من خصائص الثورة السورية وتعقيداتها


منيف ملحم
2011 / 10 / 5 - 22:44     

من خصائص الثورة السورية وتعقيداتها
التدخل الخارجي بين القبول والرفض

حملت الثورات العربية الكثير من تشابه العوامل التي كانت وراء قيامها، وان كان أبرزها تمثل في هيمنة طبقة فاسدة على السلطة والثروة، في جميع هذه البلدان لعقود طويلة، تكونت نواتها من الأقرباء والمقربين من قصر الرئاسة. سعت هذه الفئة إلى تأبيد سيطرتها عبر توريث السلطة من الآباء إلى الأبناء، من جهة، وسيطرة شبه مطلقة لأجهزة أمنية متضخمة ومتغولة تمكنت مع الزمن الطويل من السيطرة على كل مناحي الحياة، وابتلعت حتى مؤسسات الدولة التي فصلتها السلطة على قياسها. أجهزة يشرف عليها في الأغلب أفراد من العائلة الحاكمة أو المقربين منها مارست قمعاً وإهداراً للحريات والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، وتجاوزاً للقوانين حتى منها تلك التي وضعتها الطبقة الحاكمة لحمايتها الذاتية ولتأبيد سلطتها. ترافق كل ذلك مع تزيين هذه السيطرة "بمؤسسات ديمقراطية" تكون مفصلةً، في الأغلب، على قياس النظام، وفريدة في بنيتها وآليات عملها.
النظام السوري يستعد لمواجهة الثورة...؟!
اعتقد أن الثورات العربية فاجأت الحكام العرب كما الشعوب العربية، سواء في تونس أو مصر أو اليمن، وحتى في البحرين التي كانت تشهد تحركات للمعارضة البحرانية قبل اندلاع فاتحة الثورات العربية (الثورة التونسية). ولكن هذا الأمر لم ينطبق على الثورة السورية. فالنظام في سورية اخذ يستعد لمواجهة أي تحرك في الشارع السوري فور سقوط نظام حسني مبارك وعلى جميع الصعد، والحديث الصحفي للرئيس الأسد لصحيفة نيويورك تايم والذي قال فيه : "إن ما حدث في مصر لن يحدث في سورية"، أعطى الانطباع فيما بعد أن النظام قد فوجئ بما حدث، وان النظام لم يكن مستعداً لمواجهة الثورة.
في الواقع إن أي مراقب للإعلام السوري أو قريب من أوساط النظام، وبشكل خاص من تلك التي شكلت الخزان الرئيس للأجهزة الأمنية والقمعية خلال عقود، يرى أنه كانت هناك تعبئة واستعداد لمواجهة أي تحرك شعبي يرمي إلى إطاحة النظام.
فالإعلام السوري لم يُبْدِ أي حماس أو ترحيب بسقوط نظام كامب ديفيد قائد أنظمة "الاعتدال" العربي. هذه الأنظمة التي لم تخفِ عداءها لسياسة النظام "الممانعة". كما جرى ضخ تعبئة في القاعدة الحزبية للنظام وفي صفوف الجيش وقوى الأمن، وضمن ما يسمى قاعدة النظام الطائفية، أظهرت عداءً كبيراً للثورات العربية في تونس مصر واليمن، معتبرةً أن ما جرى في هذه البلدان وما يمكن أن يجري في بلدان أخرى، ليس أكثر من عودة للمشروع الامبريالي – الإسرائيلي، الذي توقف بفعل انتصار المقاومة اللبنانية في حرب تموز 2006. هذا المشروع المعروف باسم الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة، ويشكل الإسلاميون السلفيون رأس الحربة في تنفيذه.
إذا كان خروج عشرات الشباب والشابات في سوق الحميدية في دمشق، في الخامس عشر من آذار، يهتفون للحرية، شكل نقطة انطلاق الثورة السورية، فإن انتفاضة أهالي مدينة درعا في حوران في الثامن عشر من الشهر نفسه شكلت مهد الثورة. ولم تتأخر عاصمة ريف دمشق( دوما )عن مد يد العون لمهد الثورة. لقد انتشرت شرارة الثورة خلال اقل من شهر لتشمل الوطن السوري من شماله إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه.
ومنذ أيام، دخلت الثورة أسبوعها الثاني من شهرها السابع. علينا أن نعترف أن مدينة ابن الوليد(حمص)، ومناطقها وبلداتها وقراها، هي حاضنة الثورة وعاصمتها. وقول ذلك ليس من باب الثناء أو المفاخرة على مدن ومناطق أخرى قدمت للثورة الكثير، وإنما للفت الانتباه إلى ما يجب القيام به لخدمة الثورة واستمرارها.
إن سقوط أكثر من 4000 شهيد من المدنيين وما يقارب 500 من العسكريين، إضافة لعشرات آلاف المعتقلين ومئات المفقودين، واستمرار مواجهة المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، كل ذلك يؤشر إلى أن النظام مصمم على إغراق البلاد في بحر من الدماء من اجل البقاء في السلطة. كما يؤشر إلى احتمال اتساع التدخلات الخارجية، بما فيها التدخل العسكري.
