الثورة التونسية: طابعها، آفاقها ومعيقات تطورها


حزب العمال التونسي
2011 / 10 / 8 - 11:04     


يحق للشعب التونسي أن يفخر بإنجازه التاريخي العظيم، بثورته على نظام بن علي، على الاستبداد الذي مثـّل وعلى امتداد أكثر من 20 سنة واحدا من أعتى النظم الدكتاتورية في العالم. وقد باتت ثورة الكرامة التونسية اليوم مضرب الأمثال ونموذجا يلهب مشاعر وطاقات شباب الوطن العربي والعالم وشعوبه التواقة للحرية والكرامة.

فعلى منوالها نسج الشعب المصري الشقيق وأطاح بالطاغية مبارك. وها هي جماهير البحرين واليمن وليبيا والجزائر والمغرب والسودان والعراق تهبّ للشوارع لتسير نحو نفس الهدف، التخلص من أنظمة الفساد والقهر والعمالة.

لقد كان الشعب التونسي أيّاما قليلة من تاريخ احتراق الشهيد البطل محمد البوعزيزي يبدو وكأنه مستكين خانع ولا مبال بالقهر والظلم والاستغلال الذي ألحقه به نظام بن علي، حتى ذهب في ظن الكثير من المثقفين ضيقي الأفق إلى نعته بأنكى النعوت. ولكنه وكما سبق له أن فعل في الستينات والسبعينات (جافي 1978) والثمانينات (ثورة الخبز) هبّ وبصورة مفاجئة ليقول لا للظلم والقمع غير آبه لا بالبوليس ولا بالرصاص الحيّ. فمن سيدي بوزيد شبّ حريق الاحتجاج ليعمّ جميع المدن المجاورة (المكناسي، منزل بوزيان، الرقاب...). ومن ولاية سيدي بوزيد توسّعت الانتفاضة إلى القصرين وتالة ومن ثمة إلى سليانة فالكاف فجندوبة... ولم تهدأ حتى دخلت تونس العاصمة بأحيائها الشعبية وخاصة "حي التضامن" فتحوّلت هذه الانتفاضة إلى ثورة حقيقية، ثورة شعبيّة عارمة لتنادي برحيل بن علي وإسقاط نظامه.

1 – ثورة ديمقراطية

تتحدّد طبيعة كل ثورة بطبيعة القوى الاجتماعية التي شاركت فيها وكانت لها مصلحة فيها وبالأخصّ تلك التي لعبت فيها الأدوار الأساسية. كما تتحدّد بطبيعة البرنامج الذي انقادت به، أي الشعارات والأهداف التي رسمتها لنفسها (بصورة واعية أو عفوية) وأخيرا بطبيعة القيادة السياسية التي نظمتها وأطـّرتها وقادت أطوارها.

إن الثورة التونسية لم تتخذ طابعا طبقيّا معينا، ولم تضطلع فيها طبقة من الطبقات لوحدها بالدور الأساسي. فهي من هذه الناحية كانت من صنع جميع الطبقات والشرائح الشعبية المتضرّرة من سياسة النظام الدكتاتوري لبن علي. فإلى جانب الشباب المعطل عن العمل في سيدي بوزيد والقصرين وباقي الجهات فقد لعبت شرائح الموظفين (رجال التربية وغيرهم) والمحامين وعمال المؤسسات الصناعية والخدماتية وصغار التجار والحرفيين وحتى شرائح واسعة من سكان الأرياف والشباب الطلابي والتلمذي وأصنافا أخرى من الأجراء كالصحافيين وغيرهم، لعبوا كلهم دورا هاما في انتشار حركة الانتفاضة واحتدامها حتى تحولت إلى عصيان مدني وثورة شعبية عارمة ضمت الرجال والنساء والشباب والعائلات جنبا إلى جنب في المظاهرات والمسيرات والمواجهات مع قوات البوليس وعصابات الميليشيا الدستورية.

