الرسالة الثقافية


أمير الحلو
2011 / 10 / 30 - 11:21     

لم يعد إيصال الرسالة الثقافية سهلاً كما كان في الماضي، لأنه كان يعتمد سابقاً على مجموعة قيم ونظم أخلاقية فقط، لا يلعب التكنيك فيها دوراً فاعلاً ومؤثراً، أما في عالم اليوم وفي سيادة التكنلوجيا الحديثة ومستلزماتها وأساليب واثمان الحصول عليها، فأن كشف واشاعة العلاقة التكنيكية مطلوب للتعبير والايصال بالشكل الثقافي المطلوب.
هذه الاسئلة كانت محور تفكير الانسان منذ نشأته، لأنه يبحث دائماً عن المجهول الذي لا يستطيع عقله بحكم النسب التي تجعل الحواسات تعمل ضمن مجالاتها العليا والدنيا، ومهما تقدمت التكنلوجيا والعلوم فأن العديد من الاجابات تظهر، ولكن العديد من الاسئلة الجديدة تظهر أكثر، لذلك يبقى الأنسان في حالة تساؤل دائم، ولكن عليه أن يلبس لبوس عصره بأزيائه ولغته وتقنياته وقيمه الاخلاقية والاجتماعية التي تتحكم فيها العوامل الاقتصادية بنسب كبيرة.
تحتاج هذه المراكز الى رسالة انسانية مفهومة لدى الأنسان ليستطيع التعبير عنها بالكتابة أو الأخراج أو التمثيل أو الموسيقى والغناء.. الخ، وجميع الرسالات عبر التأريخ تعتمد على الصراع الدائم بين الخير والشر لذلك فأن طاقة التعبير يجب أن تكون مؤمنة بالرسالة التي تؤديها حتى لو قام الممثل باداء دور الشر فأنه يقصد من ذلك تقبيح الشر بحثاً عن الخير، وبمقدار ما يعطي للجسد طاقته للتعبير عن أية حالة إيجابية او سلبية بأقصى ما يمكنه وبالوسائل التكنيكية المتاحة فأنه يكون قد حقق (صراع المهارات) لصالح دوره.
ان التسارع التكنيكي في ايقاعات الحياة ومتطلباتها المتصاعدة يتطلب من الأنسان إرتداء أكثر من قناع في اليوم الواحد لمواجهة كل حاجة على حدة ومواجهة مجموعة الحاجات مرة واحدة، وتعتمد المهارات على طبيعة التحديات والحاجات واساليب مواجهتها سواء للتجاوب معها أو رفضها أو التعامل معها بشكل انتهازي يجنب الأنسان مخاطر التحدي خصوصاً اذا كان من قوة غاشمة. ولاشك ان هذه الاقنعة تمثل مهارات خاصة تتفاوت من إنسان لآخر حسب وعيه وادراكه وجبنه أو شجاعته، وموقفه (الطبقي) في المجتمع، والوظيفي في الدولة.
بما أن الأنسان هو (حيوان اجتماعي) لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين فهو بحاجة الى قراءة سلوك الآخرين ونواياهم ليستطيع الحصول على حاجاته المختلفة (الغذائية – السكنية – الامنية – الاجتماعية (زواج – طلاق والخدمية الأخرى) ومن دون قراءة سلوك الآخرين ونواياهم لا يستطيع الأنسان إيصال (أسلاكه) المادية والمعنوية مع الآخرين لتلبية حاجاته.
الأنسان مجبول في الأساس ومنذ الخلق على الفطرة ولكن تطور وسائل الانتاج وانعكاساتها الايجابية أو السلبية على العلاقات الاجتماعية هو الذي دفعه الى (الجدّية) في مواجهة متطلبات الحياة، لذلك فأن النزوع الفطري نحو اللعب والمحاكاة هو حالة كامنة في الدواخل الأنسانية تبرز عند الحاجة وحسب الموقف المطلوب وطبيعة التحديات، ولا أعتقد ان الغرض من ذلك هو التسلية من أجل اللهو أو من أجل أختبار أجهزته، وأنما لغرض (التلّون) حسب ايقاعات الحياة بجدها وهزلها.
أعتقد ان المهارات المكتسبة هي انعكاس لحالة الفرد أو المجتمع من النواحي الاقتصادية والدينية وطبيعة الأنظمة السياسية ومجموع منظومة القيم التي تتحكم بحركة المجتمع، وان المهارات الادائية هي توظيف لمقدار (قدرة الفرد) على استيعاب كل تلك القيم والتعبير عنها بحركاته الايقاعية الخاصة سواء كانت بشكل منفرد أو جماعي ضمن (نشيد عام) له نسيج واحد.
ان الانسان يحتاج الى مهارات وآليات خاصة ليجد له موقعاً في (رسمة الحياة) وتدافع الجميع للوصول الى الصورة المرئية والمسموعة بما يخدم اهدافهم الخاصة أو الاهداف العامة اذا كانوا من المؤمنين برسالة خاصة. وذلك ما اسميه بـ (الحضور) أو فرض النفس على الآخرين بأساليب شخصية أو تكنيكية متطورة تتناسب وايقاعات العصر. وفن الاداء مطلوب للتعبير عن تلك الحالة وإلاّ بقي الأنسان مركونا في زاوية النسيان والاهمال.

