تفكيك خرافة الغايات المقدسة والوسائل الميكيافيلية


أمير خليل علي
2011 / 9 / 23 - 18:20     

اثيرت بعض الاعتراضات والانتقادات من القراء حول مقالي السابق، (الذي جاء تحت عنوان: آخر كدبه من بطولة الإخوان المسلمين)، والذي حاولت فيه أن أثبت تهافت طرح الأحزاب الدينية حول ضرورة تأمين الهوية الإسلامية وإلا ضاعت. وهو طرح أعتبرته "ضحك على الذقون".

ونشر المقال في: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=276047

وردا على هذا المقال، بادرني النقاد والأصحاب بعدد من الأسئلة – أو الاعتراضات - البراجماتية الهامة كما يلي:

• لماذا كل هذا الإنزعاج (عندي) من أن يمارس الإسلاميون "الضحك على ذقون" الناخبين؟

• ألا تمارس أغلب الأحزاب والأحزاب السياسية نفس الكذب والاحتيال على الناخبين ؟

• ألم يكن نظام مبارك وبن علي والقذافي .. جميعها تمارس الكذب والاحتيال على الناخبين؟ بل حتى النظم الغربية الممثلة في بيرلسكوني وساركوزي وأضرابها أيضا تمارس الكذب والاحتيال؟

• فلماذا تحرم هذه المسائل الميكيافيلية على الأحزاب الإسلامية وتطالبها بأن تصبح هي الوحيدة الصادقة في الساحة دون غيرها؟

• ما المانع - إذن - في أن تمارس الأحزاب الدينية (الإخوان والسلفيين) نفس ما تمارسه كافة الأحزاب السياسية المدنية الأخرى من كذب وتحايل على الناخبين .. أم أن الكذب مباح للجميع عدا الأحزاب الدينية ؟

• أفليس من المقبول أن يكذب الإسلاميون باسم الدين في سبيل إستعادة الهوية الإسلامية والدولة الإسلامية .. وهي أمور معتبرة ومطلوبة؟


نحاور هذه الاعتراضات فيما سيلي:


تبرير الميكيافيلية هو اعتراف بالميكافيلية:


أولا:

أن تبرير "ميكيافيلية" الإخوان والسلفيين تحت ذريعة أن الجميع ميكيافيليون ويكذبون .. إنما يعتبر من البداية تسليماً بما ذهبنا إليه في مقالنا من قيام الإخوان والسلفيين بممارسة الميكيافيلية تجاه الناخبين

وبهذا تتعلق المشكلة عند ناقدنا هنا فقط في البحث عن "مبرر" و"ذريعة" لهذه الميكيافيلية .. ولا تتعلق بـ "نفي" الميكيافيلية عن الإخوان والسلفيين.

ومن هنا يكون ناقدنا قد قبل - ضمنيا - ما ذهبنا إليه في مقالنا السابق .. لكنه فقط يقوم بتحول المسألة من: "هل فعلا" يكذب الإخوان والسلفيون؟ .. إلى مسألة جديدة وهي: "وما المانع" من أن يكذب الإخوان والسلفيون كغيرهم؟

وهو بهذا التحول يثبت ما ذهبنا إليه في مقالنا السابق دون أن يعترض على أي نقطه أثارها (المقال)

وهنا هو يطالبنا فقط "بقبول" ميكيافيلية الأحزاب الدينية .. ولا يطالب "بنفي" الميكيافيلية عن الأحزاب الدينية.

اي أن اعتراض ناقدنا يتعلق بصلاحية و"شرعية" ممارسة الميكيافيلية .. ولا يتعلق بإثبات حدوث و"وجود" الميكيافيلية لدى الأحزاب الدينية.

وهنا ينتقل السؤال من "إثبات" وجود الميكيافيلية .. إلى "قبول" وجود الميكيافيلية.

وهذا التحول (لناقدنا) يخرجه عن حدود المقال السابق .. ولهذا يصبح من الخطأ أن نعده اعتراضه بمثابة نقد لمقالنا السابق .. بل هو إثبات لما جاء فيه.

فصاحب هذا الاعتراض لا يقول لي (ضمنيا): لا أوافقك على وصف الأحزاب الدينية بالميكيافيلية .. لكنه يقول: وما المشكلة في أن تمارس الأحزاب الدينية الميكيافيلية؟

ويحدد ناقدنا "مبرر" ميكيافيلية الأحزاب الدينية .. بأنه وسيلة لغاية أبعد منه هي: ترسيخ الهوية الإسلامية وتوطيد الإسلام وعودة الخلافة والشريعة.