وعلى خلاف ما يدّعي الكثير من مردّدي الخطب البرجوازية الإصلاحية، فإن هذه الثورة لم تكن ثورة عفوية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، لأنها سرعان ما رفعت شعارات سياسية واضحة رغم أنها انطلقت في البداية بمطالب اجتماعية جزئية (حق الشغل). ومن هذه الشعارات السياسية "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" و "لا لا للطرابلسية الي نهبو الميزانية" و"ثورة ثورة مستمرة وبن علي على بره"، و"بن علي يا جبان شعب تونس لا يهان"، "حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة"، إلخ. وهي شعارات طرحت إسقاط النظام وشهّرت بنظام المافيا والفساد وطالبت بالقضاء على الاستبداد ونادت بالحريات. وقد لعب العنصر الثوري والتقدمي من نشطاء الحركات السياسية اليسارية والقومية العاملين في النقابات وفي منظمات حقوق الإنسان والحركة الطلابية والتلمذية ومن العاطلين عن العمل دورا بارزا في بث هذه الشعارات السياسية الواضحة وفي رفع مستوى الوعي أثناء الاحتجاجات من مجرد مطالب اجتماعية أو تعابير احتجاج وتذمّر إلى مطالب سياسية تستهدف نظام الحكم ونمط التنمية المتبع وتنادي بالديمقراطية والحريات وبالتنمية العادلة.

ويمكن القول، أن الثورة التونسية لم تكن ثورة عفوية، بمعنى ثورة احتجاج من دون أفق وأهداف، بل على عكس الدعايات الرائجة، فقد كانت ثورة واعية بمصالحها وبأهدافها واستماتت في الدفاع عنها رغم القمع والإيقاف والقتل وكل أشكال التنكيل ورغم المناورات ومحاولات الالتفاف والمغالطة (خطب بن علي، محاولات حزب التجمع ووسائل الإعلام وحتى بعض المعارضين الإصلاحيين الذين ساروا في ركاب بن علي أيام الثورة).

لكن، وإن كانت الثورة واعية من حيث طرحها السياسي وبرنامجها العام المعبّر عنه في الشعارات والأهداف، فإنها من ناحية التنظيم، وخاصة التنظيم والتخطيط المركزي أي من حيث القيادة، كانت بالفعل عفوية لأنها لم تسر تحت توجيه قيادة سياسية موحدة ومنظمة بقدر ما سارت إمّا بكامل العفوية (خاصة في الأحياء الكبرى في تونس العاصمة) أو تحت قيادات سياسية ونقابية جهوية منفصلة اجتهدت كل واحدة منها وفق المعطيات الخصوصية للجهة وبحسب قدرتها على التأثير والقيادة. ورغم أن وسائل الاتصال الحديثة (الهاتف والأنترنيت...) قد ساعدت بشكل كبير على انتشار المعلومات والأخبار وحتى على تنظيم التحركات وعمليات المساندة أحيانا فإنها مع ذلك لم تكن لتفوّض دور القيادة السياسية المنظمة والممركزة للثورة.

ومعلوم أن هذه النقيصة الكبرى توعز لتخلف الحركة السياسية في تونس بشكل عام ولتخلفها خصوصا عن الانتفاضة. فالحركة السياسية المعارضة، أحزابا وتنظيمات، كانت، ولأسباب تاريخية وسياسية معروفة، تعاني من الانحسار والتشتت والانقسام.

لقد عمل بن علي منذ مجيئه للحكم إثر انقلاب 7 نوفمبر على تهميش أحزاب المعارضة وعزلها عن الحركة الاجتماعية، وعلى بث التناحر والانقسام فيما بينها بل وذهب إلى إثارة القلاقل داخل كل حزب علاوة على تدجين كل الأحزاب المعترف بها تقريبا إما بربطها بعجلة نظامه وتحويلها إلى واجهة ديكورية للدكتاتورية التي أقامها أو بمحاصرة كل من حاول منها الحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والنقد تجاه نظامه. أمّا الأحزاب غير المعترف بها فقد ألحق بها سلسلة من حملات القمع المتتالية التي أنهكتها وأجبرتها على العمل في السرية المطبقة وضرب حولها حصارا بوليسيا مشدّدا ومنعها من أبسط أشكال التعبير والاتصال والعمل. وفي مثل هذه الأجواء عاشت كلّ أحزاب المعارضة (بما في ذلك الموالية لبن علي) تحت وطأة الانغلاق السياسي والإعلامي التام ولم تكن بالتالي مهيأة لأبسط المعارك السياسية بما في ذلك الانتخابية منها، فما بالك للتأثير أو قيادة تحركات وانتفاضات اجتماعية جماهيرية كبرى من قبيل انتفاضة الحوض المنجمي أو ثورة الكرامة الأخيرة.