إن أكثر ما يلفت الانتباه في الأسلوب الأمني الذي يواجه فيه النظام المحتجين السلميين، ليس عدد القتلى الذين سقطوا، وإنما الطريقة التي تتم فيها عمليات القتل. فقد سقط حوالي 300 قتيل في الثورة التونسية، كما سقط أكثر من 800 قتيل في الثورة المصرية، في زمن لم يتعدَّ الثمانية عشر يوماً، أي بمعدل أكثر من 40 قتيلاً في اليوم الواحد. وهو رقم قد يبدو أعلى من المعدل الذي تم في سوريا خلال الأشهر الستة الماضية. ولكن الذين سقطوا في مصر في اغلب الأحيان لم يُر قاتلهم، فقد عمدت أجهزة الأمن المصري كما التونسية إلى استخدام القناصة في معظم الأحيان لقتل المتظاهرين. أما في سوريا فإن الرصاص الحي يطلق بشكل مباشر على المتظاهرين من قبل الأجهزة الأمنية وقوات الجيش وعناصر مليشيا النظام، المعرفين باسم الشبيحة، ليس فقط عبر القنص عن بعد، وإنما يتم في كثير من الأحيان باستخدام البنادق الرشاشة أو رشاشات ثقيلة مثبته على دبابات أو عربات عسكرية، ويتم سحب الجرحى من المشافي والإجهاز عليهم. كما إن تعذيب المعتقلين حتى الموت، وتشويه أجسادهم وتسليمهم إلى ذويهم على هذا النحو الذي هم عليه، فاق كل تصور( ).
صحيح إن الشاة لا يهمها السلخ بعد الذبح، كما قالت أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير، عندما حاصره الحجاج بن يوسف في مكة، ولكن هذا التفنن في القتل و تشويه القتلى في الحالة السورية، ينم عن حالة من الحقد والكراهية غير مسبوقة في التاريخ السوري، كما لم تشهد هذا الشكل من القتل والتشويه حتى أكثر معتقلات النظام وحشية، وفي مقدمتها معتقل تدمر، حتى في سنوات الصدام المسلح بين الإخوان المسلمين والسلطة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
أي حقد وكراهية سيولدهما هذا الشكل من التعذيب والقتل في المجتمع السوري، سواء انتصرت الثورة أو لم تنتصر؟ ولاسيما أن كثيراً من أفلام الفيديو المسربة عن عمليات التعذيب والقتل ،والتي يتم إنزالها على صفحات اليوتيوب أو المواقع الاجتماعية بقصد أو دونه، تحاول أن تعطي انطباعاً أن القاتل ينتمي إلى طائفة بعينها. وهو ما يسعى إليه النظام في مسعاه الحثيث، لحرف الثورة عن طابعها السلمي المدني، وسعيِها إلى نيل الحرية والديمقراطية، إلى العنف المسلح والحرب الأهلية الطائفية. وهو ما سيؤدي في حال حدوثه إلى تضييق قاعدة المشاركة فيها ويبعد الفئات المترددة عنها أكثر.
جمعة الحماية الدولية
جرياً على ما بدأته الثورة في سوريا من إطلاق اسم على كل أسبوع جديد من عمرها، تم إطلاق اسم جمعة الحماية الدولية على واحدة من تلك الجمع. وقد أثارت تلك التسمية لغطاً وخلافات في أوساط قوى المعارضة.... فما هو واقع الأمر؟
في الواقع إن هذا الخلاف حول التدخل الخارجي العسكري في صفوف المعارضة السورية لم يكن وليد اللحظة الحالية، لحظة الثورة. وإنما يمتد إلى لحظة غزو العراق في عام 2003 وإسقاط النظام العراقي، حيث برز تيار في أوساط المعارضة السورية يرى أن هذا النموذج من الأنظمة الاستبدادية القمعية لا يمكن كسره من الداخل، وبالتالي فالعامل الخارجي سيكون العامل الحاسم في التخلص من هذه الأنظمة، وفتح الطريق أمام شعوبها للانتقال نحو الديمقراطية. وقد كان لناشطين قضوا جل عمرهم في صفوف الأحزاب اليسارية وفي المعتقلات قصب السبق في التنظير لهذه المقولة.
جاء سقوط نظامي بن علي في تونس ومبارك في القاهرة، بفعل وقوة الشعبين التونسي والمصري، والدور السلبي الذي لعبه التدخل الخارجي، المعوَّل عليه، من وجهة نظر أولئك، ليخفف من حدة الحماس للتدخلات الخارجية. ولكن بعد مرور ستة أشهر على انطلاقة الثورة السورية وسقوط آلاف القتلى، واستخدام الجيش في قمع المتظاهرين السلميين بشكل وحشي، واكتشاف أن بنية الجيش السوري لا جامع لها مع الجيشين المصري والتونسي، وإنما هي اقرب إلى بنية الجيش اليمني، حيث الوحدات الأكثر قوة وتنظيماً هي اقرب إلى المليشيا منها إلى الجيش الوطني،فضلاً عن إظهار الغرب الإمبريالي حماساً "لمطالب" الشعب السوري، وهو ما لم يظهره إبان الثورتين التونسية والمصرية،بعد كل ذلك ، عادت إلى البروز مجدداً مسألة الدعوة للتدخل الخارجي.
