تجديد الحركة التقدمية المصرية - الجزء الأول


عبد الغفار شكر
2004 / 12 / 10 - 05:16     

(1) فقه الأزمة
هذه رؤية لمستقبل الحركة التقدمية المصرية أطرحها انطلاقا من قناعتى بأن مصر لن تخرج من أزمتها الراهنة ما لم تخرج القوى التقدمية المصرية اولا من أزمتها، وما لم تبرز الحركة التقدمية فى المجتمع المصرى كقطب مستقل قادر على إلهام ملايين المصريين وجذبهم للعمل فى إطار برنامجه وأهدافه وتعبئتهم للنضال فى إطار تنظيماته، كما كان العهد دائماً بالحركة التقدمية فى فترات سابقة من تاريخ مصر. ونحن ما زلنا نذكر كيف كان نهوض الحركة التقدمية المصرية بعد الحرب العالمية الثانية عاملاً أساسياً فى نهوض الحركة الوطنية المصرية، وكيف استمر هذا الوضع طوال الخمسينات، وكيف كان نهوضها من جديد فى النصف الثانى من الستينيات عاملاً أساسياً فى صمود الشعب المصرى فى مواجهة التحديات الخارجية ومقاومته لسياسات الردة فى السبعينيات التى تعتبر نكوصاً على قيم وتقاليد وأهداف الحركة الوطنية المصرية.
وبالتالى فإننا نرى أن انحسار نفوذ وجاذبية الحركة التقدمية المصرية فى السنوات الأخيرة ليس نهاية المطاف بل لا بد أن تكون له أسبابه التى يتعين علينا علاجها. أننا نواجه وضعاً شائكاً هذه الأيام، فكثير مما ناضل التقدميون المصريون من أجله ونذروا حياتهم لتحقيقه يفقد معناه لدى الأجيال الجديدة، بل إنه يكتسب دلالات غامضة بل مشوهة وملتبسة مثل الاشتراكية والاستقلال الوطنى والنضال ضد الامبريالية والوحدة العربية والصراع ضد الصهيونية!! وعلينا أن نعيد طرح مفاهيمنا الأساسية على ضوء ما حدث من متغيرات، وأن نواكب حركة المجتمع فيما استجد من ظواهر وأن نفتح الباب لتحويل الحركة التقدمية المصرية إلى حركة مستقبلية لا تعيش على اجترار الماضى وترديد مقولاته، الأمر الذى يتطلب أن نتعرف على آفاق التقدم التاريخية المطروحة على البشرية، وأن نتفاعل معها من خلال رؤية بعيدة المدى تتفاعل مع التطورات الجارية، وتستخلص منها مخططا للعمل لفترة طويلة قادمة، وليس كما يحدث الآن بالنظر إلى ما تحت الأقدام والتركيز على اللحظة الراهنة فقط، ولا أزعم أننى قادر بجهد فردى على أن أطرح رؤية متكاملة بل كل ما أستطيعه أن أطرح القضية نفسها للنقاش العام وخاصة أن كثيرا من الجهود الفكرية والبحثية تعالج هذه المسألة.
منذ سنوات وهناك مفكرون تقدميون كرسوا جهودهم وقدراتهم لطرح الجديد فى هذا المجال، وتستند هذه الدراسة إلى أعمالهم وبصفة خاصة كتاب الدكتور اسماعيل صبرى عبد الله (مصر التى نريدها)، وكتاب الدكتور ابراهيم سعد الدين (أزمة النظام الاشتراكى)، وكتاب الدكتور فؤاد مرسى (الرأسمالية تجدد نفسها)، وكتاب الدكتور نبيل على (العرب وعصر المعلومات)، وكتابات الدكتور سمير أمين عن ظاهرة العولمة الرأسمالية، وكتابات الدكتور إبراهيم العيسوى عن أزمة مصر الراهنة، وكتابات الدكتور محمود عبد الفضيل عن الفئات الوسطى، وكتابات راجى عنايت عن المستقبليات، ودراسة الدكتور عماد صيام (بناء القوة من أسفل) وما نشر فى مجلة اليسار المصرية ومجلة الطريق اللبنانية ومجلة دراسات سودانية. الخ لقد استفدت بشكل مباشر من هذه الكتابات فيما يتصل بالتعرف على المتغيرات الدولية والمجتمعية الجديدة ومستقبل الحركة التقدمية وهناك اقتباسات كاملة منها فى هذه الدراسة. ومع ذلك فإن ما أطرحه من رأى هو مسئوليتى وحدى لأنه تعبير عن خبرتى المباشرة وقناعاتى الحالية السياسية والفكرية.

