تحية الصباح الأخيرة - قصة قصيرة


عباس يونس العنزي
2011 / 10 / 22 - 16:33     

تحية الصباح الأخيرة

في ذلك الصباح المشمس البارد ، حيث تتمطى أغصان الأشجار الندية ، وتلاعب وجوه الناس العابرين من تحتها ، امتلأ المدى بينهما بدفقات نظرات مترددة تفيض منها معاني ود مضمر مقهور ، فيما اختلطت روائح وعطور متنافرة ضج بها فضاء المترقبين تحت مظلة حديدية حمراء ، إذ أخذ جمعهم يتضخم بتقاطر الناس إليه كأنه بركة ماء في يوم ممطر مدرار ، وراحت عشرات العيون التي ترصع وجوه المتطلعين الى نهاية الشارع الاسفلتي المبقع بالخطوط البيض تلتقي دون مضمون وأقل من أن يكون لقاؤها عابرا .
ركبت نظراتهما طوفان الحب الذي اجتاح في أعماقهما سدود التردد فكان لابد أن يتبادلا تحايا الصباح لأول مرة ، بكلمات تكررت في أفواه المارين بسرعة فاختلطت بأنفاسهم المتقطعة التي يتعجلون نفثها ، لكنهما أحسا بنطق عسلي الطعم ، شفاف كا الضوء لحروف كان وقعها سماويا هابطا بإلهام لن يعيده القدر قط ..( صباح الخير ) .
ثمة مراقب بوجه شاحب ممتزج بألوان علب السجائر البراقة سره اندفاعهما الصباحي غير المتوقع أبدا متمتعا بدوره كمراقب ، يلحظ وينفعل ولا يتدخل . ومن بعيد ظهرت حافلة قديمة تجر وراءها عمود دخان أسود مصحبا بأصوات وحشية ملأت أسماع المتحفزين على الارصفة المزدحمة ، وحالما توقفت تدافع البعض عبر البوابة المعدنية أما هو فتخلى عن وقاره الثقيل ليقترب منها باضطراب أثارته حرارة النظرات ودفء تحية الصباح الجريئة ، فكر ..لا بد أن ننهي هذا الامر ، سأتكلم معها ، واسترسل في حلم يقظة سعيد ، رفع رأسه فالتقى بعيني السائق المنزعجتين وهما تتقلبان بين التذاكر والنقود وأصابع الناس ، في الوقت ذاته تمكننت هي من امساك مقبض كرسي بكفها ، فيما أطبقت على ورقة صغيرة في كفها الآخر ، مقاومة بقوة حركات الناس التي زحزحتها من محلها قليلا ، وأرسلت نظرها تبحث عنه بين الرؤوس المتداخلة ببعضها ، لاح لها في مقدمة الحافلة وهو يراقب السائق الضجر الذي لم يمل من تحويل يديه المتثاقلتين بين الأيادي الممدودة إليه وبين علبة معدنية اختلطت فيها التذاكر والنقود ، وبين الحين والآخر يدير رأسه ويرفع جسده على مقدمة قدميه لعين محل وقوفها مستدلا بلون شعرها المتميز بوضوح ، كانت الزحمة تبث في مزاجه قلقا بدا كخيط مرارة ينتاب صبحه العسلي ، وفي لحظة هم بدفع النقود تذكر أنه نسي محفظته وكل أوراقه ونقوده على الطاولة امام المرآة التي أطال وقوفه أمامها تهيؤا لهذا الصباح ، وفي لجة ارتباكه أحس بالبرودة تتسلل الى عظامه فيما غامت عيناه لفترة وجيزة ، لعن المحفظة والمرآة واستدار حانقا يدفع الآخرين لينزل من الحافلة بينما كانت اللهفة تشيع في كيانها دفأً متزايدا يخفف من حدتها أملها باقترابه منها ، غير أن الحافلة تحركت ولم يظهر بعد ، كأن رؤوس الناس كانت لوحش فابتلعه ، أحست بانفجار مدمر حول مدينة أحلامها محض شظايا وألما ممضا ، تبددت أوصالها وارتخت يدها فانفلتت الورقة المعطرة لتترنح وتستقر تحت عشرات الاقدام المرتبكة والضاغطة بقسوة على حروفها الزرق التي نحتت عنوانا في محافظة بعيدة ارتحلت إليها .
عند المحطة التالية تركت الحافلة ، تلفتت مرة أو مرتين لعله لحقها فلم تبصر سوى بضعة اكياس طيرتها الريح ، واصلت مشيها وكفت عن التلفت وبعد حين غابت بين جموع السائرين .
في الصباح التالي تسمر هناك تحت المظلة الحمراء وظل هكذا في كل صباح يتبادل التحايا مع صديقه الجديد ، بائع السكائر ، وينقل نظراته في كل اتجاه كأن له موعدا مع المستحيل ، ويتحسس في كل حين محفظته المشؤومة ، متلذذا بسيجارته ودخانها الكثيف وبذكرى ذلك الصباح وتلك التحية الأولى والأخيرة ! .

عباس يونس العنزي