غير أنه لا بدّ من القول أيضا أنه علاوة على هذه العوائق الموضوعية، فإن الغالبية العظمى من أحزاب المعارضة كانت تفتقد لبرامج تغيير حقيقية وشاملة وكانت تركز أساسا على الجوانب السياسية مهملة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لذلك بدت كأحزاب ليبيرالية غير مرتبطة، حتى من حيث الأطروحات، بشرائح الشعب المفقر. بل أن الكثير منها كان يقرّ ويروّج للمعجزة الاقتصادية التونسية حاصرا بذلك إخفاقاته مع نظام بن علي في مسألة الحريات فقط. ولم تكن قوى اليسار بأفضل حال، ذلك أن بعض حساسياته وتياراته تحوّلت إلى فعاليّات نقابيّة منغمسة في صراعات المواقع داخل الجهاز البيروقراطي للاتحاد العام التونسي للشغل ومنحصرة في أحسن الحالات في المطالب المادية والمهنية الجزئية منصرفة عن قضايا المجتمع والحكم حتى غدا نوعا من البيروقراطية الناشئة. أما بعضها الآخر فقد انحاز، حين استشعر أهمية النضال السياسي العام، إلى الجبهة الإصلاحية جاعلا من فزّاعة "الإسلاميين" ذريعة للتغطية على نزعته الإصلاحية المتهافتة.

وبمثل هذه التوجهات وهذه المعنويات لم تأخذ هذه الطائفة من الأحزاب والحساسيات السياسية الإنذار الذي وجهته حركة الحوض المنجمي مأخذ الجدّ ولم تقرأ في تتالي الاحتجاجات من فريانة إلى بن قردان مرورا بالصخيرة وجبنيانة وغيرها ما ينبئ باحتمال انفجار الأوضاع الاجتماعية وقيام الثورة في تونس. لذلك لم تعدّ نفسها بصورة مسبّقة لهذه التطورات التي كانت كل الدلائل تشير إلى حتمية قيامها.

أما حزب العمال رغم كونه تنبأ بهذه الانتفاضة ونبه إلى حتمية انفجارها منذ ما يزيد عن سنة وأكد مجددا على قرب اندلاعها (انظر افتتاحية "صوت الشعب" عدد نوفمبر 2010 بعنوان "الحركة الاجتماعية تطل برأسها"، وأعد مناضليه لذلك من جميع النواحي السياسية والإيديولوجية والتنظيمية والأجنبية، فإنه لم يكن قادرا لوحده على تأمين قيادة سياسية مركزية فاعلة للثورة لمحدودية إمكانياته البشرية والعملية للعوامل الموضوعية والتاريخية التي سبق ذكرها.

وخلاصة القول فإن الثورة التونسية وفي غياب القيادة السياسية الواعية الماسكة بكل أدوات ومقومات التأطير فيها والتأثير والترجمة ونظرا بمحدودية دور الطبقة العاملة فيها واعتبارا للدور الذي لعبته بقية الشرائح الأخرى الكادحة البرجوازية الصغيرة المدينية والريفية في مجرياتها، كانت ثورة برجوازية صغيرة ديمقراطية استهدفت الدكتاتورية، أي لم يتجاوز سقفها تغيير شكل الدولة من شكل استبدادي فاشستي إلى شكل ديمقراطي يتراوح بين الشكل الديمقراطي الشعبي والشكل الديمقراطي البرجوازي الليبرالي. ولا يزال يجري حتى اليوم صراع مرير بين الرؤيتين اللتين بينهما توزعت القوى السياسية توزيعا جديدا.

2 – آفاق الثورة:

ما تزال الثورة في تونس في منتصف الطريق إذ أسقطت الدكتاتور بن علي ولم تسقط بعد أركان الدكتاتوري كنظام، ذلك أن الأجهزة التي حكم بها بن علي من مجلس نواب ومجلس مستشارين (رغم تجميدهما شكليا) ومن جهاز الحزب الدستوري والبوليس السياسي والأجهزة الإدارية على صورتها القديمة، لا تزال قائمة وهي تحاول اليوم العودة للعمل تحت الحكومة الحالية، حكومة الغنوشي المعززة بحزبي "الديمقراطي التقدمي" و"التجديد".

