الأزمة الاقتصادية العالمية والمقاومة الاجتماعية

توم برامبل
2011 / 10 / 30 - 09:23     


بقلم:
توم برامبل
30أكتوبر2011
ترجمة:

ضي رحمي

أحمد غمراوي

تحرير:
أشرف عمر

الناشر:
منظمة البديل الاشتراكي - أستراليا

بعد الانهيار المدوي الذي ضرب الاقتصاد العالمي في عامي 2008 – 2009 والذي أدى إلى تضاؤل الفرص أمام الصناعة والتجارة والاستثمارات والعمالة فيما يُعد أسرع معدل للانهيار منذ "الكساد العظيم" عام 1929. ومن الملاحظ أنه، وبحلول العام 2010، بدأت الرأسمالية العالمية وحكومات الدول الكبرى في تنفس الصعداء بتوصلها إلى طريقة لإنقاذ البنوك من خلال بعض الإجراءات المشجعة وتخفيض سعر الفائدة. وبدا الأمر وكأن تلك الإجراءات قد أنهت الأزمة المالية العالمية وتمكنت من إنعاش الاقتصاد العالمي وبعثه للحياة من جديد. حيث انتعشت التجارة العالمية أخرى، وشهدت اقتصاديات الدول الصناعية السبع الكبرى نمواً بمعدل حوالي 3 – 4%. وشهد سوق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية ارتفاعاً في الأسعار بعد وصوله لأدنى معدلاته خلال الأعوام السابقة، وتمكنوا ببطء من استعادة ثقة المستهلك، ووببطء مماثل حققت مبيعات العقارات الجديدة أرباحاً، كما ازدادت مكافآت مديري التنفيذ العاملين بـ "وول ستريت"، وهو الواجهة الرئيسية للسوق الأمريكي حيث توجد به بورصة نيويورك والكثير من الشركات المالية الأمريكية.

لكن هذا الانتعاش لم يطل الطبقة العاملة. لقد استغل أرباب الأعمال الأزمة العالمية كذريعة لخفض الأجور وتقليص العمالة. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، تضاعفت البطالة من من 5 إلى 10%، ولازالت في هذا المستوى المرتفع حتى بعد تلك الانتعاشة الأخيرة. كما أدت الزيادة الكبيرة في أسعار النفط والسلع الأساسية، في نهاية عام 2010، إلى ارتفاع أسعار المستلزمات المنزلية، وارتفعت معدلات الفقر. وفي أوروبا لم يكن الأمر أفضل حالاً، فهناك 25 مليون عاطل عن العمل، حيث ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب لتصل إلى حوالي 20% أو أكثر.

ويُعد الانتعاش الاقتصادي بين عامي 09 – 2010 ضحلاً للغاية، حيث كانت المحركات الرئيسية للنمو، وهما الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار، تستهدف محورين فقط. وشهد النمو الاقتصادي للدول الصناعية السبع الكبرى تراجعاً ربع سنوي خلال عام 2010. وتحقيق نسبة نمو 3% والتي شهدها الاقتصاد الأمريكي في عام 2010 كان تراجعاً شديداً بالمقارنة بنسبة نمو 8% سنوياً، والتي استطاعت الولايات المتحدة تحقيقها بعد تغلبها على الانهيار الاقتصادي الكبير في عامي 1934 و 1935، هذا بخلاف أعلى نسبة نمو حققتها وكانت 14% والتي سُجلت في عام 1936. ووفقاً لبيان صحفي صدر في أواخر أبريل 2011، يؤكد أن الاقتصادات المتقدمة في طريقها للتراجع مرة أخرى. وفي الربع الأول من العام الحالي، نما الاقتصاد الأمريكى بمقدار نصف في المائة، في حين لم تحقق بريطانيا سوى 0.4%.

الصدمة والترويع

والآن، وفي نفس الوقت الذي تعاني فيه الدول الاقتصادية المتقدمة من الارتباك والترنح، تتواصل معاناة العمال، وتواصل الحكومات إطلاق العنان لخطط التقشف شديدة الوحشية. وتجلت بوضوح تبعات الانهيار الاقتصادي الكبير والتي تمثلت في عجز ضخم في ميزانية دول مجموعة العشرين، حيث يُقدر هذا العجز بمئات المليارات من الدولارات، مما أدى بالتالي لارتفاع الديون الوطنية. ويتعمد الرأسماليون وحكوماتهم الآن استخدام مصطلح "أزمة الديون" المزعومة تلك من أجل الدفع بقوة في إجراءات تخفيض الإنفاق الحكومي وعلى نحو صادم ومفاجئ بهدف إرباك الطبقة العاملة وإحباط أي محاولة للتمرد من جانب العمال.