وعي زائف وخلافات مفتعلة
يتم اليوم نشر وعي زائف بين السوريين، سواء أولئك المشاركين في صنع الثورة، أو المعادين لها، أو الكتلة الصامتة منهم، مفاده بأن التدخل الخارجي مرهون بموافقة السوريين، ولاسيما منهم القوى السياسية المعارضة للنظام، وأن خلاف المعارضة السورية على هذا الأمر هو ما يجعل الغرب الامبريالي يتردد في التدخل لصالح الثورة. ويزيد في هذا الاعتقاد تصريحات بعض رموز المعارضة للفضائيات بأن هذا الرمز" البارز" في المعارضة هو من اقترح على الرئيس الأمريكي إدراج ذلك في الفقرة المتعلقة بسوريا في خطابه، ويواصل رمز "بارز" آخر انه هو من اقترح على رئيس الوزراء البريطاني هذه الحزمة من العقوبات لا تلك، ويستطرد ثالث بأنه هو من اقنع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بذلك الموقف من النظام السوري، وهكذا يصوَّر الأمر وكأن الغرب الامبريالي يعمل وفقاً لرغبات ومطالب السوريين.
أما في الواقع فأن التدخل الخارجي أو عدمه ليس مرهوناً إلا بمصالح الدول الغربية وظروفها الداخلية والعالمية والإقليمية، وهي اليوم ابعد من أن تكون مؤاتية لذلك. أما حساب موقف السوريين فإنه آخر ما يمكن أن يشكل قراراتهم بهذا الصدد، فهم ليسوا بحاجة لموافقة أحد على التدخل، وكل يوم لديهم الحجج والذرائع الكافية، مهما كانت تافهة للتدخل، عندما تتوفر الظروف لذلك. و في النهاية، فإن مواقف النظام السوري وسلوكه ووضعه، ووضع سوريا في لحظة معينة من تطور الثورة، هي العوامل الأساسية، إن لم تكن الوحيدة، التي توفر كل الشروط والحجج للتدخل العسكري.
وفي اعتقادي، إن الداعين للتدخل، والمعارضين له من أطياف المعارضة السورية، يدركون ذلك تماماً، ولكن يحاول الداعون، بموقفهم هذا، أن يكسبوا ود الغرب ورضاه ودعمه، سواء جاء التدخل أو لم يأت، كما يعلنون من خلال هذا الموقف قطع شعرة معاوية مع النظام. أما المعارضون للتدخل، فإنهم برفعهم هذا الشعار، يرمون إلى اتقاء شر النظام ووحشيته، والإبقاء على شعرة معاوية بينهم وبين النظام.
تبقى هناك مسألة هي الأكثر أهمية، في هذا الوضع الذي تمر فيه الثورة، في سعيها لإسقاط النظام وإقامة نظام ديمقراطي، وهي السعي لتقليل الكلف والخسائر، ولاسيما منها بشكل خاص أرواح السوريين. وباعتقادي لو أن التدخل الأجنبي العسكري يوفر ذلك لطلبنا تدخلاً ليس من الناتو كما يطلب البعض وإنما لاستدعينا فرسان "النينجا" من المريخ، ولكن الأمر ليس كذلك بالتأكيد، فالتدخلات العسكرية، في حالة الوضع السوري، ستزيد من عدد الضحايا، قبل إسقاط النظام وبعد ذلك . وبالتأكيد، فإن خلق رأي عام دولي مساند ومناصر لقضية شعبنا، من اجل الحرية والديمقراطية، ولاسيما ذلك القطاع من الرأي العام المعادي لمشاريع الناتو، والممتد من البرازيل في الغرب إلى الهند في الشرق مروراً بجنوب إفريقيا وأوروبا، يساعد على كبح وحشية النظام تجاه شعبنا. كما مازال لدينا الكثير من القوى التي يمكن أن تستخدم في مواجهة وحشية النظام، تبدأ من استمرار سلمية الثورة ولا طائفيتها، وصولاً إلى تعبئة القوى المترددة والحيادية، وأساليب نضال سلمية جديدة. على الجميع أن ينزع من مخيلته النموذج المصري في انتصار الثورة وان يستعد لاحتلال المواقع واحداً بعد الآخر. ستأخذ الثورة شكل موجات متتالية، بعضها صغيرةٌ وأخرى كبيرةٌ، إلى أن تأتي الموجة السابعة، حاملةً سوريا إلى فضاء الحرية والدولة الديمقراطية المدنية، ومطهرةً سوريا من كل أشكال الاستبداد والديكتاتورية.