حب في ظلال طاووس ملك / شجرة الزيتون


حمودي عبد محسن
2011 / 10 / 14 - 09:26     

رواية في قيد الكتابة
فصل : شجرة الزيتون



أن لشجرة الزيتون أساطير تمتد إلى ماض سحيق موغل في القدم ، ولم تحظ أية شجرة أخرى في موروث طقوس العبادة ومراسم التعبد بهذا الاهتمام والعناية والتعلق مثل شجرة الزيتون ، فهي مقدسة ، وهي مباركة ، وهي شجرة الحياة ، وشجرة الجنة ، والشجرة الراعية للإخصاب والعطاء ، ومنها تفوح أنسام الآلهة ، أزهارها بيضاء تزهو العينان حين تنظران إليها ، وثمارها لامعة براقة ذات نور روحاني يتسلل إلى أعماق البشر ، تعيش حياة طويلة وقد تصل إلى قرون ، وحتى إذ مات جذعها فإنها تنبت من جذرها فسيلة جديدة ، وتعيد نفسها بشجرة جديدة ، لكن شجرة الزيتون ليست خالدة مثل العنقاء تحرق نفسها كل مائة عام ، وتنهض فتية من الرماد . أجل ، كانت شجرة الزيتون أول شجرة نبتت بعد الطوفان ، ويقال إنها أول شجرة غرستها الآلهة اليونانية أثينا قرب نبع ماء ، وسمي باسمها جبل الزيتون الذي تعبد سليمان فيه لربه في حوض البحر الأبيض المتوسط ، وقد سمي الرومان ولاية من ولاياتهم بزيت الزيتون ، وهي تلفظ بالكنعانية زيت ، وبالعبرية زيتن ، وبالسريانية زيتا ، وبالأكدية زيرتون ، وزيتها سكب على رؤوس الآلهة وأنصاف الآلهة والملوك والأميرات الجميلات والعذارى الحكيمات ، ومسحت بالزيت أيضا أصنام وتماثيل وأجسام أبطال مسحا كاملا وأطلق عليهم أولئك الممسوحة أجسادهم بالزيت ، وذات يوم نبتت شجرة زيتون ضخمة في أرض اليونان ، لم ير اليوناني مثيلا لها ، فسميت المدينة التي برزت فيها أثينا ، وانبثق قربها أيضا نبع غرير فسمي بوسيدون ، وهكذا ارتبطت شجرة الزيتون ذات الرائحة العطرة حياتها بالماء العذب ، فسميت شجرة الحياة ، وسمي الماء العذب ماء الحياة ، وشبه الملك نفسه بشجرة الحياة لأنه الحاكم على أوراق الشجرة وأغصانها وثمارها ومنابع المياه التي تسقيها ، فهذا الملك السومري يطلق على نفسه شجرة الحياة الدائمة ، والعين الساهرة للإرواء ، ويردد الدعاء :
اللهم اجعل أيام حكمي للناس مستساغة
مثل النبتة المفيدة لجسم الإنسان
اللهم اجعل أيام حكمي للناس مفيدة
أوفر الثمار ، وأغدق الماء النمير

أما أسطورة شجرة الزيتون في بحزاني وموروثها الطقوسي ، فهي شجرة خير ، وشجرة سلام ، شفافة ، تزهو ليل نهار ، نظرة ، وديعة ، لزيتونها لمعان خاص حين تسقط عليها أشعة الشمس ، وتكون في أوجها ، فتفوح أغصانها بنسمات روائح عطرية مميزة ، وليس عبثا أن تكون رايات خضراء مغروسة في أرض بحزاني ، منفوشة الأغصان من أعلى جذعها ، وتمتد جذورها في باطن الأرض ، وليس عبثا عندما حمل الشيخ آدي في قديم الزمان فسائل الزيتون في سفره من مدينة الشمس بعلبك ( بيت فار ) إلى أرض الأيزيديين ، لتكون أول شجرة زيتون قرب معبده في لالش ، وكانت خير وعطاء ، وكان من زيتها نور وضياء ، وكان لها موسم قطاف يؤديه خدمة المعبد ـ خلمه ت كارين ـ فتلك أيادي رجال خدام المعبد تقطف زيتون ناضج ، وتلك أيادي نساء خادمات المعبد ناعمة تجمع الزيتون في سلال ، وترسله إلى معاصر داخل المعبد ، لينتج سائل ذهبي يجمع في قدور فخارية قديمة ، وصارت أشجار الزيتون أيضا تسمى أشجار