دلو اللبن ...


عباس يونس العنزي
2011 / 9 / 22 - 22:13     

كمتشرد ثمل يتوكأ على جدران هرمة مترنحة ، هكذا بدا البيت المتعب من ثقل السنين والمضاء بمصباح وحيد معلق وسط الباحة المزحومة بالإشياء الصدئة حيث تسيل منه أضواء متقاعسة تنفث لونها الاصفر الرتيب بكسل ممل فيما تشبثت البيوت المجاورة بالطابوق الذي يكاد ينفلت عن بعضه .
هناك في البيت العجوز ، في حجرة بنيت من شقوق وأحجار مكسرة ، حلقت بضعة أحلام عسلية ملذة أسكرت الرؤوس الصغيرة ذات العيون الحزينة المتطلعة الى دلو أبيض تسيد الحجرة الخربة وتسلط على أفئدة عائلة مظلوم مفجرا في عروقها رغبة عارمة بخلع أردية اليأس الثقيلة عنها ، وملقيا بها في لذة خدر الأماني المستحيلة لما قد يفعله هذا الدلو الابيض الناصع من بحر خير متلاطم الأمواج يزيل كل رمال الحزن المزمنة .
تكوم مظلوم فوق فراشه الخشن البالي بعد انفعالات السعادة الغريبة عليه والتي صحبت مقدم الدلو الابيض ، تطلع بحنو شديد إلى أولاده الاربعة وابنتيه الشعثتين الذين افترشوا ما تبقى من أرض الحجرة وراحت امرأته تطلق شخيرا متقطعا تعاضد مع قرقعة تحدثها بقايا مروحة هوائية لإرباك انسياب أفكاره ورسم خيط دخان أسود في صفاء تفاؤله ، تراءت له صور طفولته البائسة الممتدة خلال أكداس من الوجوه والاحداث الأليمة ، وجه جده المغطى بطبقة حزن وراثي وصوت أمه الباكي في نعيها الابدي أباه الذي لم يره قط ، بيوت القصب المطوقة بالمستنقعات العفنة والتي تعودت الاحتراق في كل صيف وسواقي الماء الملتوية الآسنة التي تخترق كل زوايا الحي المتردي ومنذ تلك الايام التي رفرفت فيها رايات الفقر المهلهلة فوق قلاع زمنه السيء المهين وإلى ساعة مقدم الدلو الابيض لم تكن هناك بارقة أمل ، حتى يوم زواجه لم ينج من مخالب النكد والحسرة ! فلعل الأمل في هذا الدلو الأبيض الذي سيملؤه لبنا كثيرا يدر عليه مالا وفيرا يبدل فيه كل حياته التي لم تشهد دلوا بهذا الحجم الاسطوري .
عند أول الصبح .. احتضن مظلوم دلوه الجديد مستعظما إياه بنظرات مدهوشة يتبعها سيل لا ينقطع من التعاويذ والاستغاثات وأدعية الرجاء ، فيما انفلت لسان زوجته بابتهالات عدتها موثوقة في تحقيق مراميها ، ولتلك الطقوس وقع عميق في قلب مظلوم المحزون ، ففي دوامتها يجد متنفسا لهموم روحه الكئيبة ويكتسب بها نشوة صوفية غريبة رغم أن أحدا ممن عرفهم كان يقهقه عندما يراه في حال الانشداد تلك واصفا ما يتلوه من ادعية وتراكيب سجع جميلة مؤثرة بأنه " استمناء فكري " ، ذلك الوصف الذي لم يفقه معناه مطلقا ، توقفت الحافلة الحمراء القديمة التي تجرجر اجزاءها بعسر ومشقة ، فاندفع مظلوم يسابق الواقفين بانتظارها مستثمرا دلوه العزيز الذي احتضنه بحرص وحب شديدين لاتقاء تدافع الناس ، تأفف سائق الحافلة من الراكب المسلح بدلو مزعج كبير فصاح عليه بصوت لا يكاد يتميز عن لغط الناس : - ألا يمكنك أن تتخلى عن هذه الخردة التي تحملها ؟ .
صدم مظلوم لقسوة الوصف وفكر ..كيف يمكن لهذا الجاحد الجاهل أن يهين معقل آماله ، دلوه العزيز ؟ هم أن يثور بوجهه لكنه في لحظة حكمة تكبل الفقراء على الدوام آثر أن يصمت ، فكر" لا أفصح ولا أعنف رد على أولئك الجهلة من الصمت " ، بعد حين حمل دلوه برفق وترك الحافلة في المحطة الثانية وهي تنتفخ بدخان السجائر القديمة تتبعه نظرات السائق الشزرة .