وفيما يحاول الشعب وقواه الثورية والديمقراطية العمل على استكمال هذه الثورة لتحقق كل أهدافها، تحاول الرجعية المتمثلة في بقايا النظام القديم معتمدة على التحالف الجديد مع حزبي "التجديد" و"الديمقراطي التقدمي" وبمساعدة خفية من دوائر أجنبية (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وليبيا) الالتفاف عليها وإجهاضها والاكتفاء بالتنازل عن بعض الإصلاحات الجزئية الظرفية.

إن ثورة الشعب التونسي في مفترق الطرق بين خيارين أساسيين، إما المضي قدما في تحقيق أهدافها وإما الخضوع لمخطط الالتفاف والإجهاض الذي تنفذه الحكومة تدريجيا بالتغاضي لا فقط عن مطالب الثورة الأساسية وإنما أيضا بالتراجع حتى عن بعض القرارات التي اضطرت لاتخاذها تحت وطأة الضغط الشعبي مثل حل الحزب الدستوري وتعقب ومحاكمة رموز النظام البائد، إلخ.

وليس خاف عن أحد أن دفـْع الثورة إلى الأمام وإفشال هذا المخطط يقتضي اليوم مزيدا من الضغط الشعبي والإصرار أكثر على إسقاط هذه الحكومة للانطلاق في مسار جدّي للإعداد وتنفيذ برنامج التغيير الديمقراطي الحقيقي.

صحيح أن التحاق حزبي "الديمقراطي التقدمي" و"التجديد" وبعض الوجوه المحسوبة على المعارضة والاستقلالية كوزير التربية الحالي الطيب البكوش أو وزير العدل لزهر الشابي كان قد لعب دورا خطيرا في مغالطة الرأي العام الوطني وإرباك جزء من فعاليات الثورة.

صحيح أن الدور المخزي للبيروقراطية النقابية في اتحاد الشغل الذي لعب أمينه العام عبد السلام جراد دورا تخريبيا لجرّ هيئته الإدارية لاتخاذ مواقف مساندة للحكومة كان هو الآخر قد بثّ الكثير من الأوهام والغموض حول الحكومة الجديدة.

صحيح أن ارتباك وتردّد الكثير من فعاليات المجتمع المدني وبعض مناضلي الجهات حيال الحكومة الجديدة قد أضفى عليها ولو لفترة قصيرة نوعا من المصداقية وبثّ الوهم حول إمكانية أن تكون الحل لإعادة الاستقرار والأمن ولعودة الحياة العامة لمجراها الطبيعي ولإجراء التغيير الديمقراطي في تونس.

لقد شكـّل تعيين الحكومة الجديدة عاملا كبيرا في تراجع حركة الاحتجاج الميداني في الشـّارع طوال الأسابيع الأخيرة. ولكنّ العديد من ممارسات وقرارات هذه الحكومة، مثل الهجوم القمعي الفاشستي على اعتصام القصبة الذي دشنت به عهدها وتهجمات وزير التربية على سلك الأساتذة وتعيين ولاة جدد من التجمع الدستوري الديمقراطي وتعيين رؤساء اللجان الثلاث (الإصلاح السياسي، تقصي الحقائق حول الفساد والتجاوزات الأمنية)، كل هذه الممارسات والقرارات وغيرها عجلت في كشف حقيقتها كحكومة معادية للثورة رغم كل الجهود التي يبذلها نجيب الشابي وأحمد إبراهيم والطيب البكوش والغنوشي لمغالطة الشعب. لذلك هبّتْ الجماهير مجدّدا لطرد الولاة التجمعيّين ووزير الخارجيّة (أحمد ونيّس)، واستمرّت في محاصرة رموز التجمّع في الإدارات والمؤسسات، وواصلت تركيز اللـّجان الجهويّة والمحلية لصيانة مكاسب الثورة، ونظمت المسيرات والاحتجاجات وقوافل التضامن والشكر للجهات الأكثر تضررا من أحداث قمع الثورة، ودعت مجددا لحل "التجمع الدستوري" وتصفية أملاكه ومقراته وحل الحكومة، ورفضت اللجان الصورية والفوقية. ويتخذ نسق هذه الأعمال شكلا تصاعديا حتى عاد اليوم شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" إلى صدارة الاهتمامات والمطالب والتحركات. وفي خضم هذه التطورات الهامة تحسن دور المعارضة السياسية، أحزابا وجمعيات ومنظمات، لعل أبرز ما يدل على ذلك ظهور جبهة 14 جانفي التي قدّمت بديلا سياسيا متكاملا ساهم في جمع كل الفعاليات حول مشروع بعث المجلس الوطني لحماية الثورة.