الشيخ آدي لأنها جميلة وسامقة ، ولأن لسموها ظلال تفرش على الأرض ، ولأن رائحتها مشتهاة في الطعام والدواء ، ولمعان زيتونها خاص ، ولأنها صارت بيوتا آمنة لأعشاش الطيور من مختلف الأماكن التي تهاجر إليها ، وتصدح ترانيم عذبة في الشروق والغروب ، وفي الأعياد ومراسم أيام الدعاء ... لكن هناك شيء مهم في الحياة اليومية المتآلفة في بحزاني ، فشجرة الزيتون لم تكن تخص الوجهاء والأعيان والحكماء سواء في معبد لالش أو في أرض الأيزيديين أو في بحزاني ، بل إنها تخص عامة الشعب ، فلعائلات في بحزاني بساتين زيتون ، وأخرى عائدة لمزار شيخ بكر ، وأخرى للكنيسة غير أن بعد القطاف يحق لكل فرد في بحزاني أن يقطف بقايا الزيتون المعلقة في أغصانها ، فمن خشب شجرة الزيتون كان البحزاني يوقد نار ، ويشعل سراج أو قناديل أعراس ، حتى الرماد أو الفحم في مواقد النار له رائحة عطرية زكية ، والجمر المتقد في احمرار له أيضا عطر زيتون ، فمن زيتها أضاء البحزاني البيوت والمزارات والأزقة والطرقات ، إذ من عافية شجرة الزيتون كان النور وكان الضياء . وفر لها البحزاني سواقي مياه ، فكان يحفر دائرة حول الشتلة الفتية قطرها مترين وعمقها متر تشبه حوض ويسمى الهنجاني ، ثم يغرقها في الماء لفترة أسبوعين ، إن الشجرة تحب أن يسقيها البحزاني ويعتني بها ، عندئذ سوف تخرج من آباط أوراقها زهور بيضاء عطرة في أواخر الربيع ، وتوحد في مجموعات شبيه بالعناقيد ، فلكل زهرة فيها أكثر من أربعة بتلات بيضاء ذات مدق وأخرى بدون مدق وتلك بمدق ناقص ، ثم تنمو ثمرة ، ثم زيتونة بألوان تبهر عيني البحزاني ، فبدايتها لون أخضر ، ثم أصفر ، ثم متقلبة إلى أحمر خفيف ، ثم أحمر غامق ، ثم أسود ، وهذا بداية موسم القطاف ، وإذا أرادها البحزاني سوداء فينتظر شهرا آخر أو شهرين ثم يقطفها سوداء ، أما أوراقها فتبقى خضراء لامعة حتى في برد الشتاء ، هذه هي شجرة الزيتون والزيتونة سواء في بساتين شيخ بكر أو بستان التوت أو بستان العتمي وسمي هكذا لكثافة أغصان الزيتون المتشابكة التي تخلق ظلالا كثيفة في الصيف ، إذ كل البساتين تشكل قوسا يمتد من غرب القرية إلى شرقها ليعانق بعشيقة .
أما ميرزا الذي تجتذبه الرقة ، ويجتذبه اللطف ، ويهرب في مئة حلم إلى أول عالم لا نهائي من عوالم حكايات جده ، ليدخل مرهف الحس لحنا قبل فوات الأوان ، طليق في ضروب رغائب طفولته التي يحملها في قلبه ، هذا القلب الرقيق في مسحة الكون الذي يلفه بعجائبه ، فغالبا ما كان يقضي أوقاته في بستان الزيتون يمرح مع الطيور دون كلل أو ملل حين تبني أعشاشها في الربيع ، يطاردها بين شجرة وأخرى ، وكم تمنى أن يكون عنده جطلا مثل الصبيان وهي مصيدة صغيرة من خشب على شكل رقم سبع يضع الصبيان فيها حجرة صغيرة ، يسحبون شريطيها المطاطين ، ويرمون الحجرة باتجاه العصفور ، فيسقط رافسا ، ثم ينتفون ريشه ، ويشونه على نار هادئة ، ويأكلونه مع عروق الزيتون وهو من طحين وحمص وزيت الزيتون ، وذات مرة مسك عصفورا بني اللون جميل سقط من عشه ، تفرس في عينيه ، ومنقاره الصغير ، ما لبث أن نفث زفيرا دافئا في وجهه ، فتراقص ريش العصفور ، ثم غلق عينيه ، ثم بعد لحظة فتحهما ، وهو يتخبط بين أصابعه :
ـ تريد أن تطير .