حطت قدماه على الرصيف الواسع المكتظ بالمارين وبسرعة أكمل استعداداته في عرض دلوه الجديد بحلة لم يعتدها قبل اليوم ، أقداح زجاجية ملونة وضعت الى جانبي الدلو فبدا كطائر بأجنحة قزحية ، فيما تطايرت أوراق الزينة الرخيصة فوق الدلو تتخللها مصابيح صغيرة حمراء وخضراء فغدا الرصيف القديم محل احتفالية مبهرجة لعرض هذا الدلو الابيض الثمين ولم يخب فأل مظلوم هذه المرة فقد تقاطر الظامئون وازدحموا لشرب اللبن وهم يتمتعون بالمنظر الجديد وبتقاطرهم كانت جيوبه تنتفخ بالمال فتذوب السعادة بدمه الحار المتدفق نحو رأسه الطرب ، أحس بنشوة الانتصار تمسك بتلاليب روحه وتفتح حولها أبواب الأمل ، تخيل أن الناس تلتف حوله تحييه وتعظم دلوه المبارك العتيد ، فبث ذلك نشاطا عجيبا في مفاصله المفككة ولم ينس أن يرسل الى زبائنه فيضا من كلمات الكياسة مع كل قدح يبيعه :
- تفضل عيوني ..
وأحيانا ينوع مفرداته فيبدل كلمة عيوني بجمل أطول واغنى تنم عن فرح حقيقي عميق يرتدي أقنعة احترام مبتدعة ولم يشعر إلا بمعاني الصداقة والمحبة تظلل رؤوس الجميع حتى أولئك المتأففين والغاضبين منه ومن شدة الحر وسوء الطالع ، كان صفوا رائقا لم يكدره إلا صيحات الناس وأصوات المدرعات المزمجرة والطلقات المعربدة تنبيء بوصول الأمريكان قرب رصيفه ، كانت ثمة طائرة سوداء ثقيلة تنعق في الفضاء السمح الرحب ، فكر " ما لهم ولـنا في هذا السوق الخرب القديم ؟ " تناهى الى سمعه أزيز مقزز مشؤوم ، وصدمه صوت انفجار مروع في نهاية الشارع الطويل ، لعن أمريكا وديمقراطية الموت التي تزرعها أينما حلت ، وقبل أن ينسل من فمه الذي امتلأ بطعم المرارة الحادة أي حرف هاجمه صوت مخيف وعصف هائل مروع ، استنفر نفسه وهو يشاهد دلوه الحبيب يقذف بعيدا وسط الشارع الذي هاج وماج ، تمدد مظلوم على الارض وقد صعقته المفاجأة وظل يرقب عشرات الاقدام المتراكضة بأحذيتها المغبرة المتصادمة بينما كان البعض منها حافيا ، تسمرت عيناه على بقايا الشظايا الهمجية التي مازالت تشع حرارة حاقدة وتتقافز كالشياطين ، مدنسة كبرياء دلوه الابيض الذي تدحرج بعيدا وراح ينزف دما أبيضا غطى مساحة واسعة من الشارح المزدحم ، شعر مظلوم بليل بهيم يلف روحه الممزقة فراح يركض وراء طائره الجميل ذي الاجنحة القزحية لكن شاحنة كبيرة هاربة من النار والدخان مرت مسرعة فأجهزت عليه وهي تحمل جرحى وقتلى القنابل والرصاص ، فسحقته واستحال محض قطعة معدنية مقوسة ، تطاير الدمع والعرق من وجه مظلوم الذي لم يقو على قول كلمة واحدة ، فقط جثا على ركبتيه عند بقايا دلوه الذبيح المسجى على الإسفلت الحار .
في الليل تكوم فوق فراشه الخشن البالي ، وراح يحلم بدلوه الذي اغتالته امريكا وكانها جاءت لتقتله وحسب ، وفكر بعجزه المهين وانهيار احلامه ، فحمل بندقيته وبعض متاعه وقرر الرحيل بأهله بحثا عن قدر آخر ، ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد يعرف شيئا عن مظلوم رغم أنه غدا اسطورة تتناقلها الالسن ، فما زال الاسفلت يصطبغ بلون اللبن الذي ساح من الدلو الابيض القتيل وأصبح معظم من يرتاد ذلك الشارع يسميه " شارع دلو مظلوم " فيما لم يكترث احد في الغرب أو الشرق لمصيبة ذلك المسكين ، فقط أمريكا أطبقت جفنيها متلذذة بعذابات مظلوم ودلوه الابيض الشهيد .

عباس يونس العنزي
[email protected]