بين حكم الطبيب و حكم النصيب


نضال الصالح
2011 / 10 / 7 - 18:49     

لم يكن كعادته، كان منفوش الشعر، غائر العينين نحل وجهه حتى تدبب رأس أنفه فأصبح كمنقار صقر، غطت الصفرة وجنتية حتى باتت كأنما سحب الدم منها. سألته: ما بك يا رجل، لقد بدا لي صوتك في الهاتف متوترا والآن أنظر إليك فلا أكاد أعرفك كأنما لم تنم منذ أسابيع. نظر إلي بصمت وبلل شفتيه الجافتين بطرف لسانه وقال: سأموت. أجبته بحدة، وما الغريب في ذلك فكلنا سنموت، هل سمعت عن مخلوق عاش على هذه الأرض إلى الأبد؟ قال: لست أعني ذلك ولكنني سأموت قريبا، خلال أشهر قليلة. ثم وضع أمامي تقرير طبي من مستشفى الأمراض السرطانية. كانت خلاصة التقرير الطبي، أن صديقي مصاب بسرطان الغدد اللمفاوية وأن السرطان متفشي في جميع أعضائه الحيوية.

عرفته منذ ايام الدراسة الجامعية، فلقد جلسنا على المقاعد الجامعية سويا وعشنا في نفس مسكن الطلبة، ولقد نمت بيننا صداقة متينة دامت عبر السنين، مع أن الأيام فرقتنا وجمعتنا عدة مرات.
تخرج من الجامعة وبقي يعمل فيها كمدرس وتخرجت ورحلت إلى بلدي ولكنني عدت من أجل المتابعة الدراسية واجتمعنا من جديد وكأنما لم نفترق أبدا. توفيت زوجته في نفس العام الذي توفيت فيه زوجتي، ولقد تركته خلفها وحيدا ضائعا مع أنهما خلفا معا ولدا كان في عمر الرجولة، ولكنه تزوج من إمرأة عاق عزلته عن أهله، وبعد وفاة والدته إنقطع تماما عن الإتصال بوالده. بقينا عجوزان أرملان نلتقي بين الحين والآخر نستجمع ذكريات الماضي بحلوها ومرها، وكانت عيوننا تدمع تارة فرحا وتارة حزنا.

نظرت إليه ولقد ساد الصمت بيننا فترة، لم ادر ما أقوله لصديقي في هذه الحالة إلى أن خرج من فمي سؤال كنت أعرف جوابه، هل هم متأكدون من هذه النتيجة؟ لقد كان التقرير موقعا من قبل مدير مستشفى السرطان ذاته، وهو فارس في ميدان عمله، مشهور في الدوائر الطبية المحلية والعالمية ولا مجال للتشكيك في النتيجة التي تخرج من مستشفاه وعلى الخصوص تلك الموقعة بإسمه.
بعد لحظات من الصمت قال: " لقد قدروا أنني ساعيش ثلاث إلى أربعة أشهر على أكثر تقدير، لست مستاءا فسألحق بزوجتي وسنلتقي من جديد، لقد جاءت لي في الحلم وأخبرتني أنها تنتظرني. ثم دمعت عيناه وبدأت دموعه تسيل بصمت على وجنتيه. غمرني الحزن وأنا أنظر إلى صديقي وهو على هذا الحال، ولم أستطع أن أتخيل كيف سيكون حالي بعد غيابة، وشعرت أن جزءا من نفسي في طريقه إلى الزوال وإلى الأبد.
نظر إلي بعد أن جفت دموعه وقال: لا تحزن يا صديقي، فكما قلت، كلنا سنموت، بعضنا يلحق الآخر. صمت قليلا ثم تابع: قررت أن اقوم بتلك الرحلة التي طالما حلمت بها، وسازور البلدان التي كنت أتوق لزيارتها، ثم أعود لأنتظر مصيري. عم الصمت بيننا وبقي كل منا غارق في أفكاره، ثم كأنما كان خبر موته حلما، عدنا نتحدث كأن شيئا لم يكن، ورحنا من جديد نستعيد أيام الدراسة ومسكن الطلبة والمقالب الصبيانية التي كنا نقوم بها فضحكنا حتى نزلت دموعنا. ودعته ووقفت أرقبه وهو يبتعد عني، محني الظهر، لا تكاد رجليه تحملانه، إلى أن إختفى عن ناظري.