لقد اتخذت الحكومات الأكثر ضعفاً على المستوى المالي، مثل البرتغال وأيرلندا واليونان، إجراءات تقشف شديدة القسوة. وجاء ذلك كنتيجة مباشرة لعجز تلك الحكومات عن تسديد قروض البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، والتي اضطروا للجوء إليها بالأساس بعد أن أدى تهافت المضاربين بالبورصة إلى رفع سعر الفائدة المستحقة على السندات الخاصة بهم. ولأن تلك القروض لم تكن شكل من أشكال الصدقة من قبل البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي، تم تقديم المساعدات الخاصة بحالات الطوارئ فقط لضمان أن تلك الحكومات ستقوم بتسديد الأموال المستحقة لبنوك أوروبا والولايات المتحدة، والتي بلغت في مجملها 40 تريليون دولار. وفي حالة عجز واحدة أو أكثر من هذه الحكومات عن السداد، فإن عقود تلك الديون التى لدى البنوك ستصبح أوراق عديمة القيمة.

أما الحكومات الأكثر قوة في أوروبا وأمريكا الشمالية، فلديها أيضاً قروضاً ضخمة تماماً كتلك القروض المستحقة على الدول المسماة بدول "الخنازير". هذا المصطلح الاقتصادي اُستخدم من قبل محللي السندات الدوليين والأكاديميين والصحافة الاقتصادية الدولية وذلك للإشارة إلى دول البرتغال وإيطاليا واليونان واسبانيا، هذا المصطلح "PIGS" -والذي يعني باللغة الإنجليزية "الخنازير"- تشّكل بجمع أوائل حروف كلمات كل بلد. ويُذكر أن بعض وسائل الإعلام، كهيئة الإذاعة البريطانية، كانت قد منعت استخدام هذا المصطلح لاعتباره مصطلحاً مسيئاً ويتضمن تلميحات عنصرية.

لكن، وبالرغم من كون حكومة الولايات المتحدة وبعض حكومات أوروبا الأقوى اقتصادياً حكومات مدينة، إلا أنها لا تواجه أي تهديد في الوقت الحالي، وذلك لقدرتها على جمع الأموال من أسواق رأس المال. هذا بخلاف أن "أزمة الديون" تلك أصبحت وسيلة للضغط السياسي في تلك البلدان بشكل أقوى من البلدان ذات الأوضاع غير المستقرة كالبرتغال واليونان على سبيل المثال.

في تلك الدول تُستخدم "أزمة الديون" من قبل الطبقات الرأسمالية للتحايل من أجل الحصول على أموال الخدمات الاجتماعية الحكومية دون وجه حق. فالحكومة الأمريكية على سبيل المثال، يمكنها خفض الدين العام (1) بسهولة إذا ما أعادت العمل بفرض الضرائب على الأغنياء ورجال الأعمال، أو بتخفيض ميزانية جهازها العسكري الضخم (2) ، لكن رجال الأعمال لن يقبلوا بهكذا حل، مفضلين تحميل عبء تلك الأزمة على عاتق الطبقة العاملة.

وهكذا، سواء كانت أزمة الديون تلك "حقيقية" أو مفتعلة، وهو الأمر الأغلب، فإن النتيجة واحدة: الحكومات تفرض تدابير تقشف صارمة في بلد تلو الآخر، حيث الاستقطاع من رواتب العاملين في القطاع العام، واستبعاد وظائف القطاع العام وتجميد المعاشات، علاوة على تخفيض برامج رعاية المسنين، وتقليص مخصصات البطالة، وحظر التمويل على الأدوية، وزيادة الضرائب غير المباشرة (الضريبة على القيمة المضافة)، وبالطبع كل ذلك بجانب بيع المؤسسات العامة.