هدفنا الاشتراكية
عندما نتحدث عن مستقبل الحركة التقدمية المصرية والحاجة إلى تجديد مفاهيمها الأساسية، فأننا ورغم انحسارها الحالى لا نفقد ثقتنا بالقيم والمثل التقدمية، وما زلنا نعتقد أن الاشتراكية هى مستقبل مصر، وأن المطلوب مراجعته هو مزيد من الفهم للأوضاع المجتمعية الجديدة والإطار الدولى الجديد، وإعادة النظر فى أساليب عملنا وأشكاله التى توصلنا إلى هذا الهدف، وأن نستوعب الدروس المستفادة من فشل النموذج الاشتراكى السوفيتى.
لقد أثبتت التجربة أن الرأسمالية ليست فقط عاجزة عن إخراج مصر من أزمتها، بل إنها المسئول الأساسى عن هذه الأزمة، وأن المخرج منها هو بناء وتطوير نظام بديل للرأسمالية يكون أكثر كفاءة وأكثر عدالة وأكثر ديمقراطية، والدليل على ذلك هو خبرتنا المباشرة فى مصر فى السنوات الأخيرة، فمع التوجه نحو مزيد من الليبرالية الاقتصادية استجابة لتوجهات الدول الدائنة، وتنفيذاً لبرنامج التثبيت وسياسة التكيف الهيكلى زاد تركز الثروة فى أيدى قلة محدودة، وتبلورت أوضاع احتكارية جديدة، واتسعت الفوارق بين الدخول، وهبط مستوى معيشة أغلبية الشعب التى عجزت عن إشباع احتياجاتها الاساسية، وتزايدت معدلات البطالة والفقر وتهميش جزء كبير من القوى البشرية فى المجتمع، وتزايدت نتيجة لذلك حدة التوتر الاجتماعى وعدم الاستقرار السياسى، أى أننا أصبحنا بفضل الرأسمالية نعيش فى ظل أزمة مجتمعية شاملة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية)، لا مخرج منها إلا باحداث تغيير شامل فى كيفية تنظيم عملية الانتاج، وفى طابع ملكية وسائل الإنتاج، وفى القاعدة الاجتماعية للسلطة والحكم، وفى القيم السائدة للمجتمع، وهو ما يعنى ضرورة بناء وتطوير تنظيم اقتصادى اجتماعى سياسى بديل للرأسمالية، يحقق بالفعل الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية فى نفس الوقت، هذا النظام البديل هو النظام الاشتراكى الذى نتحمل مسئولية بلورته فى إطار نموذج ينبع من أوضاع المجتمع المصرى، وظروفه واحتياجات تطوره، وليس من نموذج مسبق كالنموذج السوفيتى الذى ثبت فشله. هذا النموذج الجديد سيتشكل على أساس المعطيات الخاصة بالمجتمع المصرى، وعلى أساس من نوعية المشاكل التى نواجهها، ودراسة وبلورة شكل التنظيم الاقتصادى الاجتماعى الأقدر على تحقيق التقدم والكفاءة والعدل والديمقراطية فى مصر، بشرط أن يبلور هذا النموذج المطلوب فى مصر الأساسيات التالية للاشتراكية المبتغاه:
** اشتراكية تبنى على الاقتناع والاختيار الديمقراطى وليس الفرض، فأن بناء الاشتراكية بواسطة أقلية ثورية تمكنت من الاستيلاء على السلطة يقود بالضرورة ومهما حسنت النيات إلى محاولة بناء الاشتراكية لصالح الجماهير وليس بواسطتها. ويؤدى فى النهاية إلى قدر أو أكثر من القهر وفرض الإرادة باسم مصلحة الجماهير ويلغى بالتالى ركنا أساسياً من اركان الاشتراكية وهو ديمقراطيتها.
**اشتراكية يتجدد الالتزام بها ديمقراطيا على اساس انجازاتها الفعلية، فى إطار من تعددية سياسية، تتيح لكل القوى الاجتماعية والسياسية حرية التنظيم والاجتماع والرأى، وطرح برامج بديلة والسعى لتداول السلطة سلمياً.