لم نلتق بعد هذا إلا بعد حوالي الشهرين وكان قد عاد من رحلته. لقد باع كل ما لديه حتى سيارته واخذ كل مدخراته وسافر في رحلته التي كان يحلم بها ولم يستطع تحقيقها بسبب ظروف العمل. رأيته سعيدا وإن بدا عليه التعب. حدثني عن رحلته والبلدان التي زارها، ولم نذكر خلال حديثنا أي كلمة عن الموت أو عن المرض الذي يفتك بجسمه. عنما ودعته قبض على يدي وشدهما وقال:نسيت ان أخبرك أنني بعد عودتي ذهبت إلى المستشفى من أجل الفحص وكانت النتيجة أن وضعي أسوأ مما كان عليه بكثير، ولقد قصرت فترة بقائي على هذه الأرض حتى أنهم يتوقعون رحيلي بين ليلة وضحاها، ثم تابع قائلا: لا تخف يا صديقي فأنا مستعد اليوم لمصيري وأريد أن أشكرك على صداقتك، فلقد كانت بالنسبة لي كنزا لا يعوض، ثم ضحك وقال: ربما سالتقي بزوجتك في العالم الآخر وسأطلعها على أخبارك وساحمل لها منك تحياتك. غادرني قائلا: سأهاتفك!

بدأ صديقي ينتظر الموت. كان في كل مساء يستحم ويتعطر ويرتدي بدلته السوداء التي إرتداها يوم دفن زوجته وتحتها وقميص أبيض وربطة عنق سوداء، ويستلقي في السرير وينتظر الموت. لقد أراد أن يجدوه بعد موته في أحسن هندام.

لم يات الموت. مرت الأيام، ثم الأسابيع وتلتها الأشهر وصديقي لم يمت، كان يهاتفني كل صباح ليخبرني أنه ما زال على قيد الحياة، ولم يبدو مسرورا من ذلك، بل كان مستاءا جدا من هذا الإنتظار. لم يعد يلبس بدلته السوداء ولا قميصه الأبيض مع ربطة العنق. كان يقضي أوقاته في السرير في لباس النوم. مر على خبر مرضه وموته عام ونيف، ثم لم يعد يهاتفني فذهبت لزيارته.
صعقت من منظره ومن منظر البيت الذي يقيم فيه. لقد أطال لحيته وطال شعره حتى تدلى فوق كتفيه. كان بيته مليئ بالقذورات وعلب الماكولات الفارغة وكانت رائحة العفن تملأ المكان. سحبته من سريره بالقوة وأخذته إلى الحمام وهو يشتمني مستعملا بعض الشتائم العربية التي كان قد تعلمها من الطلبة العرب. ولكنه كان أضعف من أن يقاومني. نزعت عنه ملابسه وسحبته إلى الحمام وفتحت ماء الدوش على رأسه. غسلت شعره وفركت جسده بالصابون حتى إحمر جلده، جففته وألبسته ملابس جديدة وذهبت إلى المطبخ أبحث عن أي نوع من الطعام فلم أجد. خرجت من البيت وطرقت باب جيرانه وكنت أعرف السيدة صاحبة البيت، أعطيتها مبلغا من المال ورجوتها أن تشتري بعض المأكولات والخبز والحليب والبيض.
عندما عادت وفتحت لها الباب أصابها الهلع من منظر البيت ووقفت في الباب مصعوقة. أعطيتها مبلغا إضافيا من المال ورجوتها أن تحضر له بعض الطعام وأن تقوم بتنظيف البيت وترتيبه وغسل الملابس والأفرشة وانتظرت مع صديقي في غرفة الجلوس. جاءتني بعد دقائق تحمل في يدها رزمة من الفواتير وقالت: لم يدفع الماء والكهرباء والتلفون منذ أشهر، لقد هددوا بقطعها عنه. بقيت معه حتى أكل ثم تركته ومعه الجارة تتابع تنظيف البيت وترتيبه وذهبت سريعا إلى البنك وسددت جميع الفواتير.

