 1968-1978 الراديكالية مفيدة اليوم، لكن الأجيال المناضلة الراهنة تعتبرها منتمية إلى ماض انقضى.

لا يجد تفاقم الأزمة الاجتماعية تعبيرا له على نحو آلي في تعزز اليسار الجذري. و تدل مصاعب حزب مناهضة الرأسمالية الجديد في فرنسا على ذلك. لكن نقد النظام القائم يواصل انتشاره، و يتضح بجلاء الطابع المعادي للديمقراطية في الديمقراطيات الغربية القائمة فعلا : اشتغال المؤسسات الأوربية، املاءات مفروضة على الشعب اليوناني – من ثمة شعار حركة الساخطين "من أجل ديمقراطية حقيقية ، الآن"، كما أن الروح الأممية لم تنطفئ و هذا مشجع جدا.

جاء مثال الاعتصام في الميادين من مصر. و انتشر في اسبانيا و اليونان و الولايات المتحدة- ثم أعطى يوم تعبئة 15 أكتوبر التي لقيت صدى في لاهور و هونغ كونغ، رغم أن " الاعتصامات" كانت رمزية أكثر مما هي جماهيرية. كان يوم 15 أكتوبر أكبر يوم نضال عالمي منذ يوم 15 مارس 2003 ضد الحرب المعلنة على العراق ،مع أن هذا الأخير كان جماهيريا فعلا. يتعرف الساخطون على بعضهم البعض، ويطلقون نداءات دولية ، ويتعلمون من بعضهم البعض.

تعلم البعض من البعض الآخر... هذه ربما إحدى مفاتيح ضمان تعزز اليسار الجذري. لدى الفرنسيين الكثير مما يمكن تعلمه من اليونانيين، لأن اليونان ، من أوجه عدة، هي مستقبل أوربا. و بوسع حركات الشمال تعلم من الجنوب، في أشكال النضال (إضرابات على صعيد ترابي، و اعتصامات في الأماكن العمومية...)، و برنامجيا ( الإجابة على مسألة الديون...) و التنظيم الاجتماعي ( حيث النسيج الاجتماعي ممزق...)، و النضال ضد سياسات التقسيم (راجع تجربة الهند بوجه الانقسامات المركبة، طبقية و فئوية و دينية ...).

كثيرة هي الأفكار القادمة اليوم من الجنوب لتغذي نزعة أممية جديدة !

تعريب : المناضل-ة * كتب هذا المقال ليصدر في العدد المقبل من مجلة أماندلا ! بجنوب أفريقيا