** اشتراكية تتيح حرية المبادرة والمبادأة لكل القوى الاجتماعية والجماعات والأفراد، وتثبت كفاءتها بالاستناد إلى قواعد السوق والتنافس والاختيار الحر دون فرض من سلطة إدارية، أو الاستناد إلى أوامر الدولة ونواهيها.
** اشتراكية تحد من المركزية ومن سيطرة المركز الواحد ومن سلطة بيروقراطية الدولة أو الحزب، وتمنح سلطات واسعة للمحليات ومجموع العاملين فى مشروعات إنتاج السلع والخدمات، كما تتيح فرصا واسعة للمستهلكين فى التعبير عن تفضيلاتهم، وفى الاختيار الحر بين بدائل مختلفة من السلع والخدمات تنتج لتلبية طلباتهم.
** اشتراكية تتبنى التعدد الثقافى والفكرى، وتشجع الحوار الحر بين الأفكار والأفراد والجماعات.

لماذا تجديد الحركة التقدمية؟
غنى عن الذكر أن هذه الأساسيات العامة للاشتراكية التى ننشدها تحتاج إلى جهود مكثفة تقوم بها القوى التقدمية لتحويلها إلى مشروع فكرى متكامل يستجيب لاحتياجات تطور وتقدم المجتمع المصرى. من هنا... من حاجة مصر إلى هذا النظام البديل للرأسمالية وإلى من يبلور مشروعه ويطرحه على المجتمع المصرى ويدعو الشعب إلى الالتفاف حوله تبرز الحاجة إلى استعادة الحركة التقدمية المصرية لفاعليتها وحيويتها وترابطها، ويتضح المعنى المقصود لقولنا إن مصر لن تخرج من أزمتها إلا إذا خرجت الحركة التقدمية أولا من أزمتها.
وإذا كانت الحاجة إلى حركة تقدمية فاعلة تتبع أساساً من الحاجة إلى هذا البديل فهناك كثير من الأسباب المباشرة تؤكد أن تجديد الحركة التقدمية ضرورة لا غنى عنها لاكتساب الفاعلية المنشودة مثل:
أولاً: انشغلت القوى التقدمية طويلا بالحديث عن الأزمة.. أزمة اليسار وأزمة الاشتراكية وأزمة القيادة.. الخ، بحثنا كثيراً فى أسبابها الموضوعية والذاتية، وفى مظاهرها وأبعادها ونتائجها، ساهم فى ذلك كثير من المفكرين ومراكز الأبحاث، والتنظيمات السياسية وعقدنا من أجلها عشرات الندوات والمؤتمرات العلمية، وتوسعنا فى هذا المجال إلى درجة يمكن القول معها أننا نمتلك الآن ثروة هائلة من الأبحاث والدراسات والتحليلات يمكن إدراجها تحت عنوان "فقه الأزمة" وإذا كان البحث فى الأزمة ومسبباتها وظواهرها ونتائجها أمراً ضرورياً فى مرحلة سابقة فإن مواصلته، تحبسنا عن الحركة، وتحد من فاعليتنا وقدرتنا على التعامل مع المستقبل، لقد آن لنا أن ننتقل من فقه الأزمة بما يثيره فى النفس من احباطات وايحاءات بالعجز ومشاعر سوداوية إلى آفاق التقدم بما تطلقه من آمال فى مستقبل أفضل وثقة بالنفس وبالقدرة على الفعل والتأثير والتغيير. لم يعد مقبولا أن نواصل الحديث عما كان بل أن نشرع فوراً فى بلورة رؤية نضالية متكاملة تنطلق من مشروع فكرى تقدمى جديد، تتضمن أهدافاً، واضحة ومهاما محددة وأساليب عمل متبلورة وصيغا تنظيمية ملائمة. وأن نضع هذه الرؤية موضع التطبيق ونتابع من خلال الممارسة مدى صلاحيتها لإخراج القوى التقدمية المصرية من مآزقها. لم يعد أمامنا هامش من الوقت نضيعه فى مواصلة الحديث عن الأزمة، بل أصبح الالتفات إلى المستقبل والعمل من أجله هدفا ملحا بدلا من الانشغال بالماضى والاقتتال حوله أو التباكى عليه.