هذا ما خاطب به العصفور ، ففتح العصفور منقاره كأنه يجيب :
ـ نعم ...
ثم أطلق سراحه في الفضاء الرحب لأن جده اشترط عليه أن لا يسجن طائرا أو يؤذيه ، فراح يتابع طيرانه ، وعاد إلى عشه في أعلى شجرة الزيتون ن وهو ينصت إلى زقزقته ، وقد امتلأ قلبه دفق من الانتعاش ، فقفز على قدميه ، وهو يصيح :
ـ جدي ... أطلقت سراحه .
فيرد عليه جده فرحا :
ـ أنت وفيت بالعهد يا بني .
وفي الربيع السابق ، قطع غصنا غضا ممتلئا بالزهور ، وجعل منه إكليلا ، وتوج به رأس هنار قائلا بصوت وديع :
ـ أنت أميرة .
فضحكت من ملأ روحها ، ونزعته من رأسها ، ووضعته على رأسه قائلة :
ـ أنت أمير .
ثم هرعا سوية في البستان يلعبان مع الطيور ، ويطاردان فراشات نادرة بمختلف الألوان والأحجام والأشكال التي كانت تنتقل بين زهور الزيتون ، وهي ترفرف فوق الزهور ، فيختلط رفيفها الناعم مع زقزقة العصافير ، فيكون الربيع متفردا بجماله البديع ، ورونقه الخلاب .
وعندما كانا يحسان بالتعب في ركضهما حيث تكون الشمس في أوجها بصيفها الحار ، يلتجئان إلى ظل الشجرة الكبيرة ، ويستلقيان فيه ، وعيونهم تتعلق بأوراق الزيتون الناعمة الصلبة الملمس ذات النسيج الجلدي ، الحاد طرفها ، المتصلة بفروعها على شكل أزواج ، إذ كل ورقة تواجه ورقة ، وتتقابل بلون أخضر لماع قد يميل إلى الرمادي أحيانا ، داكن إلى حد ما في جهته العلوية ، وفضي في جهته السفلى ، ويكسو الجهة العلوية شمع يجنبها تبخر ماءها ، ويقي جزئها السفلي من أشعة حر الشمس ، وأحيانا كان يسندان ظهرهما إلى جذعها ، ويحلقان في براءتهما إلى عالم فسيح ، ويسألان السحب البيضاء بعيونهما :
ـ أنت جميلة أيتها السحب .
أحب ميرزا الشجرة الكبيرة لأن هنار أحبتها ، ولأن تداعياته ، وتأملاته كانت في ظلالها ، وهي تواجه شجرة هرمة منزوعة اللحاء كثيفة الأغصان متداخلة كأنها تعانق بعضها ، وقد مالت قليلا باتجاه شجرته الكبيرة ، وكان غالبا ما يردد مع نفسه ، وهو يتجه بهدوء ودفء إليها :
ـ شجرتي ...