وشهدت بلدان "الخنازير" أكثر خطط التقشف ضراوة. في اليونان على سبيل المثال، انخفضت الأجور بنسبة 20%، وفي أيرلندا ارتفعت نسبة البطالة من 4% قبل الأزمة الاقتصادية حتى وصلت الآن إلى 15%. وطالت الأزمة أيضاً عمال الدول الأوروبية الغنية، فأعلنت الحكومة البريطانية تخفيض الميزانية العامة بمقدار 81 مليار جنية استرليني في أكتوبر 2010، والذي يعد أكبر تخفيض في الإنفاق االعام منذ عام 1922. كما تضاعفت الرسوم التي يدفعها الطلاب لثلاثة أضعاف. ولقد لحقت كل من الحكومة الألمانية والفرنسية بتلك المنظومة، ومع نهاية مارس 2011 أعلن الأتحاد الأوروبي عن ما سمي بـ "ميثاق اليورو"، وهو الميثاق الذي يدعم المزيد من تدابير التقشف في أرجاء القارة.

وفي الولايات المتحدة، أعلنت إدارة أوباما في أبريل من هذا العام خفض الإنفاق في الميزانية الفيدرالية الأمريكية بمقدار 38 مليار دولار، كما أعلنت عن خطة لخفض الإنفاق الحكومي بنسبة 4 تريليون دولار على مدى العشر سنوات القادمة. وفي هذا الصدد فالولايات والحكومات المحلية من جانبها قامت بغلق المدارس ومراكز الإطفاء، كما خفضت أجور العاملين بالقطاع العام، وتم تسريح 150 ألف عامل على مدار الستة الأشهر الماضية وحدها.

أما نتائج كل هذه الإجراءات التقشفية في الميزانيات، فقد جاءت على عكس ما هو مطلوب تماماً في مثل تلك الحالة من الركود العميق، حيث أن النتيجة المباشرة لتلك الإجراءات هي خفض القوة الشرائية في تلك البلدان. وهكذا انخفض إجمالي الناتج المحلي في اليونان بنسبة 6.8% في عام 2010. وفي أيرلندا، انخفض بنسبة 1.6% في الربع الأخير من عام 2010، مسجلاً تراجعاً إلى 6% على مدى العامين الماضيين. أما بالنسة للاقتصاد البريطاني فقد شهد حالة من الثبات منذ سبتمبر 2010. وفي الواقع فإن أياً من خطط التقشف الوحشية تلك التي تلجأ إليها الحكومات الأوروبية المأزومة، لن تمكنها من تسديد ديونها. فعلى سبيل المثال، ستتلقى اليونان المزيد من الأموال بنهاية "خطة الانقاذ" والتي ستستغرق ثلاث سنوات، لتتراكم عليها المزيد والمزيد من الديون.

المقاومة والتصدي

نجحت سياسات "الصدمة والترويع" في بعض الدول. ولكن في العديد من البلدان فهي تواجه اليوم مقاومة شرسة. ويصف المفكر الاشتراكي جون مولينو أحداث العام الماضي، بما يشمل الثورات العربية، بـ" أضخم موجة لكفاح الطبقة العاملة وللنضال الثوري في الثلاثون عاما الماضية".

لقد أصبحت منطقة جنوب أوروبا معقلاً جديداً للمقاومة الاجتماعية، فالإضرابات العامة تهز أرجائها بصفة مستمرة: الإضرابات العامة المنتظمة في البرتغال وإيطاليا، 10 مليون عامل في إضراب عام في اسبانيا في سبتمبر 2010، علاوة على الإضرابات العامة التي لا تهدأ في اليونان (3). كان هناك أيضاً سلسلة من الإضرابات الضخمة في القطاع العام في فرنسا ضد تقليص المعاشات في سبتمبر 2010، وفي بلجراد انطلق 10آلاف من مدرسين وأطباء وفئات أخرى من العاملين بالقطاع العام في مسيرة حاشدة ضد خفض الإنفاق العام في مارس. يشارك الطلاب كذلك العمال والعاطلين في الكثير من المظاهرات التي وصل بعضها إلى احتلال الطلاب للأماكن العامة في بلدان مثل إيطاليا والنمسا واليونان.

قد نتوقع أن نرى الآن مظاهرات وإضرابات في الجنوب الفرنسي، نظراً للثقافة والتقاليد العمالية القوية للتظاهر والمقاومة. بالإضافة إلى انفجار المقاومة الاجتماعية في أماكن غير متوقعة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.