آن لنا أن ننتقل من فقه الأزمة إلى آفاق التقدم ليس من أجلنا نحن الذين لم يبق فى أعمارنا بقية تكفى لجنى ثمار هذه العملية بل من أجل الأجيال الشابة من المثقفين والمناضلين التقدميين الذين يتحرقون شوقاً إلى الفعل والعمل والتضحية ويبحثون عن إطار ملائم يوحدهم ويمكنهم من إطلاق طاقاتهم وتنسيق نضالاتهم ومن أجل الشعب المصرى المصرى الذى طالت معاناته ولن يخرجه منها إلا بناء النظام الاقتصادى الاجتماعى السياسى البديل للرأسمالية، والأكثر كفاءة والأكثر عدلا والأكثر ديمقراطية، ونحن فى تطلعنا للمستقبل لن نبدأ من فراغ فهناك بالفعل كما أوضحت من قبل أعمال فكرية تدور حول مستقبل الحركة التقدمية وإن كانت لا تزال فى إطار الاجتهادات الشخصية لم تتحول بعد إلى رؤية عامة يرتبط بها ويعمل فى إطارها دوائر واسعة من التقدميين المصريين.
وهناك فى هذا المجال أيضاً عشرات من الأبحاث والدراسات العلمية فى أقسام العلوم الإنسانية بكليات الآداب وفى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فالمادة العلمية الخاصة بواقع ومستقبل الحركة التقدمية المصرية موجودة بوفرة، لكن مشكلتنا الحقيقية هى هذا الانفصال القائم بين الحركة السياسية التقدمية وبين هذه الأعمال والإنجازات الأكاديمية والعلمية فى مجال العلوم الاجتماعية، والذى كان من نتيجته أن هذه الأعمال والإنجازات العلمية ما تزال حبيسة الأدراج.
فى حين أن المجتمع المصرى والنضال التقدمى فى حاجة ماسة للاسترشاد بها والاستفادة منها، وسوف نتناول هذه المشكلة بقدر أكبر من التفصيل عند الحديث عن مكونات الحركة التقدمية المصرية.

لسنا وحدنا
ثانياً: يعزز واقع الصراع الاجتماعى والسياسى المحتدم حاليا حول مستقبل المجتمع المصرى وموقعه من العالم الحاجة على تجديد الحركة التقدمية المصرية، فهذا الصراع يدور أساساً بين ثلاث حركات اجتماعية للتغيير لكل منها موقفها الفكرى واستراتيجيتها حول مستقبل المجتمع المصرى وعلاقته بالعالم الخارجى وهى:
** الحركة الليبرالية.
** الحركة السلفية (حركة الإسلام السياسى).
** الحركة التقدمية.
ومن الجدير بالذكر أننا نتحدث هنا عن الحركة الاجتماعية للتغيير، بمعنى أنها "ذلك النشاط الاجتماعى الذى يأخذ غالبا فى البداية شكل التصورات والمشاعر غير المنتظمة، والذى يعبر عنه تدريجيا بأشكال جديدة من السلوك والاعتقاد الجمعى، والتى لا تجد منافذ للتعبير عنها، فتتحول إلى حركة منظمة تسعى لهدم الأنماط الاجتماعية الموجودة وتستبدلها بأخرى أو على الأقل تعدلها بما يتناسب مع توجهاتها، وهى من ثم تتجلى فى تعبيرات متنوعة ثقافية وفكرية ونفسية اجتماعية وحركية وتنظيمية، ويشمل مجالها الاجتماعى الجوانب الاقتصادية والسياسية أيضاً، وتتفاوت أوضاع وقدرة وتأثير الحركات الاجتماعية للتغيير بقدر ما يتوفر لها من مزايا نسبية وعوامل قوة، وعندما نتفحص جيداً واقع هذه الحركات الثلاث فى مصر وما تتمتع به كل منها من عوامل قوة ومزايا نسبية فإننا سندرك جيداً مدى الحاجة الملحة إلى تجديد الحركة التقدمية وتطويرها.
