هلوسات ..


عباس يونس العنزي
2011 / 10 / 17 - 13:05     

هلوسات ..

كانَ للأفكارِ في مخي المهتاج فعل النارِ تماماً ، بل أجزم اني شممتُ رائحةَ الحريقِ تملأُ أنفي و لوهلة ظننت أن ألسناً ملتهبة راحت تندلع من عيني وأذني لتحرق نثار بقايا الشعر في رأسي وتعين فعل السنين القاسي به .. امتدت يدي الشمال بسرعة ودون إيلاء الأمر اهتماما حقيقيا تتلمس جزر الشيب الأبيض في الصلعة البراقة التي تربعت فوق هامتي بلؤم شديد كأنـها تاج قبيح لخرائب مملكة الزمن الضائع !.. بينما ظلت يدي اليمنى تحرك القلم وتخط بلهفة من نزيفه الأزرق حروفا ورسوما متراكبة ، والحق.. فليس في كل حين تخطر لأحد مثل هذه الأفكار المتوهجة ، إذن لأكتب وتباً لكل الحرائق .
( ليس لدجاجة أن تشكو ضـعفها ، كي لا يتمكن الضاري من أن يزهو ببطشه ، وأصل الموضوع برمته هو ما يتولد من شعور داخل نفسي الضحية والجلاد وما خلا ذلك فهو وهم وهراء ، فهل يـمكن أن يسعد من يسكنه الألم والحزن والكدر مهما بدت حياته و أعماله في أعين الكـثيرين مصدر سعادة وفرح ؟ إذن ..يتوجب على الدجاجة أن لا تـمنح الضاري لحظـات الهناء وأن تـتـقبل مصيرها المفجع بفرح غامر فـتـغـيضه رغم أن عظـامها تسحـق بين الأسنان العنيفة القاطـعة ..وهكذا ..).
لم أتمكن من إيصال الفكرة الى مبتغاها بسبب لسعة حرارة مست ساقي من المدفأة النفطية التي قربتها مني في ذلك اليوم الشتوي القارس _ أو هذا ما اعتقدته حينها _وكذلك بسبب صوت زوجتي الحاد كسيف أعد لحرب ضروس و القادم من المطبخ المليء بالبخار والدخان والروائح المتزاوجة رغما عنها ، ودون أن أتكلف كثير عناء دفـعت المدفأة بقدمي وأبعدتـها قليلا بينما لم أفهم من صرخات زوجتي شيئا .. فقط تبينت منها كلمة (حريق) ولم أعر ذلك أذنا صاغية ، عدت مرة أخرى أفكر وأكتب مستغلا الهدوء الذي هبط على أجواء غرفتي الدافئة الصغيرة .
( وإذا قيست الأمور بنتائجها فأن الدجاجة لا تكترث بما تفعله أسنان الضاري القاسية إلا لكونها تسبب لها الموت ، لكن الموت هو أبعد ما يكون عن الدجاجة ، بل هو المستحيل بعينه ، لأنها لم تعرف معنى الحياة أصلا فكيف لها أن تموت ؟ ..إذن لا قيمة قط لمعاناة الدجاجة مما يمنحها الفرصة الكبيرة لحرمان الضاري من سعادته وبالتالي الفلاح في إغاضته ، ولو ..) وعاد صوت زوجتي يقطع خيوط شبكة الأفكار المرهفة في رأسي الذي تسلل إليه صداع خفيف ومن دون أفهم ما تريد صحت بعصبية واضحة مصحوبة بحركة ضجر من يدي :_ نعم ..لا شيء ، لاشيء هناك .
كانت غرفتي مرتبة بطريقة لا شأن لي بـها ، فهي من تصميم من شاركتنـي حياتي منذ ثلاثين عاما ، ومع أني اقترحت العديد من الأفكار لتغييرها وفق أشكال عصرية تنسينا رماد سني عمرنا المحترق بنار تفاصيل الحياة الصغيرة وتبعث فينا من حداثتها وهما لذيذا للشباب لكن القرار في نهاية كل مناقشة "ديموقراطية" صاخبة تشبه ما يحدث في برلمان اليابان أحيانا سيكون للقوي المفتول العضلات وهو ليس أنا بالطبع.. خصوصا في السنوات الأخيرة إذ وهن مني العظم واشتد لديها الساعد ! فبجانب السرير الواسع الذي شهد شتاءا وصيفا متداخلين في أغلب ساعات حياتنا الزوجية الطويلة ..