أفضّل أن أبقى مسيطراً على حواسي جميعها في مواجهة المواقف المثيرة، وذلك لأن التطور التكنيكي والعلمي وطبيعة العلاقات الاجتماعية في العصر الراهن تتطلب الوعي الكامل (وفتح جميع الحواس) باقصى طاقاتها للتعامل مع جميع المواقف بأسلوب عقلاني قد ينعكس ايجابياً على الحالات العاطفية والحسية.
يعتمد الجواب على (من أنا؟) فأذا كنت صاحب مصالح مادية أو معنوية مع الآخرين (بشراً أو سلطة) فأن البعض على استعداد لمسايرة كل شيء يصدر عن اولئك الآخرين ومهما كانت طبيعته حرصاً على مصالحه، وحتى على وجوده أحياناً، أما اذا كان السؤال (شخصياً) فأنني أرفض هذه المسايرة لسبب واحد هو انني صاحب مبادىء وقيم واذا أصطدمت مع الآخرين ولا أسايرهم فأنا حسب مقولة كارل ماركس (ان البروليتاريا لا تخسر سوى أغلالها).
نعم، لأن جميع هذه المهن وغيرها تحتاج الى (فن الاداء) لايصال الرسالة خصوصاً في عصر يحتاج الى مزاوجة المهارات الشخصية مع التكنيك الحديث واظهارها بطريقة ممتعة وجذابة وإلاّ فأنها ستكون مثل البضاعة (البايرة) التي لا تجلب النظر اليها.
كلا فالموهبة لا تكفي وانما تحتاج الى اسلوب ناجح للتعبير عن الموهبة مهما كانت طبيعة مادتها.
لاشك أنها مهارة مكتسبة سببها التربية الأولى (النشأة – العائلة – البيئة الاجتماعية) مع المعرفة والثقافة ودرجتهما، خصوصاً اذا اجتمعت مع كل ذلك (الشكل، قوة الشخصية، والقدرة في التأثير بالاخرى، والحالة العفوية تؤدي الى نتائج عفوية فقط.
هذا صحيح ولكنه يعتمد أيضاً على ما لديك من مواهب وقدرات حقيقية وليست زائفة، وان انجذاب الآخرين اليك حقيقي وليس تملقاً، أي أن النجاح يعتمد على ما لديك اولاً ثم انجذاب الآخرين الى ما لديك.
باعتقادي ان جذب انتباه الآخرين يعتمد على ما تطرحه وتؤديه، هل له علاقة بحياتهم ومشاكلهم وآمالهم والامهم وأفراحهم، أم انها ميتافيزيقية أو (متملقة) لمراكز القوة المعادية لمصالح الآخرين؟
ان المهارة هي الاسلوب الصحيح للتعبير عن مشاعر أغلبية المجتمع وان النجاح في الحياة والمهنة يعتمد على مقدار القرب أو البعد عن مشاعر الآخرين وأساليب التعبير عنها.
يحدث ذلك عندما يدرك الأنسان مركز الضعف فيه، فالبعض يُعجب بسلوكيته ويستمر فيها حتى لو كانت تأثيراتها سلبية عليه وعلى الاخرين، والأنسان السوي هو الذي يضع أصبعه على مركز الضعف فيه سلوكيته ويعمل على تحفيزه ليكون مؤهلاً لتلافي الضعف وأسبابه.
نعم، على الأنسان أن يراجع باستمرار (مسيرته) وأن يعيد حساباته بالشكل الذي يضمن توازنه وإبعاد تأثيرات الآخرين السلبية عليه.
ان عملية تقديم النفس ليست آلية إلاّ عند المعتوهين واللاأباليين، أما العقلاء فهم يستثمرون مواهبهم الذاتية والمكتسبة بالتدريب في تقديم أنفسهم للآخرين.
نعم لأن تطور ايقاعات العصر المتطورة، تتطلب مهارات اضافية ومتطورة أيضاَ، وأن الوقوف عند حالة ما حتى لو كانت متقدمة فأنها تصبح رجعية ومتخلفة بمرور الزمن إن لم تواكب التطور.
نعم يحتاج الأنسان الى كل ذلك ولكن (كمكملات) لشخصيته وليست كحالة منفردة ومعزولة عن الشخصية بامكاناتها العقلية والتعبيرية وعلاقاتها الاجتماعية.
نعم على أن يكون مختصاً ويملك قدرات أكثر مني، وان يكون مخلصاً في دعوته.
الممثل كما هو معروف ليس معزولاً عن النص، الاخراج، الاضاءة، الموسيقى، الديكور.. الخ فأن اجتمعت كلها بشكل ينسجم مع قدراته الذاتية على الأداء الجيد فأنه يستطيع اختراق دفاعات المتلقي، وقد شعرت بهذه الحالة وأنا ارى أداء بعض الممثلين العراقيين والعرب على المسرح، واتمنى ان أعمّق من اتصالي للتلقي وليس للحماية.
قد استطيع معرفة سلوكه الآني من خلال ذلك، ولكن سلوكه المتوقع يعتمد على معرفتي الكاملة بماضيه وحاضره وتجاربه السابقة وأساليب تعبيره عن نفسه في اللحظة الحاضرة وما بعدها.
هذا سؤال طرحه الأنسان على نفسه وهو يعيش مجتمعات (المشاعية البدائية – العبودية – الاقطاع – البراجوازية – الاشتراكية) وهو يطرحه الآن في ظل مفاهيم العولمة وصيرورة العالم الواسع قرية صغيرة. وقد عبّر الأنسان من خلال الماضي والحاضر عن طبيعة مجتمعه الخاصة مع تأثره بحكم الاطلاع السمعي والبصري بالمجتمعات الآخرى خصوصاً التي تطورت أكثر منه، ولكن يبقى المجتمع الخاص هو المدرسة الأولى في التدريب والحضور الخاص.