*** فالحركة الليبرالية: تنشط فى إطار فلسفة الليبرالية الجديدة التى تؤمن بالقيم التقليدية لليبرالية الاقتصادية، وترفض تدخل الدولة وتسعى إلى إلغاء كل القيود التشريعية والتنظيمية والإدارية التى تحول دون استكمال التحول الليبرالى الكامل للاقتصاد المصرى، وتصفية بقايا التدخل الحكومى الموروث من العهد الناصرى، وتقبل هذه الحركة بالاندماج الكامل فى السوق الرأسمالى العالمى، وتسلم بعدم القدرة على تغيير الواقع، وعدم وجود بديل أمام دول العالم الثالث سوى الاندماج فى السوق الرأسمالى العالمى، والانفتاح على الشركات متعددة الجنسية، وإجراء التعديلات اللازمة فى الأوضاع الداخلية لتسمح باندماج السوق الوطنى فى السوق العالمى، والخضوع لشروطه حتى وأن أدى ذلك للتبعية الاقتصادية وفقدان الاستقلال، وبالرغم من أن الليبرالية السياسية مكون أساسى فى الفلسفة الليبرالية إلا أن الحركة الليبرالية فى مصر لا تبدى اهتماماً جاداً بإجراء اصلاحات سياسية ديمقراطية تواكب التحولات الليبرالية الاقتصادية، وتمتلك الحركة الليبرالية فى مصر عناصر قوة عديدة يأتى على رأسها التزام الحكم بتنفيذ برنامج متفق عليه مع صندوق النقد الدولى والبنك الدولى فى إطار سياسة التثبيت والتكيف الهيكلى، وبالتالى فإن أجهزة الحكم والسلطة التشريعية وأجهزة الإعلام القومية تعمل كلها فى إطار توجهات الليبرالية الاقتصادية وتعيد تشكيل الاقتصاد المصرى فى هذا الاتجاه، وتضم هذه الحركة فى صفوفها قوى اجتماعية عديدة مستفيدة من سياسة الانفتاح والتوجه الليبرالى للاقتصاد المصرى، وتضم الحركة الليبرالية تعبيراً عن مصالح هذه القوى أحزاباً سياسية متعددة تعمل كلها فى نفس الإطار بالرغم مما قد يكون بينها من تنافس، ولكنها تلتقى جميعها حول نفس الأهداف الاستراتيجية منها الحزب الحاكم وحزب الوفد وحزب الأحرار وتساندها منظمات غير حكومية عديدة مثل جمعيات رجال الأعمال واتحاد الغرف التجارية واتحاد الصناعات وغيرها. ولا يخفى علينا أن هذه العوامل المتوفرة للحركة الليبرالية تمكنها من التأثير الفعال والضغط من أجل مواصلة السير على طريق استكمال استراتيجية التحول الليبرالى.
*** أما الحركة السلفية (حركة الاسلام السياسى): فهى تقوم على التمسك الحرفى بالنصوص الدينية، وتسعى إلى تطبيقها على الواقع الراهن بشكل شامل دون مراعاة للمستجدات والضرورات فى هذا الواقع، أى أنها تسعى إلى إخضاع الحاضر وتطويعه، لأوضاع الماضى، وهى فى معظمها تدعو إلى الانغلاق على الذات ورفض الحضارة الغربية، وترى أن الأوضاع العالمية الراهنة تعبير عن تسلط الغرب على مجتمعنا الشرقى (الإسلامى) وذلك فى جميع ميادين الاقتصاد والأيديولوجيا والقيم والحضارة. وبالرغم من أنها لا تطرح برنامجا سياسيا محدداً لرؤيتها للتنظيم الاقتصادى الاجتماعى السياسى الأفضل لمصر، ولا تطرح بديلا واضحاً للاندماج فى السوق الرأسمالى العالمى، إلا أنها استفادت من الأزمة المجتمعية الشاملة القائمة فى مصر، وخاصة البعد الروحى للأزمة المتمثل فى اغتراب الانسان المصرى وحاجته إلى هوية متميزة تحميه من الانسحاق أمام الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على سياسة الانفتاح والاندماج فى السوق الرأسمالى العالمى. ونجحت الحركة السلفية فى استثمار البعد الروحى للأزمة فقدمت الاسلام باعتباره الحل فى شعار عام لم يترجم إلى برنامج محدد، واخترقت مؤسسات المجتمع المدنى الثقافية والاجتماعية، وبعض الأحزاب السياسية والمؤسسات الإعلامية، ونجحت فى تحقيق قدر كبير من النفوذ والتأثير والفعالية فى المجتمع بما يجعلها المتحدى الأول لنظام الحكم. أنها تجمع الآن فى مواجهتها للحكم بين النشاط المسلح والعمل السياسى، وتستند فى تحركها إلى قاعدة سياسية تشعل الجماعات الإسلامية الجهادية وجماعة الاخوان المسلمين وحزب العمل وحزب الوسط تحت التأسيس، كما تعتمد على قاعدة اقتصادية تشمل العديد من الشركات التجارية ذات الصبغة الإسلامية والمدارس الخاصة وكثير من المشروعات الخدمية المربحة، وتتواجد فى قيادة النقابات المهنية والعديد من الجمعيات الأهلية، وتمتلك مؤسسات إعلامية متعددة تصدر عنها صحف أسبوعية ودورية وكتيبات وكتبا ومنشورات... الخ، وقد أدى هذا كله إلى استجابة أقسام كبيرة من المصريين لتوجهاتها الايديولوجية والتأثر بما تطرحه من أفكار بحيث أصبحت حركة اجتماعية للتغيير فعالة للغاية.