الشجرة الكبيرة معمرة تتوسط البستان ، ذات هيكل مهيب ، متأصلة جذورها في أعماق الأرض ، وذات جذع غليظ صلب بني اللون ، الذي تتفرع في أعلاه أغصان كثيرة ، وقرب قاعدته عقل كثيرة حيث أخذت كشتلات جديدة ، فمنظر الشجرة الكبيرة جذاب وملهم لتأملات ميرزا البريئة ، فعند هذه الشجرة حدث شيء مروع كما لو أنه زرع مثل شجرة الزيتون في خيال ميرزا ، وكثيرا ما كان يعاوده الحدث الذي سمعه من أحاديث جده ، فكان يتوهج قلبه ألما ، ويصنع له صورا في مخيلته ، مرة تختفي ومرة أخرى تظهر بمأساة ، فشكلت عنده هوة كبيرة مع الماضي القديم ، وهو يكرر مع نفسه َ لماذا َ . هذا السؤال كان يلازمه ويدفعه إلى المجهول القاسي ، وفي أحيان كثيرة يدفعه إلى عالم بغيض فيه القسوة والموت ، فذهنه جريح اتجاه الأمس البعيد الكئيب ، إذ دوما كانت الدموع والهموم والدماء قد حكيت فوق كل ثوب أو صبغت كف دمها فوق صخرة في وادي أو كهف أو مغارة . الآن تخرج الصور من ظلامها ، وتظهر غائمة سوداوية تمر عليه عابرة مدلهمة ، إنه هاجس نسائم الخوف لابد أن تخرج من ظلام ، كما أن حزنه حزن لا حول له اتجاه ما مضى ، حزن لا يوصف دون أن يترافق مع نحيب ، فهذه صور مدلهمة ، هذه هنار انبثقت له مثل شرارة لهب ، امرأة منتفخة البطن بجنينها الذي تحمله في أحشائها ، انهارت مرهقة محطمة متهاوية من شدة الإجهاد ، إذ كان جند الموت يطاردونها ، فتارة كان يتخيلهم بعربة نار يغذون عجلاتها بأجساد وعظام ويرووها بدماء ، وتارة أخرى كان يتخيلهم على ظهور جياد شاهرين سيوفهم في الفضاء ، لم تمر لحظات حتى تعثرت هنار وسقطت تحت الشجرة الكبيرة لاهثة ، يتصبب وجهها عرقا ، وعيناها مرفوعتان بهلع إلى جنود الموت ، وهم يدنون منها ، ويقتربون منها ، يطلقون ضحكات عالية ، وقهقهات ، فهذا يقول : الجنين ذكر ، وذاك يقول : الجنين أنثى ، ثم صارت أشعة الشمس تضرب وجهها الهلع ، كان وجهها يستبكي ليس لذاتها بل لجنينها الراقد في بطنها ، وكان جنود الموت يحومون حولها بوجوههم الشرسة المكشرة بأنياب حادة سوداء . عندئذ حاول ميرزا أن يضرب على عينيه حجاب قاتم أو يغشيهما غمامة رمادية كي لا يرى الحادث المروع الذي غالبا ما كان يرتكبه الجنود العثمانيون ، وأراد أن تغيب عن ذهنه الصور أو تخمد في عينيه ، لم يكن يريد أن يرى هنار تموت موتا شنيعا ، فصارت الصور مثل شبح غارق في ظلام ، وصار ميرزا يرى الجنود غرباء عن عالم البشر ، فهم متوحشون قساة القلوب ، وما قهقهاتهم إلا صدى عواء متعطش للدماء ، ها هو الموت العنيف يستيقظ في عيني ميرزا ، ثم ترتعش شفتا هنار بكلمات مبعثرة مرتجفة :
ـ ألا تستحوا من ربكم ؟!
ثم أصبحت الكلمات صوتا مذعورا يسبح في الهواء ، ثم يتضخم ، ويثور ، ويصعد إلى السماء ، ثم يهبط ، ويتهاوى فوق أشجار الزيتون ، ثم يتحول إلى أغنية ، ثم يسير بمسار حزين سحري ، ويتغير إلى أنشودة ، فتصدح الطيور ، وترعد السماء ، وتهتز الأرض ، وصدى رنين يتردد في الأرجاء :
ـ ألا تستحوا ...
وما زالت تزهر شفتا هنار في عيني ميرزا ، فيغلق جفنيه ، ثم يفتحهما بنظرة خشوع إلى بطن هنار ، ثم قطرة دم تنزف ، ثم يغمد العثماني السيف في بطنها ، ثم يبقر بطنها ، فثمة نزيف غزير يسيل ويغطي بستان الزيتون ، ويسير بعيدا ، والسماء ترتعد ، والأرض ترتعد ، أصوات تتداخل في نحيب وبكاء :
ـ ألا تستحوا ...
