-بدلة- المشير!


سعد هجرس
2011 / 9 / 28 - 15:39     

ليس حدثاً أن يخلع المشير محمد حسين طنطاوى زيه "الميرى" وأن يرتدى "بدلة ملكى" مثله مثل الملايين من المدنيين، ومع ذلك فإن "بدلة المشير" تحولت إلى حدث سياسى بامتياز يدور حوله جدل بالغ السخونة، وهو جدل بعيد عن "الهيافة" أو التنطع فى أغلبه الأعم كما قد يبدو للوهلة الأولى.
وتعود "الجدية" فى الجدل حول "بدلة المشير" إلى وضعهما فى سياقهما الزمنى والمكانى.
فمن حيث المكان فوجئ الناس بوجود المشير طنطاوى بينهم، دون حراس ودون زفة إعلامية، "وسط البلد" بالقرب من ميدان التحرير، الذى أصبح رمزاً لثورة 25 يناير، ثم أصبح حاضنا لمليونيات متتالية للمطالبة باستكمال تحقيق أهداف الثورة بما انطوت عليه بعض هذه المليونيات من نقد ضمنى تارة وصريح تارة أخرى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وعلى رأسه المشير طنطاوى، لما يراه البعض تلكؤا عن تحقيق هذه الأهداف الثورية.
ومن حيث الزمان جاء ظهور المشير طنطاوى ببدلته "الملكى" بالقرب من ميدان التحرير قبيل مليونية مرتقبة غدا الجمعة لرفض الطوارئ والمطالبة ببرنامج زمنى لتسليم السلطة ورفض تعديلات قانون مجلسى الشعب والشورى. أى ان ظهور المشير جاء فى وقت يتصاعد فيه الاحتقان واتساع شقة الخلاف بين توجهات المجلس الاعلى للقوات المسلحة من جانب والغالبية العظمى من القوى السياسية وائتلافات الثورة من جانب آخر.
وهذا التوقيت جعل الكثيرين ينظرون الى لفتة المشير طنطاوى باعتبارها محاولة لإذابة الجليد المتراكم بين المجلس العسكرى وملايين المصريين.
***
ويضيف البعض سبباً آخر هو أن لفتة المشير طنطاوى تأتى فى أعقاب إدلائه بشهادته فى قضية المتهم حسنى مبارك وولديه علاء وجمال ووزير داخليته حبيب العادلى وستة من كبار معاونيه، ورغم سرية الجلسة التى أدلى فيها المشير طنطاوى بشهادته، وحظر النشر عنها، فإن ما تسرب عنها أشار إلى ان الاتجاه العام لهذه الشهادة هو تبرئة مبارك والعادلى، الأمر الذى أثار قلق البعض وسخط البعض الآخر نظراً لما يظن هؤلاء وأولئك أنه يمكن أن يؤدى إلى إلقاء طوق نجاة للرئيس المخلوع وهروبه من القصاص العادل.
فى هذا السياق تأتى اللفتة التى قام بها المشير وكأنه يحاول مصلحة المصريين العاتبين عليه، أو المصدومين مما تسرب عن شهادته.
***
لكن بعض الخبثاء لا يتوقف خياله عند الحدود المشار إليها فى السطور السابقة، وإنما يذهب إلى ما هو أبعد بكثير، ويرى هؤلاء ان لفتة "البدلة" والظهور المفاجئ للمشير طنطاوى على هذا النحو إنما يوحى بجس نبض تمهيداً لانضمامه الى السياق الرئاسى وترشحه لهذا المنصب الرفيع الذى لا تريد المؤسسة العسكرية تركه لأحد من خارجها.
وفى رأى هؤلاء فان ذلك يتناقض مع الإعلان المتكرر من جانب المجلس العسكرى بأنه مصمم على تسليم السلطة للمدنيين فى اقرب وقت.
***
وأيا كان سبب قيام المشير بهذه الجولة وبهذه الطريقة، فإن الجدل الواسع الذى أثارته هذه الجولة يفتح لنا زاوية أخرى تستحق التأمل.
فلو أن باراك أوباما رئيس أكبر دولة فى العالم، أو نظرائه من رؤساء الدول العظمى فعل ما فعله المشير طنطاوى – وهم يفعلون ذلك وأكثر – لما أثار ذلك أى ردود أفعال، ولما اهتم به عامة الناس، ناهيك عن القوى السياسية سواء من المعارضة أو الموالاة.
فالطبيعى، والعادى، ان يمارس رئيس الدولة الديموقراطية حياته مثل سائر خلق الله، وغير الطبيعى وغير العادى ان ينعزل عن شعبه أو يتعالى عليه. وأظن ان القارئ أو المشاهد غير المصرى، وغير العربى، ستصيبه الدهشة وعدم القدرة على فهم اهتمامنا الزائد برؤية المشير سائرا على قدميه فى شوارع المدينة مثله مثل أى مواطن عادى.
إنها رواسب الاستبداد .. التى جعلتنا نتعامل مع الحاكم على انه "إله" أو "نصف إله"، وبالتالى نعتبر مجرد ظهوره بين أبناء شعبه نوعا من "التنازل" أو "التفضل" الذى يحتاج إلى شكره والثناء عليه والتسبيح بحمده وفقا لأصول أدبيات النفاق القديمة أو لغزا غامضا
يحتاج الى تفسير وتبرير وفقا لنظرية المؤامرة التى اعتدنا إدمانها طويلاً.
وهذه كلها ليست افتراضات نظرية وإنما هى وليدة تجارب مريرة مع الكثير من حكامنا الذين أذاقوا المر لشعوبنا الغلبانة.
وأظن ان ثورة 25 يناير تمثل – كما هو مفترض – قطيعة مع هذه الذهنية العبودية فى التعامل مع حكامنا الجدد، أيا كانوا، لان كل من يجلس على كرسى المسئولية بكافة مستوياتها، بما فى ذلك كرسى الرئاسة، ليس سوى "خادم مدنى" يأتى بارادة الشعب ويعزله المصريون الذين منحوه تفويضا نسبيا وليس مطلقا ويستطيعون سحب هذا التفويض عند اللزوم.
وهذا مجرد ملمح من الملامح الأساسية للدولة المدنية الحديثة التى نحلم بإرساء دعائمها.
وبمناسبة ذكر الدولة المدنية الحديثة فان خفة دم الشعب المصرى فرضت نفسها قبل وبعد التحليلات والتكهنات السياسية لجولة المشير طنطاوى فى شوارع وسط البلد، فانطلق سيل من التعليقات الشقية والمشاغبة وخفيفة الظل على "بدلة المشير"، من بينها تعليق يقول أن "الشعب يريد دولة مدنية وليس بدلة مدنية"!.