ففي أضخم موجة للإحتجاجات الطلابية منذ نهاية 1960، نظم الطلاب في بريطانيا أربع أيام للتحرك القومي في نوفمبر وديسمبر 2010، من مسيرات في الشوارع واحتلال للأماكن العامة ومصادمات مع قوات الأمن للاحتجاج على زيادة المصروفات الدراسية وإلغاء البدلات. وفي 26 من مارس، شارك نصف مليون عامل في مسيرة في لندن للاحتجاج على التخفيضات التي أقرها حزب المحافظين الحاكم. ثم جاء يوم 30 يونيو ليشارك المزيد من العاملين بأجر في الاحتجاج ضد خطط التقشف تلك.

وعلى صعيد آخر، تبدو الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة على ثقة تامة من أن الأمور سوف تسير في مصلحتها. ففي النهاية، استطاعت تقليص الأجور، وخفض الإنفاق على الصحة والتعليم، ورفعت مصاريف التعليم على مدى الثلاثين عاما الماضية بدون أدنى مقاومة. ومن الجهة الأخرى، تم القضاء على النقابات تماماً.

كانت الصدمة كبيرة بالنسبة لهم عندما استيقظ المارد العمالي ووقف على رجليه مرة أخرى، في ولاية ويسكونسن في فبراير الماضي. حيث احتشد عشرات الآلاف من العمال للاعتراض على محاولة المحافظ الجمهوري سكوت واكر لتجريد العاملين بالقطاع العام من قدرتهم على التفاوض وخفض الأجور والمعاشات للعاملين بالحكومة المحلية. احتل العمال ومؤيدوهم مبنى الكابيتول بالولاية لسبعة عشر يوما وأوقفوا عمل الحكومة المحلية بشكل كامل.

ولا شك أن الحكومات التي تضغط من أجل سياسات تقشفية تواجه اليوم أزمات سياسية متكررة تحت ضغط الانتخابات. على سبيل المثال، حكومة "الباسوك" الليبرالية فقدت جزءاً كبيراً من الأصوات في الانتخابات الإقليمية في اليونان في نوفمبر 2010. في أيرلندا، هوى "فيانا فيل"، الحزب الجمهوري الحاكم، في الانتخابات العامة في فبراير الماضي. كما خسرت الحكومة الاشتراكية البرتغالية تصويت لسحب الثقة من الحكومة في البرلمان فى أواخر مارس. أما في أيسلندا، فقد رفض الشعب مرتين، عن طريق الاستفتاء، محاولات حكومتهم لإجبارهم على دفع الفاتورة التي تكبدتها في إنقاذ البنوك في عام 2008. كما عانى الحزب الليبرالي الديمقراطي هزائم مذلة في انتخابات المجالس في جميع أنحاء بريطانيا في مارس الماضي. وفي فرنسا، يجد الرئيس ساركوزي نفسه في ورطة كبيرة قبل الانتخابات الرئاسية في 2010.

نقاط الضعف

بعد الاطلاع على أهم ملامح الأزمة الاقتصادية العالمية والمقاومة الاجتماعية، علينا الآن أن نقوم بتقييم أوضاع النضال والمقاومة الاجتماعية ذاتها، فجنباً إلى جنب مع إدراك الإيجابيات التي تحرزها الجماهير علينا أيضاً أن ندرك أين تكمن نقاط الضعف.

أولاً، لا يمكن إنكار أن المقاومة الاجتماعية يتم تقويضها باستمرار من قبل قيادات النقابات العمالية، والقوى الإصلاحية على حد سواء. البيروقراطيين النقابيين وقادة التيار الإصلاحي (لو لم يشغلوا مناصب بالحكومة تجعلهم يقومون بالتخفيضات بأنفسهم) مستعدون للدعوة أو للتحدث في المسيرات والمظاهرات لأنهم يريدون بناء أو إعادة بناء قواعدهم في أوساط العمال. ولكنهم، في الوقت نفسه، مصممون أيضاً على إيقاف القوى الراديكالية الناشئة (أو التي قد تنشأ) لقيادة دفة المقاومة الاجتماعية.