وقد تولى العثماني الدموي تعجب ، إذ لم يعرف دنس روحه مثل صفاء ونقاء روح هنار ، فلم يهزمها الموت ، فكانت روحها عظيمة ، وظلت تتعاظم أعواما وعقودا وقرونا ، وميرزا يبتكر صورا من خياله ، فتدحرجت الدموع من وجنتيه المتوردتين ، فقد عثرت روحه القلقة على ذاتها كما لو أنه يخوض معركته الخاصة مع ذلك الماضي الأليم ، فنهض من ظل شجرة الزيتون الكبيرة ، وقد أخذ الجوع به ، فامتدت يده لتقطف حبة زيتون دون أن يدري ، ووضعها في فمه ، لم تكن إلا مرا علقما ، فنفضها من فمه ، وهو يقول بغضب :
ـ إنها مرة .
فراح يبتكر صورا لهنار الطفلة هذه المرة متنورة مشرقة تخرج من شرنقة فراشة ساحرة في حسنها وجمالها ، ترفرف بجناحين أبيضين فوق زهور الربيع ، وأخيرا ابتكرها تخرج من برعم زيتون مع قطرات الندى في شفق فجر جديد ، وهو يبتكرها مئة مرة حتى جاءه موسم القطاف في العام الماضي ، وقد اندهش للقطاف الضرير الذي راح يقطف طوال النهار ، ويضع الزيتون في كيس قماش لفه على خصره دون أن يبقى من الزيتون المعلق في أغصانه إلا القليل ، وقد سأله ميرزا بانبهار :
ـ عمي كيف ترى الزيتون .
كان يجيبه مبتسما :
ـ أنا أعمى ، عيناي لا تريان ، أنا أرى بصدري .
لم يفهم ميرزا ، فراح جده يوضح له عن الإحساس ، والتعود باللمس ، وبقي لم يفهم ، فما لبث أن هرع في البستان ليطارد أسراب العصافير التي تزغرد ، وتنقر في الزيتون ، وإذا به يواجه بقرة صفراء ضخمة ، يتهدل من رقبتها حبل يسحل على الأرض ويترك أثره فيها وهي تقضم العشب وتجتره ، وتهز ذيلها ، ثم ترفع رأسها قليلا وتطلق خوارا مديدا ، فقال مع نفسه :
ـ إنها هاربة من الراعي .
ثم خطا نحوها ، وهو يصرخ بها :
ـ دع ... دع ... دع ...
ألا أن البقرة لم تخرج من البستان ، فمسك طرف الحبل ، وحاول أن يجرها غير أنها شدته بقوة ، وأسقطته على الأرض ، وراحت تعدو ، وتخور ، وهو يعدو وراءها ، وجده يبتسم ويتابع محاولاته الفاشلة ، فجأة جاءه صوت نباح كلب ، فتطلع حوله يبحث عن الكلب ، ما لبث أن برز في البستان يريد البقرة ، اتجه نحوها ، وراح يحوم حولها وينبح ، ليسوقها إلى راعيها ، استجابت البقرة ، وخرجت من البستان تعدو ، والكلب يسوقها إلى القطيع الذي فرت منه . حينئذ هرع ميرزا إلى البيت ، ليخبر أمه عما دار في البستان ، فابتدأ قوله :
ـ ماما ... اليوم دخلت بقرة إلى البستان .
ابتسمت ، وهي تروح وتجيء في فناء الدار ، وتهيأ مراسم عصر الزيتون بعد أن عملت منه كميات ليكون طرشي مكبوس ، ثم سألته بصوتها الحنين :
ـ هل طردتها ؟
فنكس رأسه إلى الأرض كما لو أنه كان يشعر بالفشل ، وقال بصوت حزين :
ـ لا ... الكلب طردها ... ماما ... كانت كبيرة ...
ثم راح بصره يقع على أكداس الزيتون المعبأة في أكياس ( كواني ) قرب المعصرة ، فأردف قائلا :
ـ اليوم نعصر الزيتون ...
فهزت أمه رأسها ، وهي تقول :
ـ أجل يا أبني ...