إن ميلاد "المجلس الوطني لحماية الثورة" يعدّ في حدّ ذاته خطوة سياسية على غاية من الأهمية تعطي لمواجهة الحكومة المنصّبة أبعادا جديدة إذ يقدم بديلا سياسيا وعمليا لتجاوز ما يسمى بالفراغ الدستوري والسياسي علاوة على أنه يشكل عامل ضغط من فوق على الحكومة وأداة سياسية لتوجيه وقيادة الضغوط القاعدية والتعبئة الجماهيرية في الجهات والنقابات وفي قطاع الشباب وكل فعاليات الشارع المحتج حتى إسقاط الحكومة. ويكرّس "المجلس الوطني لحماية الثورة" مبدأ الشرعية الثورية التي حلت محل شرعيّة مؤسسات النظام القديم ويفتح الباب لتجاوز كل الالتباسات حول مشروعية الإجراءات المتخذة أو الواجب اتخاذها لتأمين الانتقال الديمقراطي السلمي نحو نظام ديمقراطي شعبي حقيقي.

فالمجلس الوطني بتركيبته يمثل كل تعبيرات الشّعب، السياسية منها (الأحزاب) والمدنية (الجمعيات والمنظمات) والنقابية (اتحاد الشغل والمنظمات المهنية الأخرى كالمحامين والصحافيين والعاطلين عن العمل) والجهات (المجالس الجهوية لحماية الثورة واللجان) ويشكل بالتالي نوعا من البرلمان المؤقت الممثل للإرادة الشعبية تمثيلا توافقيا يتناسب مع طبيعة الظرف في ظل استحالة تنظيم انتخابات فورية وفي ظل غياب القوانين المنظمة للحياة السياسية الموروثة عن النظام السابق والمنافية لأبسط قيم الحريّة والديمقراطيّة قد جمّد العمل بها.

وبالنظر لخاصيّة هذا المجلس كهيئة نيابيّة توافقية، هي الأقرب في الظرف الراهن لتمثيل فعاليات وتعبيرات الشعب، فإنه يبقى الإطار الأكثر مشروعية لاستصدار الأحكام والقوانين الوقتية لتنظيم الحياة السياسية في المرحلة الراهنة ريثما يقع تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي. و"المجلس الوطني لحماية الثورة" هو الإطار المؤهّل بحكم خاصيّاته أيضا لتعيين الحكومة الجديدة التي بدورها أن تحوز على قبول كل فعاليّات وتعبيرات الشعب وتكون بالتالي قادرة على تصريف شؤون الحياة العامة في المرحلة الانتقالية برضا الشعب ومساندتها بما يسمح لها بإعادة بسط الأمن بتعاون شعبي واسع وبإعادة تنشيط أجهزة الإنتاج والتجارة وكامل الدورة الاقتصادية وتنظيم الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والرياضية دون تعطيل أو معارضة.

لقد اهتدت الثورة أخيرا بعد مرحلة من التردّد والشكّ إلى توفير الأداة والمدخل لحسم الصراع الدائر بين إرادة استكمال مهام الثورة وبين إصرار قوى الردة على إجهاضها. فالمجلس الوطني لحماية الثورة هو اليوم المدخل إلى المرحلة الجديدة، مرحلة فض كل أشكال التلاعب "الدستوري" والحلول المتخذة على مقاس حكومة بقايا النظام القديم. وهو المدخل لتسيير المرحلة الانتقالية تشريعا وتنفيذا عبر مراقبة الحكومة أو حلها وتعويضها بأخرى مقبولة من قبل الشعب وهو المدخل أيضا لإعداد الانتخابات القادمة.

وسيكون من الوجاهة بمكان أن يضفي الرئيس المؤقت على هذا المجلس الطابع "الشرعي" بالتصديق عليه هذا إذا كان فعلا قابلا بانتقال السلطة بصورة سلمية وتجنيب البلاد حالة من الازدواجية في السلطة مع ما قد ينجر عن ذلك من تطورات خطيرة. أما إذا خضع الرئيس المؤقت إلى ضغوط حكومة الغنوشي ورفض "تشريع" المجلس فإن هذا الأخير سيضطر إلى أن يفرض مشروعيته بالقوة معتمدا على قبول الشعب به، فعاليات سياسية وجمعياتية وجهوية.