انتصب بفخامة تثير حنقي دولاب ملابسنا بأبواب ستة ومرآة كبيرة ما فتأت تذكرني بالتجاعيد التي استوطنت وجهي قهرا بينما تخطر في بالي دوما علاقـة غامـضة تربط هذا الدولاب الضخم بـهيـئة الأمم المتحدة وبفحل التوت الذي مازال متبخترا أمام دارنا منذ سنوات مضت ، وعند الشباك الواسع المطل على حديقة الدار المتواضـعة علقت ستارة ذات لون فضي لامع له وقع مذل على عيني الغائرتين لكن زوجـتـي المشدوهة بكل ما هو براق كانت تـتـمتع بانعكاسات الأضواء الحادة ولذا وجب علي التـكيف مع هذا الذوق الطـفولي النـزق ولا خيار آخر ، وهناك العديد من قطع الأثاث الفخمة التي انتشرت على أرضية الغرفة المغطاة بسجادة مزركشة يطغي عليها اللون الأحمر الغامق مثل كتل خشبية زائدة لم أتحسس وجودها أبدا .
كان سيل الأفكار أكبر من فوهة القلم ، لذا رحت أتكلم أكثر مما أكتب ، وشعرت بأن بصري ضعف فجأة وفقدت الورقة المستلقية أمامي كغانية لونها الأبيض الناصع ، ورغم ذلك بقيت مصرا على إنجاز عملي الذي توقعت له في تلك اللحظات صدى عظيما قد يفوق ما لقصائد المتنبي من أثر ملأ الدنيا وشغل الناس .
( ولو تتبعنا سيرة التطور الفسلجي للدجاجة لتأكد لنا عمق استجابته للمفهوم "الغاندي" عن صراع اللاعنف ، ففقدانـها القدرة على الطيران هو رفض لمبدأ الهروب بينما يمثل انهيار كل قدرات الإيذاء لديها تجسيدا للنموذج المسالم بشكل مطلق ، وهذا التركيب بحد ذاته يعبر عن هزيمة شنيعة للضواري من منطلق عدم قدرتها على زرع شعور العداء لدى الدجاجة ..وقد ..) وفي تلك اللحظة تحديدا زاغت مني القدرة على التركيز وثقبت أوعية أفكاري فاختلطت مع بعضها في طبخة عقلية نادرة تفوق في غرابتها لوحات الدكتور علاء بشير السريالية ! فيما تهاويت من الكرسي ككتلة لحمية دون عظام ومن غير حراك ، حاولت الصراخ غير أن الزفير خرج من رئـتـي ضعيفا متخاذلا فلم يـفلح في تحريك حبال حنجرتي المتيبسة ، فـتحت عيني وحاولت أن أفهم ما يجري لي لكن الظلام كان يجلل الأشياء ، حتى الستارة الفضية البراقة اختفت وملأت منخري رائحة الخشب المحترق ، ظننت أني أحلم ، وكل ما فكرت به كان محض هلوسات ، فما شأني بدجاج العالم كله إن افترسته الضواري أو قدم مشويا في مطاعم شارع السعدون المستهلكة ! ؟ مـددت يدي متحسسا الأشياء حولي فوقعت على جمرة متـقدة حفزت في القوة لأصرخ بصوت سكنـته نغمات الموت المرعبة ( آ.. آ ..آ ..خ …) وبعدها لم أتفوه بحرف واحد قط ..بعد ذلك بوقت ظنـنـتـه دهرا ..شعرت بباب الغرفة يدفع بقوة وسمعت صراخ زوجتي وضجة كبيرة لأناس غرباء ( حريق ..حريق ..أنقذوا الرجل ..) ، فقدت وعي تـماما ولم أستـفـق إلا في اليوم الثاني ، كنت ممددا على سرير في إحدى المسـتـشـفيات وقد عـبثت النار بـبعض أجزاء جسدي ، تذكرت قصة الدجاج وما جرته علي من مصائب، فتحت عيني ، رأيت وجه زوجتي قد انتفخ كأنما صدمها للتو جبل منهار ، سألتها بصوت واهن ( ما الذي حدث ؟ ) تنهدت وقالت بلحن جنائـزي ألفته منها عند الكوارث فيما حذفت العبرات أجزاء مهمة من صوتها المبحوح (ماذا أخبرك يا عزيزي ، إنها فاجعة .. لقد ضاع كل شيء ولم يـتـبق إلا دولاب الملابس .. والستارة الفضية ..!) .


عباس يونس العـنزي