فجأة دخل جده يرافقه القطاف الضرير ، وابتدأت مراسم العصر بمعصرة حجرية نقرت في صخرة لتكون في حفرتها داخل فناء الدار أشبه بحوض صغير ، وتصبح ملساء ناعمة لتراكم الأعوام عليها ، عملت على أطرافها ثلاثة فرش ليعصر فوقها الزيتون ويسيل نقيا إلى الحوض ، وكان قربه قدر كبير يغلي فيه الماء ، وهم يدوسون على الأكياس والأم تغرف الماء بطاس كبير ، وترشه على الأكياس ، وهم يعصرون بأقدامهم ، وزيت الزيتون ينساب في الحوض ، حينئذ مرت ساعات ، عندئذ بدأت الأم تغرف من الحوض الزيت بكارفة خشبية نهايتها طاس ، وتصبه في تنك ، هذا الزيت الغني بالدهون النقية . هذا كان أول عصر لقدمي ميرزا من موسم قطاف ، وقد امتلأت في روحه المحبة للزيتون الذي أحس بنكهته الطيبة الدسمة بكرا ، نعم زيت عجيب من ثمار الزيتون براق طازج شفاف .

ولكن في هذا اليوم من منتصف تشرين الثاني أطلت الشمس باهتة من بين سحب السماء الشاهقة العلو ، سحب بيضاء مبعثرة عشوائيا فوق بحزاني ، وفوق سهلها الشاسع الذي تؤطره وهدات تلوت بين تلال هائلة ، وتؤطره أيضا طرق رملية لتربط القرى في نسيج متطاول من التلال مثل لوحة بديعة التكوين إذا ما سرح البصر فيها فيقع على حقول محروثة أو تنتظر الحراثة أو تقع العين على أشجار عارية من أوراقها تغرد طيور فوق أغصانها ، فتسقط بقايا أوراق ذهبية معلقة بأغصانها بحركة اهتزازية راقصة ، فتكون أشبه بهمهمة أو حفيف خافت لتعانق الأرض الندية ، وتتناغم مع أنسام ناعمة باردة ، لتعزف لحن الشجر والأرض والإنسان . هذا التآلف يخلب روح الأيزيدي ، ويذهب خياله بعيدا ، وينتعش ذهنه بما آلت له طقوس الحياة والكون ، وهو يتنشق هواء صافيا عليلا ، غير أن أشجار الزيتون لا يضاهيها شيء آخر ، فدائما تحلق ترنيمة البحزاني إليها ، وهي لم تتخل عن أوراقها ، فهي دائما خضراء ، إذ لأوراقها معزوفتها الخاصة مع تلك الأنسام الرطبة القادمة من الجبل ، فتتمايل أغصانها بلطف ، وينبعث حفيف أوراقها مع خرير سواقي المياه ، أجل ، في هذا اليوم دبت حركة غير عادية في بحزاني ، القرية من عصر قديم تبدو اليوم شيئا آخر في لطفها وسخائها ، إذ كل شيء ينمو فيها بكرامة ، ويتدفق عند البحزاني فيض إيقاع متوازن عذب مع السماء والأرض والحياة ، فالسماء التي فوقه خالدة من الخوالد ، حتى الأعشاب النامية في الجبل خالدة من الخوالد ، والأمطار التي تغسلها خالدة من الخوالد ، لأن البحزاني لا يمكن أن يعيش إلا صدقا وأصالة ، أليس الأيزيدي في السومرية هو الإنسان السوي المستقيم والروح الخيرة غير الملوثة ، الذي يسير في الطريق الصحيح ، أجل ، لقد دبت اليوم حركة أكثر حيوية ونشاطا ، فتداخلت أصوات بشرية بهيجة مع صيحات وقرقرة مياه وحفيف أوراق وتغريد طيور ونباح كلاب وخوار بقر وثغاء أغنام ، إذ بدأت القرية تضج ، فهذا يحمل معولا ليقتلع صخرة أو دغلا أو يحفر في الأرض ، وذاك يحمل مسحاة ليحرث