وهو بهذا يميز بين نوعين من الميكيافيلية:

1. ميكافيلية دينية مقبولة ومباركة ومقدسة .. لكونها تصدر عن الأحزاب الدينية تهدف لتأمين ثروات روحية وهوية دينية

2. ميكيافيلية مدنية مرفوضة ومدنسة .. لكونها تصدر عن أحزاب مدنية وعلمانية .. بغرض تأمين ثروات مادية

ويحدد صاحب هذ الرآي .. معيار قبول الميكيافيلية .. وهو أن "الغاية" التي تستهدفها الأحزاب الدينية تبرر أن تتبع هذه الوسيلة - كغيرها.

وبهذا يرى صاحبنا أن الوسيلة (الميكيافيلية) التي تتبناها الأحزاب الدينية ليست محل اعتراض أو تجريم .. لماذا؟

لأن الغاية ورائها "مقدسة" .. مقارنة بالغاية وراء الأحزاب العلمانية.

وهنا نصبح أمام نظرة تفصل بين الغاية وبين الوسيلة.

فتترك الإنشغال بالوسيلة .. وتركز حصريا على الغاية

فهذه النظرة لا يهمها إذا ما كانت "الوسيلة" ملائمة أو محترمة أو كاذبة أو ميكيافيلية .. طالما كانت "الغاية" مقبولة ومطلوبة.


ميكيافيلية أم سفسطائية؟


إذن نحن هنا أمام نسخة من الميكيافيلية – حيث الغاية تبرر الوسيلة.

إلا أننا أيضا أمام نسخة مشوهة ومتحيزة من الميكيافيلية. كيف؟

لأن هذه النسخة تميز بأحكام قيمة بين: ميكيافيلية مقبولة .. وبين ميكافيلية مرفوضة.

وبهذا فهي ليست في الأساس ميكيافيلية ترفض القيم وتقول بنسبويتها .. بل هي في جوهرها تتحيز لقيم ضد أخرى.

فهذه الميكيافيلية تتحيز مسبقا .. لصالح الأحزاب الدينية .. وتتحيز "ضد" الأحزاب العلمانية .. وذلك لأنها ترى الغاية المعلنة للأحزاب الدينية أفضل وأرقى وأقدس من الغاية المعلنة للأحزاب العلمانية.

فلا مشكلة أمام صاحب هذه النظرة من سقوط الأحزاب الدينية في الميكيافيلية .. طالما أن "الغاية" النهائية لديهم "تغسل" و"تطهر" أي احتيال وميكيافيلية في بحورها الطاهرة المقدسة.

وهنا ينكشف تحيز هذا النقاش السفسطائي بوجود "نقطة مفاضلة" كامنة لديه .. حيث تخسر وفقا لها الأحزاب المدنية أمام الأحزاب الدينية دوما .. وهي نقطة: "الغاية" المقدسة المتاحة للأحزاب الدينية وغير متاحة للأحزاب المدنية.

وبهذا تتحيز هذه الميكيافيلية لقيم محددة ضد قيم أخرى.

وبذلك تصبح في حقيقتها مجرد "تحيز" يتذرع بالميكيافيلية لصالح طرف على حساب طرف آخر .. وغرضه فقط هو أن يبعدنا عن مناقشة مدى أخلاقية "الوسائل" .. بأن يلفت نظرنا إلى قدسية "الغايات".

وبهذا يتضح أن هذا النمط من الميكيافيلية هو نمط هروبي .. يهدف لممارسة الإلتفاف حول مناقشة "الوسائل" الآنية .. من خلال قذف كرة النقاش بعيدا إلى المجهول .. حيث المجهول هو "الغايات" المستقبلية.

والغايات من المجهول .. لأنها تنتمي إلى النوايا والمستقبليات والغيبيات التي يزعمها كل طرف عن نفسه حتى ولو بدون أي علاقة مع ما يطرحه في الواقع من وسائل آنية.

فنحن هنا أمام نقاش سفسطائي .. لأنه يتهرب من قياسات الواقع (حيث يمكن قياس الوسائل وتعيينها).. ويستهدف "تمييع" القياس بالخوض في مجاهيل في المستقبل الغيبي (حيث لا يمكن قياس الغايات أو تخمينها)

نحن إذن أمام ميكيافيلية متحيزة ومتحزبة ومسيسة في الأساس .. لأنها تستهدف الكف عن النقاش حول المعروف والواقعي من "وسائل" .. وتقذف بكرة النقاش إلى ما هو مجهول وغير واقعي في مجال "الغايات" والظنيات .. التي لم تتحقق بعد في الواقع .. والموجودة في أذهان أصحابها فقط.