إن الحكومة الحالية لا تستند إلا إلى بقايا الأجهزة القديمة لنظام بن علي مدعومة بالأموال المكدسة لديها وبمساندة ودعم الدوائر الأمريكية والأوروبية، ولكنها بالمقابل تفتقد للشرعية والمساندة الشعبية.

أمّا المجلس فإنه كسلطة جديدة يستند إلى الشرعية الشعبية التي تمثلها الأحزاب والجمعيات والمنظمات والجهات واللجان والمجالس الشعبية. ورغم أنه يفتقد للأجهزة الإدارية الرسمية وللأموال التي في حوزة الحكومة الحالية فإن مساندة الشعب له تبقى هي العنصر الحاسم في الصراع الدائر الآن والذي من المنتظر أن يحتدم أكثر في الأيّام القادمة.

وتؤكـّد حالة نهوض حركة الاحتجاج الجديدة التي دشـّنها اعتصام القصبة الحالي والتحركات في الجهات وانتشار المسيرات والمظاهرات وتصاعد نسق بعث اللجان والمجالس الجهوية، تؤكد كلها أن حالة اللاحسم التي دامت بضعة أسابيع آخذة في التطور نحو الحسم لصالح المجلس الوطني لحماية الثورة والتمشي الذي وضعه لاستكمال مهام الثورة. ويعتقد أن الفترة القليلة القادمة ستأتي بالجديد في هذا الصدد ومن غير المستبعد أن تجبر الحكومة ذاتها على الانحلال والتلاشي.

3 – معيقات الثورة وعوامل نجاحها:

وتبقى هذه المؤشرات بلا معنى إذا لم يقع تحويلها فعلا إلى شروط مادية لفرض التغيير، إذا لم يقع تكثيف الضغط الشعبي في كل قطاعات الشعب، الشباب والنقابات والجهات والشارع، حتى تضطر الحكومة إلى الإذعان لإرادة الشعب وتحلّ نفسها بنفسها فاسحة المجال إلى حكومة تحظى بثقة الشعب وقادرة على بسط الاستقرار والهدوء وتصريف شؤون المواطنين وتعد بسرعة شروط تنظيم انتخابات عامة لانتخاب برلمان جديد لنظام سياسي جديد، أي وضع دستور جديد يؤسّس لحياة سياسية جديدة. ومن هنا جاءت صفة "التأسيسي" لهذا البرلمان، لهذا المجلس النيابي.

إن العقبة الأولى في وجه هذه الإمكانية هو الحكومة الحالية المتمترسة في كراسيها متعللة بالشرعية. ونتساءل هنا من أين استمدت هذه الحكومة شرعيتها؟ هل استمدتها من الشعب؟ أم من القانون؟ أم من مؤسسات نظام بن علي؟ وللجواب على ذلك لا بدّ من القول أن الشعب أكد ويؤكد اليوم مجددا أنه غير قابل بهذه الحكومة ولا هو راض عنها وليس أدل على ذلك من الاعتصامات والمظاهرات والمسيرات التي هي الآن بصدد الانتشار في كل مكان منادية بإسقاط النظام وإسقاط الحكومة. وقد سبق للشعب أن عبّر عن استيائه من التشكيلة الحكومية إبّان الإعلان عنها. وجاء هذا الرفض في تحركات الجهات وتشكيل اللجان الخارجة عن سلطة الحكومة كما جاء في رفض الولاة الذين عيّنتهم. وحتى المنظمات التي زكـّت الحكومة، مثل عمادة المحامين واتحاد الشغل فقد استنكرت قواعدها هذه التزكية ولقيت قيادتهما نقودا حادة من منخرطيها ممّا أجبر هيئة المحامين على إصدار موقف ثان مناقض لموقف التزكية، موقف رافض للحكومة. وأجبرت قيادة الاتحاد على التراجع تدريجيا عن موقفها المساند للحكومة والعودة مجددا إلى العمل ضمن الأحزاب والجمعيات والمنظمات المطالبة بمجلس وطني لحماية الثورة. فمن أين إذن استمدت الحكومة شرعيتها؟ هل من القوانين الحالية؟ إذا كان الأمر كذلك لا بدّ من التذكير أن الثورة قد وضعت ترسانة القوانين بما في ذلك الدستور جانبا باعتبارها قوانين موروثة عن نظام بن علي، أي قوانين الدكتاتورية التي رفضها الشعب. فالاستناد إلى هذه القوانين هو نفي للثورة وتشبث بأسس العهد البائد وهو تبرير مرفوض لمشروعية مرفوضة. أما إذا كان الادعاء بالشرعية يستند إلى مؤسسات النظام السابق فهو كذلك طغى في الثورة وتشبث بالنظام القديم والحال أن الشعب نادى ولا يزال ينادي بحل هذه المؤسسات من مجلس النواب إلى مجلس المستشارين إلى جهاز التجمّع الدستوري الديمقراطي وجهاز البوليس السياسي والمجالس الجهوية والبلدية المنصبة. إن كل هذه المؤسسات مرفوضة من الشعب ومطعون في شرعيتها ولا يمكن أن تكون سندا لشرعية الحكومة. وعليه فإن الحكومة الحالية حتى وإن ضمت في صفوفها أحزابا وقفت بهذا الحد أو ذاك ضد نظام بن علي، حكومة غير شرعية وتشبثها بهذا الادعاء وإصرارها على البقاء هو شكل من أشكال التصعيد وتعمد استبقاء التوتر ومثار لمزيد الاحتجاج والتمرد الأمر الذي سيزيد من تعطيل الحياة العامة والحركة الاقتصادية.