التربة الرمادية ، وراعي يسوق قطيعه إلى المراعي ، ورجل يشد حزامه إلى خصره ، ويضع قدمه على جناحي ديك ، والديك يحتج ويقاوم ويطلق صوتا حادا ، ويرفس برجليه ، ويحاول أن يضرب بجناحيه رافضا الألم ، لم تمض لحظة ، فيترك مذبوحا في الحوش ، وقد عمل السكين في رقبته ، فتتناوشه أيدي نسائية ناعمة ، وتبدأ بنتف ريشه ، ليجهز في قدر ، تضرم تحته نار ، فتبدأ تقرقع أغصان يابسة ، ويتدفق وهج أحمر ، فتأتي عجوز البيت ، تراقب موقد النار أو تجلس قرب الموقد وتحرك نولها لتحيك درعا لفتاة من صوف خالص ، ثم تتنهد ، وقد حلت شالها ، وأسقطته من رأسها ليستقر على كتفيها متفادية وهج النار ، ثم تنهمك بأحاديث شتى مرحة مع أبنتها ، وقد ارتسمت ابتسامة خجلة على وجه الفتاة خاصة وإن الحديث تشعب إلى الثلج الأحمر ، إذ بدأت العجوز تتنهد وتروي قصة أشجار الزيتون المرعبة التي استطاع أهل بحزاني يتجاوزونها بتكاتف وتعاون : حدث ذلك في الشتاء... بداية القرن ... القرن يسموه العشرين ، فيه هبت عاصفة رهيبة ، عاصفة ثلج حمراء ، فسمي ذلك العام عام الثلج الأحمر ... لا أحد يدري لماذا ثلج أحمر ...إنه أحمر ..واحد يقول السماء أنزلت ثلج أحمر ... واحد يقول العاصفة جاءت بغبار أحمر ... المهم إنه ثلج أحمر تراكم فوق أشجار الزيتون ... تكسرت الأشجار وحلت الكارثة ... حزن الكبار والصغار ... ما فائدة بحزاني دون أشجار الزيتون ... كان ذلك في ليالي مظلمة باردة ... اجتمع وجهاء القرية ، وشيوخها ، ومعمريها في بيت الكوجك حسن المعروف بزهده ونزاهته وصبره وصفاء روحه ، ورجاحة عقله ، أحبه أهل بحزاني ، وأحب هو أهل بحزاني ، وأحب أشجار الزيتون ، تداولوا وبحثوا في الأمر بعد أن هدأت السماء ، وبعد أن دمرت البساتين ، وذابت الثلوج ، وقد أشرقت الشمس بعد شهور ، وشجرة الزيتون تقاوم الكارثة ، وتأبى أن تموت ، فتنهد كوجك حسن ، وقال بصوت وقور:
ـ ستبرز براعم الزيتون بعد عدة أيام .
ابتهجت الوجوه فرحا ، وانتابت الأنفس غمرة عامرة من ارتعاشه الأمل أن تعود شجرة الزيتون زاهية باهيه في سموها ، خاصة جاء ذلك من تصريح الرجل الحكيم الجليل ، فخيم صمت ثقيل على مجلس التجمع ، ما لبث أن زعزعه شيخ معمر قائلا :
ـ الماشية ستهجم على البساتين ، وتأكل البراعم ... إنها تتضور جوعا ...
صمت كوجك حسن لحظات متفكرا ، ثم قال بصوت حاسم :
ـ امنعوا الماشية أن تدخل البساتين .
حينئذ قال أحد الحاضرين متسائلا :
ـ وإذا دخلت ... ؟!
فرد كوجك حسن بعجلة دون أن يجعل الاجتماع يطول في أحاديث :
ـ اذبحوها ... ووزعوا لحمها على المحتاجين ...
هكذا يا ابنتي مرت الأيام ، وإذا أحد الأفراد يطرق باب بيت كوجك حسن ، ويخبره أن بقرة صفراء دخلت بستان الشيخ بكر ، فلم يتردد كوجك حسن ، فقال بحزم :
ـ اذبحوها ...
كان الشاب الذي جاء بالخبر ينظر إليه بحزن ، وهو يتلعثم بكلامه :
ـ إنها بقرتك ، وإنها ولدت وليدا قبل أيام .