ميكيافيلية الغاية و ميكيافيلية الوسيلة:

أولا:

إذا جارينا ناقدنا وأثبتنا الميكيافيلية للأحزاب الدينية وغيرها .. وإذا كانت الميكيافيلية هي أن الغاية تبرر الوسيلة .. فما الذي يضمن لنا أن نفس الميكيافيلية ليست موجودة أيضا على مستوى الغايات لدى الأحزاب الدينية وغيرها .. دون أن تقتصر على مستوى الوسائل فقط؟؟

أفلا يدل ويبشر وجود الميكيافيلية في "الوسائل" .. على احتمال وجودها (الميكيافيلية) أيضا في "الغايات" نفسها .. سواء لدى الأحزاب الدينية أو العلمانية؟

أليس من المعقول أن نفترض هذا؟

إذن .. فلو قبلنا احتمال قبول وتبرير الميكيافيلية على مستوى "الوسائل" لدى كل من الأحزاب الدينية والأحزاب العلمانية .. فلابد أيضا أن نقبل أن احتمال قبول الميكيافيلية على مستوى الغايات التي تتبناها الأحزاب الدينية والعلمانية على السواء.

إذن فمن الممكن مد منطق الميكيافيلية والتحايل نحو الغايات أيضا.

وبذلك نستنتج أن غايات الأحزاب الدينية على نفس درجة الميكيافيلية الموجودة لدى الأحزاب العلمانية.

وذلك منطقي جدا ومتسق مع الواقع.

ذلك أن الغاية الأولى والأساسية لدى كافة الأحزاب .. وبخاصة عندما تتبنى الميكيافيلية .. هو بالتحديد الوصول إلى السلطة.

وهذه الغاية مشتركة لدى كل الأحزاب.

ولا شيء يضمن أنه بمجرد تحققها .. فإن الأحزاب سوف تنتقل إلى غايات أخرى بعدها.

لأنها هي الغاية الواضحة والمعلنة والقريبة .. وقانون التفكير الحديث الواقعي يقوم على افتراض الأبسط لا الأصعب.

والسؤال هو: ما هو الضامن لعدم تسلل الميكيافيلية من مستوى الوسائل إلى الميكيافيلية في مستوى الغايات؟

والإجابة: لا توجد ضمانات مع الميكيافيلية .. فالميكيافيلية مضادة بطبيعتها للضمانات القيمية.


تبديد خرافة الغايات المقدسة؟

إذن فإن كل ما يمكن أن نفترضه منطقيا هو: أن هناك ارتباط وثيق بين الوسيلة وبين الغاية .. في مجال السياسة تحديدا..

وهذا ما يحدث على المستوى الواقعي .. فمثلا كانت الغاية العليا لدى لينين وستالين هي غايات نبيلة في إقامة مجتمع المساواة والعدل للجميع .. لكن "الوسائل" التي اتخذوها لتنفيذ هذه الغايات كانت عنيفة وخاطئة وإرهابية .. وبهذا استمر العنف والخطأ والإرهاب .. وهربت الغاية تماما .. ولم يعد لها أي وجود .. بل طغت الوسيلة على الغاية.

وفي شرقنا الأوسط .. كانت غاية الخوميني هي إزالة الطاغوت (شاه إيران) .. ونصرة المستضعفين (الشعب) .. إلا أن الوسيلة التي أتبعها في محاولة الإيتان بهذه الغاية كانت مخالفة تماما .. ومن عجائب الزمان أن هذه الوسيلة هي التي استمرت .. بينما لم نسمع شيئا عن تحقق "الغاية" .. اللهم إلا في التصريحات الصحافية.

لدينا إذن عشرات ومئات بل وآلاف الأمثلة .. عن حالات تطغى فيها الوسيلة على الغاية .. بحيث تستمر الوسيلة ويتم تأبيدها .. بينما تختفي الغاية ولا يتم إنجازها أصلا.

لذا فقد تحولت السياسة في عصرنا الراهن إلى الرؤية الواقعية وتركت المثالية الوسطوية الوهمية

فلم يعد هناك مجال سوى للممكن على مستوى "الوسائل" .. أما الحديث عن "الغايات" .. فهو حديث لصالح الاستهلاك الدعائي الزائف.

لذا فلم يعد يصح في السياسة الواقعية أن نبرر الميكيافيلية بالاستناد إلى "سمو" الغاية المابعدية

باختصار، فقد توصل علم السياسة الراهن إلى أنه: لا توجد غايات .. بل كل ما يوجد هو وسائل فقط. وحصرا.