عدت إلى بيتي وأنا ألعن هذه الدنيا واهلها فصديقي لا يستحق أي من هذا العذاب. إتصلت بإبنه فردت علي زوجته، وعندما طلبت زوجها أنكرته. شرحت لها حال حماها، فلم تدعني أكمل كلامي وقالت: هذا ما جناه المجنون على نفسه، لقد بذر كل أمواله بدلا من منحنا إياها حتى نقوم بسداد ديوننا. لم أستطع ان أضبط نفسي فشتمتها شتما لاذعا وصحت بها: أخبري الحمار زوجك أن يزور والده وإلا جئت وأوسعته ضربا. أغلقت الهاتف ويدي ترتجف ودقات قلبي تسارعت حتى أنني كنت أشعر بها تخنقني.

رحت أزوره كل يوم أو كل يومين، وفي كل زيارة كنت أعيد المشهد فاسحبه من السرير وأحممه وأطعمه وأعطي الجارة بعض النقود حتى تشتري له بعض ملتزمات البيت وتساعده في تنظيف وترتيب المنزل. إستمر هذا الحال حوالي الشهرين حتى جاء يوم رفض مساعدتي و دفعني بقوة وصاح: أنا لست ولدا صغيرا، سأستحم بنفسي. وهكذا كان، ولكنه رفض أن يحلق ذقنه ولقد طالت حتى بات يذكرني برجال طالبان وكنت أمازحه وأدعوه طالبان.

تغيرت جلساتنا واختفى صمته وشروده وعاد يحدثني عن رحلته وما رآه من عادات وتقاليد غريبة في البلدان التي زارها. صرنا نتحدث في كل شيء ما عدا ذكر المرض والموت، ولكنه ظل معتكفا في بيته يرفض الخروج منه، وفي النهاية نزلت عند رغبته واستمرت مقابلاتنا في بيته.

جاء يوم كان علي السفر إلى مصر فأخبرته بذلك. نظر إلي وقال مازحا: " من كثرة ذهابك إلى مصر، صرت أشك في أنه لك هناك زوجه. ضحك عندما رآني أنكر ما قاله بحدة ثم قال: لا تطول غيبتك علي. أجبته: كلها عشرة أيام وساكون عندك.
أعترف بانني إنشغلت عن صديقي وأخباره في تلك اليام التي قضيتها على شواطئ الغردقة. كانت صورته تمر بين الحين والاخر ولكنها كانت تختفي بسرعة. مرت تلك العشرة أيام بسرعة وعدت وكان في إنتظاري ولدي الأصغر. عندما وصلنا منزلنا أسرعت أخطف مفاتيح سيارتي وخرجت مسرعا مجيبا على سؤال ولدي الذي صاح بي: أين يا والدي؟ بأنني ذاهب لزيارة صديقي البروفيسور.

طرقت بابه فلم يرد ولم يكن ذلك غريبا. ناديت إسمه مضيفا: هذا هو أنا فلقد رجعت، إفتح الباب! ولكنني لم أسمع ردا ولا حركة في داخل المنزل. فجأة خرجت الجارة من بيتها وقالت وهي واقفة في الباب: لقد مات صديقك البروفيسور قبل أيام. لقد وجدوه ميتا في الحمام ولقد دفن قبل يومين.
نظرت إليها كأنما لم أسمع أو لم أفهم ما قالته ثم قلت: ماذا تقولين يا إمرأة؟ فأعادت علي ما كنت قد سمعته وفهمته ولكن داخلي حاول أن ينكره. تركتها ولم أنتظر سماع كلماتها على اسفها لموت صديقي.
ذهبت إلى سيارتي، دخلتها وأغلقت الباب خلفي. وضعت راسي على مقود السيارة وبكيت طويلا.

د. نضال الصالح