ففي ولاية ويسكونسن الأمريكية، دفع الضغط الشعبي أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين إلى الخروج من الولاية لتفادي التصويت في مجلس النواب، ولكن الحزب استخدم هذه الشعبية الناتجة عن فوزه في هذه الحركة إلى التخلي عن المسيرات (واحتلال مبنى الكابيتول)، لصالح حملة لإجراء انتخابات جديدة. ورفض زعماء النقابات تنظيم إضراب عام على الرغم من الدعم الشعبي للإضراب، وأعربت عن تأييدها للتخفيضات المطروحة من جانب المحافظ.


وفي المملكة المتحدة، يريد قادة النقابات العمالية في الكونجرس ببساطة تحويل الغضب ضد سياسات المحافظين إلى أصوات في حملة حزب العمال، حتى بالرغم من أن هذه الطريقة لا طائل منها. فقد خفضت المجالس المحلية، التي يسيطر عليها حزب العمال، الإنفاق بدون أدنى تذمر، كما يدعم زعيم حزب العمال، إد ميليباند، خطط خفض الإنفاق الحكومي.

أما في فرنسا، باعت البيروقراطية النقابية حملة المعاشات في سبتمبر العام السابق. وفي اليونان، يسخط النشطاء على زعماء النقابات الذين اتفقوا على يوماً واحداً فقط للاحتجاج والإضراب كل شهرين، كما رفضوا تصعيد الحملة لمواجهة أشد مع الحكومة.

المشكلة الرئيسية في الحركة العمالية في جميع هذه البلدان هو التزام القيادة، سواء البرلمانية أو العمالية، بالنظام الرأسمالي. يتضح ذلك عند تولي الديمقراطيين الاجتماعيين أو الأحزاب "التقدمية" السلطة، كما هي الحال في اليونان واسبانيا والبرتغال والولايات المتحدة. وفي هذه الحالة يفرضون هم إجراءات التقشف بأنفسهم.

ولكن حتى عندما يكونوا في المعارضة، كما هو الحال في بريطانيا أو في دول معينة مثل ولاية ويسكونسن، فدورهم لا يتغير تغيراً جوهرياً؛ فكل ما يطمحون إليه هو العودة إلى مناصبهم. وللقيام بذلك فهم بحاجة إلى كسب التأييد الشعبي، فتجدهم مستعدون للتحدث أثناء الاحتجاجات، ولكنهم يحتاجون أيضاً إلى دعم الطبقة الحاكمة، وبالتالي فهم يحاولون أن يضعوا حدوداً للحركة ويقومون بطرح حلولاً، ليس لتجاوز الرأسمالية، لكن في نفس إطار الاستغلال الخاص بها.

تخفيضات؟ نعم ، ولكن ليس بهذه السرعة. وفي أغلب الأوقات يضطر قادة النقابات أيضاً للإعلان عن تحرك ما تحت ضغط القواعد العمالية، أو ببساطة لتأكيد دورهم كشركاء في النضال الجماهيري. لكنهم لا يعارضون مبدأ التخفيضات إذ أنهم ملتزمون بنفس منطق الإصلاح البرلماني كسياسيين.

نقطة الضعف الرئيسية الثانية تتضح في نضالات الطلاب، والتي لديها تاريخ من الارتفاع السريع ثم الاختفاء السريع مرة أخرى. وقد كان هذا هو الحال في بريطانيا، فلقد انخرط أكثر من 100 ألف طالب في مسيرات ضخمة في خريف 2010، ثم تبخر كل هذا الزخم بعد عطلة عيد الميلاد، ولم يعود مرة أخرى منذ ذلك الحين.

أما نقطة الضعف الثالثة في الوضع الحالي، هي أن المستفيد الرئيسي من الأزمة الاقتصادية هو اليمين المتطرف، وليس اليسار. بالطبع، كانت هناك بعض النجاحات الصغيرة في أيرلندا والبرتغال، ولكن اليمين المتطرف قد أصبح أفضل حالاً بكثير، وأتى العزاء الوحيد حينما انهزم الحزب القومي البريطاني في انتخابات المجالس المحلية في مايو 2010 في المملكة المتحدة.