حدق كوجك حسن بتمعن إلى الشاب ، وهز رأسه قائلا :
ـ يا ولدي لا أعفو نفسي من عهد اتخذناه سوية ... اذبحوها ...
هكذا يا ابنتي ذبح أهل القرية البقرة ، ووزعوا لحمها على المحتاجين ، ولقب أهل بحزاني الكوجك حسن بالأمين الكريم ، ثم عادت أشجار الزيتون سخية معطاة ، إنها مباركة ، وشجرة خير ، تأتين بموارد رزق .
هكذا انتهت قصة شجرة الزيتون في هذا البيت التي سردتها العجوز لابنتها ، ومن يدري قد يكون لشجرة الزيتون قصة خاصة في كل بيت من بيوت بحزاني ، لكن في هذا اليوم عمت حركة في بحزاني بتباشير خير وبركة ، وباشر البحزاني بحراثة الأرض في أسفل القرية ، ويد البحزاني تمتد إلى كيس حبوب القمح ، وينثره ، وهو يتقدم إلى نهايات الخطوط التي حرثها ، ثم يعود راجعا من حيث بدء ، وينكب على عمله بجد وأحيانا بصمت ، ثم يصرخ بغضب ليطرد الغربان ذات اللونين الأسود الفاحم والأبيض ، المتواثبة فوق الرقع المحروثة ، وتشحذ مناقيرها على البذور لتلتقطها من التربة ، ثم ما تلبث أن تفر ، وهي تنعق بأصوات عالية مزعجة ، لتغزو بساتين الزيتون ، لأن الغربان مغرمة بأكل الزيتون الذي صار بمثل هذا الوقت أشد نضجا وبراقا خاصة وإن الغربان مولعة بأكل الثمار البراقة والزاهية الألوان ، واللامعة ، بينما كان ميرزا مولعا بمطاردتها ، ورميها بالحجارة ، فوقف الآن باهتا ، واضعا يده على فاه ، مندهشا لهذا الغزو الذي لم يتوقعه بهذه الكثرة ، التي راحت الغربان تهجم بشراسة ، وتنقر الزيتون بتهالك ، وهي تطلق نعيقها المزعج الذي يشبه صراخ : قاقي ... قاقي ... قاقي ... بينما كان ميرزا ينظر إليها ن وهو يردد بخفوت :
ـ قاقاجي ...
فجأة احتجب شعاع الشمس لبرهة من الزمن ، فرفع ميرزا رأسه إلى السماء ، وإذا به يرى تشكلا عجيبا لأسراب طيور محتشدة بالآلاف محلقة هائلة خلقت أشكالا مختلفة في الفضاء ، وعلى حين غرة اخترق طائر جارح تشكلها ، فتفرقت ، وتبعثرت ، وتحطم تشكلها الرائع في السماء ، فهبطت مسرعة إلى أشجار الزيتون ببراعة وخفة ، وهي تصدح ، وترفرف بأجنحتها ، فملأت الأشجار ، فكان منها من ينقر في الزيتون ، وكان منها يتسلق الأغصان بمهارة عالية ، ومنها من يسير ببطء على الأرض ، ومنها من يشدو ويصفر ، كانت سوداء قاتمة ذات ريش لامع معدني يصدر بريقا عجيبا ، فتعلق هذا البريق بعيني ميرزا ، الذي كان يحدق إلى قوة جسدها ، وعنقها القصير ، وأقدامها الرباعية الأصابع الطويلة نسبيا ، ذات المخالب المعقوفة والكبيرة ، ومناقيرها رفيعة طويلة ونهاياتها معقوفة إلى أسفل ، وذيولها قصيرة ، وأجنحتها طويلة ، فانطلقت الكلمات من فم ميرزا وهو ينظر إليها باندهاش :
ـ هذه الزرازير اللامعة ...
ذلك خلق ضجيجا في البستان حيث اختلطت الأصوات والتسابق بين الزرازير والغربان في نقر بقايا الزيتون الناضج تماما ، فسحب ميرزا ساقيه بهدوء ، وخرج من البستان عائدا إلى البيت ، وهو يقول بصوت خفيض :
ـ كل هذا ... لأن الزيتون طيب ... طيب جدا ...