*** أما الحركة التقدمية: فهى ترفض التحولات الليبرالية للاقتصاد المصرى وترفض السلفية فى نفس الوقت، وترى أن بلدان العالم الثالث بما فيها مصر قادرة على طرح بديل للاندماج فى السوق الرأسمالى العالمى من خلال فك الارتباط تدريجيا وتنفيذ سياسة للتنمية المستقلة المتمحورة على الذات تخضع علاقات مصر الخارجية لمقتضيات تنميتها الداخلية وليس العكس دون أن يعنى رفض الاندماج الدعوة إلى الانغلاق أو التقوقع على الذات، بل يتعين التعامل النشط مع العالم ومحاولة التأثير فى العولمة الرأسمالية انطلاقا من الاعتماد الجماعى على الذات لدول العالم الثالث واقليمياً (عربيا) بما يساعد على إمكانية تحقيق عولمة متعددة الأقطاب، وتحسين شروط التبادل عالمياً.
وتتواجد الحركة التقدمية سياسيا فى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى والحزب العربى الديمقراطى الناصرى والتنظيمات الماركسية والتيار الناصرى وأعداد كبيرة غير منظمة فى أى وعاء سياسى رغم سابقة انتماء بعضهم للتنظيمات السياسية، كما أنها تتواجد بشكل ملحوظ فى صفوف المثقفين وأساتذة الجامعات والفنانين، ولكنها فقدت نفوذها التقليدى فى صفوف الشباب، ولم تعد تتواجد فى الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية بشكل واضح، وتفتقر الحركة التقدمية إلى الإمكانيات المادية التى تمكنها من تطوير نشاطها السياسى والجماهيرى وامتلاك أدوات إعلامية فعالة، ويلاحظ أن انحسار الحركة التقدمية المصرية يعود إلى ظروف موضوعية داخلية وخارجية، مثل توقف سياسة التنمية المستقلة، وحركة التصنيع، وتردى الوضع العربى، وأزمة الحركة العالمية للتحرر الوطنى وفشل النموذج الاشتراكى فى الاتحاد السوفيتى وشرق أوروبا، كما يرجع هذا الانحسار إلى عوامل ذاتية ترجع إلى التشرذم وافتقاد التنسيق بين مكوناتها، بالإضافة إلى أنها ما تزال تنشط فى إطار خبرات تشكلت فى السنوات التى أعقبت الحرب العالمية الثانية (46-1952) ولا تزال قيادة هذه الحركة للجيل الذى تكون فكريا وسياسياً فى هذه الفترة، على عكس الحركة الليبرالية والحركة السلفية التى جددت شبابها ويتواجد فى مواقع التأثير فيها قيادات شابة.
هكذا نرى أن المحصلة النهائية لعلاقات القوى بين حركات التغيير الاجتماعية الثلاث فى مصر ليست لصالح الحركة التقدمية، مما يؤكد الحاجة إلى تجديدها لتجاوز هذه الأوضاع، وهناك أيضاً أسباب أخرى تحتم هذا التجديد تتمثل فى المتغيرات الهائلة التى حدثت فى الوضع الدولى والتطورات التى حدثت للمجتمع البشرى نتيجة لذلك.