وتتحمل الحكومة الحالية تبعات هذا التصعيد وكل الانعكاسات السلبية لا فقط على النظام العام بل وكذلك على شروط الحياة المادية للشعب والبلاد في توقف الحياة الاقتصادية.

وتمثل حملات الإعلام المنظم حول فزّاعة "الفراغ" واحدة من عوائق تطور الثورة وبلوغ أهدافها، لأن هذه الحملة التي تبث المغالطات والخوف في صفوف الشعب رغم فشلها إلى حد الآن في ذلك، تهدف إلى تقسيم الشعب وربما إثارة نوع من الاقتتال داخله والتنحي عن ثورته وأهدافها.

وعلاوة على ذلك فإن هذه الحملة عادت لتوظف مجددا وسائل الإعلام لصالحها وإقصاء الرأي المخالف وتجديد أساليب الدعاية القديمة التي مارسها نظام بن علي. ولولا استمرار الضغط لذهبت الحكومة بعيدا في إجراءاتها لمحاصرة حرية التعبير علما وأنها حالما أعلنت عن تشكيلتها أصدرت أوامرها للقنوات التلفزية والإذاعية والجرائد بالتركيز على الدعاية لها والتضييق على الرأي المخالف لها. وليس من باب الادعاء القول أن الشعب تفطن مبكرا لهذا التحول السلبي في أداء وسائل الإعلام، الأمر الذي جعل الكثير من الناس يرفض بعض وسائل الإعلام ويطردها ويمنعها حتى من تغطية بعض التحرّكات والأنشطة.

إضافة إلى ذلك تستعمل الحكومة الحالية أشكالا أخرى متعددة لعرقلة تطور الثورة. من ذلك استعمالها للمال العام بشكل زبوني وحث المؤسسات المالية العمومية والأجنبية على دعمها ماليا، وهو ما كشف بسرعة عن حقيقتها كحكومة مأجورة ومرتبطة بالخارج. ونلاحظ اليوم تكثيف أمريكا وأوروبا وخاصة فرنسا من تدخلاتها من أجل تمويل حكومة الغنوشي حتى تتمكن من التغلب على مصاعبها المالية وإرضاء قطاعات من المحتجّين حتى تصرف النظر عن موقفها السّياسي الرافض لها.

ولكن الشعب التونسي أبدى درجة عالية من النضج وأدرك مقاصد كل هذه المحاولات لإعاقة الثورة. فبعد مدة قصيرة من الارتباك والتردد عادت الحركة لسالف حيويتها لتطالب مجددا بحل الحكومة وإسقاط النظام مسلحة هذه المرة ببديلها العملي لما يسمّى بالفراغ وبتمشّي متكامل حتى إقامة مؤسسات النظام الجديد. وتستدعي هذه العودة تصعيد التعبئة الشعبية في الجهات ولجانها ومجالسها لحماية الثورة وفي قطاعات الشباب والنقابات والمحامين وفي الشارع الشعبي ككل فالنصر بات قريبا.