أما الأحزاب المحافظة في أوروبا، فهي تبذل قصارى جهدها أيضاً لخلق بيئة عنصرية من أجل تقسيم معسكر المعارضين لتدابير التقشف. في فرنسا، بدأ ساركوزي هجوماً على المسلمين، وفي ألمانيا وبريطانيا صعّدت المستشارة ميركل ورئيس الوزراء كاميرون الهجمات على التعددية الثقافية. بالإضافة إلى برلسكوني في
إيطاليا، والذي يقوم بطرد المهاجرين والغجر ويحاول إثارة جماهير العاملين ضدهم. في حين أن هذه الحكومات قد واجهت أي معارضة تُذكر من جانب خصومهم الديمقراطيين الاجتماعيين.

وصحيح أن النظام الرأسمالي قد أثبت إفلاسه إلى حد كبير، سواء على المستوى العملي أو النظري، لكن يبقى على اليسار –الذي لا يزال صغير الحجم- التحدي الأكبر بأن يقوم بتقديم بديل حقيقي للبيروقراطية النقابية وللإصلاحيين من جهة، وللأحزاب اليمينية من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن الاحتجاجات والغضب على خطط التقشف وتخفيض الإنفاق العام تقدم لليسار فرصة للنهوض من جديد.

إن الطبقات الحاكمة تستخدم الأزمة لتجريد الدولة من دورها في تقديم الدعم الاجتماعي، كما تقوم أيضاً بالهجوم العنيف على النقابات العمالية، لكنها تواجه اليوم موجات عاتية من المقاومة العمالية، والأمر قد أصبح أكثر وضوحاً في أوروبا. لكن المقاومة حتى الآن محدودة في فعاليتها بسبب استراتيجيات النقابات والقوى الإصلاحية، والتي يمكننا أن نطلق عليها استراتيجيات "الطريق المسدود"، وإلا أننا يمكننا التأكيد أن فرصة الانتصار متاحة لهذه النضالات، مثلما رأينا في المنطقة العربية.

وإذا لم نكن على دراية كاملة بفرص واحتماليات الثورة، فحكامنا متأكدون من ذلك تماماً. إذا قرأنا تقاريرهم سنجدها مليئة بالقلق حول ما يسميه صندوق النقد الدولي "صدمات تنفيذ السياسة المالية"، أو بتعبير أدق "الانفجارات الاجتماعية".. أملنا الأكبر هو بلا شك كابوس بالنسبة لهم.

العالم العربي ينير لنا الطريق؛ فبنفس النظرية التي توقع بها لينين أن الثورة في روسيا، وهي حلقة ضعيفة في سلسلة الرأسمالية العالمية، يمكن أن تفجر ثورة في أوروبا الغربية الأكثر ثراءاً وتقدماً، نحن أيضاً نأمل أن تمثل ثورات الجماهير العربية شرارة انفجار الجماهير في أوروبا والولايات المتحدة وترفع من سقف نضالاتها.

لكن التجارب النضالية الراهنة تبين لنا أن لكي تبدأ الحركة في تحويل دفة الأمور ضد التقشف والقمع بشكل مباشر، فهي بحاجة ماسة لبناء منظمات اشتراكية حقيقية داخل الطبقة العاملة لتحدي سلطة القادة الحاليين، بعد أن أثبتوا مرة تلو الأخرى استعدادهم للتوصل إلى تسويات انهزامية، بدلا من الانشقاق التام عن النظام وتحديه وجها لوجه.

الهوامش:

(1) وصل الدين المترتب على الولايات المتحدة إلى 14.3 تريليون دولار، أي ما يعادل 97% من حجم الاقتصاد الأمريكي، أو حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي لجميع دول العالم الأخرى. وبلغة الحسابات البسيطة، يعادل الدين العام الأمريكي 130 ألف دولار على كل مواطن أمريكي، أي 5 أضعاف معدل دخل الفرد السنوي في الولايات المتحدة. ويُذكر أن الكونجرس الأمريكي قد وافق، قبل نحو ثلاثة أشهر، على رفع سقف الدين الأمريكي إلى هذا الحد بعدما كان يبلغ 6.95 تريليون دولار في العام 2000. (المحرر)

(2) تبلغ الميزانية العسكرية الأمريكية في الوقت الراهن أكثر من 40% من إجمالي النفقات العسكرية لدول العالم. (المحرر)

(3) في الأشهر الأربع وعشرين السابقة، شهدت اليونان 13 إضراب عام. (المحرر)