وهنا يتضح الخطأ الفكري الذي يسقط فيه صاحب الرآي الذي يقول بأنه طالما أن كافة الأحزاب ميكيافيلية .. فلا بأس من أن تمارس الأحزاب الإسلامية الميكيافيلية أيضا .. لأن الغاية التي تمتلكها ليست ميكيافيلية.

فهنا يكمن خطأ جسيم في ممارسة السياسة المعاصرة بمفاهيم تنتمي إلى العصور الوسطى التي بلغت قمتها في فكر ميكيافيلي .. بينما عصرنا قد تجاوز هذه الخرافات منذ قرون طوال.

فلم يعد يوجد لدينا في الواقع المعاصر إلا "الوسائل" وحدها لنستدل منها على "الغايات" (التي تتبناها الأحزاب) .. وليس العكس

ومن السفسطة محاولة عكس هذا المسار بقلب الاستدلال .. بحيث يسير الاستدلال من تقييم "الغايات" المجهولة .. إلى إضفاء قيمة على "الوسائل" المعلومة.

فهذه سفسطة تخالف المنطق الفقهي السليم القائم على قياس الغائب على الشاهد .. لأن هذه السفسطة تحاول قياس الشاهد (الوسائل) على الغائب (الغايات).


أمثلة واقعية لقياس الغائب على الشاهد:

فإن كان هذا الكلام النظري المنطقي صعب الفهم..

فخذ الأمثلة الواقعية التالية:

ما العلاقة بين ما فعله دومينيك شتراوس خان مع خادمة فندق في أمريكا وبين ما يفعله نفس الشخص في صندوق النقد الدولي أو ما يفعله في ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية في فرنسا؟

هل جهل من أقالوه العلاقة بين الوسيلة والغاية؟

لا ..
هم فقط قاسوا الغائب (وهي طريقة ما لا يعرفونه من تصرفات وغايات شتراوس خان في عمله) .. بناء على الشاهد (ما انفضح عنه مع خادمة الفندق) .. وبذلك قرروا أن القريب هو دليل على البعيد .. فقرروا طرده.

فهم قد افترضوا وجود علاقة وثيقة بين "الوسائل" التي يستخدمها الرجل (حتى مع الخادمة) وبين "الغايات" (الغائبة عن الأنظار) التي يهدف إليها هذا الرجل. ولذلك أقالوه.

إذن فالطريقة المعتادة التي يتبعها الناخبون في أغلب الدول هي استنتاج الغائب (الغاية) من الشاهد (الوسيلة)س .. وليس العكس.

فالحزب أو الشخص الذي يتبنى وسائل ميكيافيلية (انكشفت لدينا في الشاهد) .. لابد لنا أن نستنتج أن "الغائب" لديه (وهو الغايات) (الفعلية لا المعلنة) إنما ستأتي على نفس الشاكلة من الميكيافيلية أيضا.

ولا يتم التفكير بالمقلوب كما يريد ناقدنا .. حيث لم يفكر الناخبون الفرنسيون أن "الوسيلة" المنحطة (الشاهد) التي اختارها دومينيك شتراوس خان مع خادمة الفندق .. ربما لا تكون لها كبير علاقة مع سمو الغايات (في الغائب) التي يتوخاها نفس الرجل – في رئاسة صندوق النقد الدولي أو رئاسة فرنسا.

ولهذا فيبدو أن فهم الفرنسيين للعلاقة بين الوسيلة والغاية يسير في اتجاه استنتاج الغاية (الغائب) من الوسيلة (الشاهد) مع "الربط" بين الاثنين .. بينما يميل اعتراض ناقدنا إلى الفصل بين الاثنين (الوسيلة والغاية) .. بل مع إجراء قلب وربط تعسفي آخر للعلاقة المنطقية بين الشاهد والغائب.

ما نستنتجه من المقارنة بين كلام ناقدنا وأفعال الدول الغربية هو ما يلي:

يبدو أن الدول المتقدمة تربط بين الوسائل والغايات .. فمن تنكشف ميكيافيلية وسائله يطرد.

بينما تصر الدول المتخلفة على الفصل بين الوسائل والغايات .. ولهذا فمهما انكشفت "خسة" وسائل الحزب أو الشخص .. فإنه يظل ويظل ويستمر وينتشر ويتمدد .. لماذا؟ .. لأن هناك "غاية" موهومة وراء الوسائل الميكيافيلية قادره على تبررها وغسيلها ..

واضح أنه كلما غمضت الغاية وابتعدت .. كلما صارت أكثر قدسية وفاعلية .. وكلما وفرت للمدافعين عنها إمكانية ممارسة السفسطائية.