لا أحد يهلك الشمس


حمودي عبد محسن
2011 / 9 / 21 - 18:10     

حب في ظلال طاووس الملك
رواية في قيد الكتابة
فصل : لا أحد يهلك الشمس


يوم مصح ... استهل نهاره دون أوار حر الشمس ، وقد أرسلت الشمس ضياءا ، إذ اليوم قد حان وقت الجني والقطاف إلا أن أهل بحزاني أبوا أن ينز عرق الجبين في هذا اليوم ، لأن هذا اليوم ذو شأن في نفس البحزاني ، يوم مبارك... كما أراد البحزاني أن تكون أيامه مباركة وذات خير وسلام ، وكل شيء قد حان في الأوان ... طقس مقدس في هذا اليوم ، حشود أهل بحزاني من شيوخ وعجائز ، رجال ونساء ، صبيان وصبايا ، تتوزع داخل القرية بصفين متوازيين على الطريق المؤدي إلى قرية بعشيقة ليمر الموكب العظيم ، فقد حدثت جلبة ابتهاج وفرح ، ووجوهه أهل بحزاني توردها أشعة الشمس التي بدأت إشراقها على جبل مقلوب في هذا اليوم ، نعم ، أهل بحزاني في أزهى ملابسهم وزينتهم وقد تعطروا بأذكى عطور من زهور برية في وقت جديد بعد أن ولت أزمنة الظلام التي أطفأت وهج الأفراح . الكل في انتظار لحظة البزوغ وعيونهم مصوبة إلى إشارة الرمز ، لم تظهر بعد ، فراحوا يتهامسون ، ويتبادلون النكات ، ويضحكون وهم يرددون المقولة الشهيرة : بيت العشق يرتكب ... وبيت الحزن يدفع الدية ... إذ في ذات يوم حاول بدوي أن ينهب ماشية الراعي من أهل بعشيقة في البرية ، فقتله الراعي ، ذلك كان غالبا ما يحدث . حينئذ خشي أهل بعشيقة من هجوم مباغت من قبائل القتيل للانتقام ، وأخذ الثأر ، عندئذ ستحدث الكارثة ، وستحدث الحرب ، وستصطبغ القرية بالدماء ، لذلك تفكر وجهاء القرية وشيوخها ، ووجدوا الحل ليجنبهم الحرب ، وأيضا يجنبهم دفع الدية ، فرموا جثة القتيل في أراضي بحزاني وهم متفائلون بالخير ، تلك الخدعة انطلت على عشيرة البدوي ، حينئذ طلب أهل القتيل الدية مترددين أن يخوضوا حربا ضد أهل بحزاني لأنهم معروفون بشجاعتهم في القتال ، هكذا جمع أهل بحزاني أموالا من كل دار ، وسلموا الدية ، وهم يرددون ممتعضين غاضبين : فعلوها أهل بيت العشق . فتعالت الآن القهقهات وهم يتذكرون أشياء كثيرة حزينة ومفرحة . ثم مسد شيخ لحيته البيضاء ، وهو يتوكأ على عصاه ، وقد حشر نفسه في حوار : نعم فعلوها أهل بيث عشيقا . فجاءه صوت عجوز كانت تقف بقربه : تقصد بيت الظالم . فهز الشيخ رأسه ، وقال متلاعبا بالحروف : نعم ، فعلوها بيث شحيقي ، فناغته العجوز بصوتها مرة أخرى : تقصد بيت المنكوب . تململ الشيخ ، وهو يقول : بيت العشق ، بيت الظالم ، بيت المنكوب ، بيت الزيتون ، بيت الصابون ، المهم إنهم فعلوها بأهل بحزاني . فضحكت العجوز ، وقالت :
ـ تأخر عنزال .
فاستغل الشيخ هفوة العجوز فرحا ، وقال بتأنيب :
ـ تقصدين السنجق عنزال .
فانتبهت العجوز إلى هفوتها ، ورددت :
ـ نعم ، نعم ، هذا ما أقصده .
فراح الشيخ يقص عليها بصوت حزين عودة عنزال مع بقية السناجق والنياشين بعد نهبها :
ـ أجل ، أعاد الباشا سليمان نظيف في 21 شباط من عام 1895 السناجق والنياشين المنهوبة إلى مستقرها بالرغم من أنها كانت ناقصة ، ووضع السنجق عنزال في مقامه الخاصة ... خزانة الرحمن ... المفتوحة دائما ... أجل ، زار الباشا معبد لالش وأكل وشرب مع إخواننا ، يا له من يوم مفرح بهيج ، هذا الباشا كان طيب القلب .
التفتت إليه العجوز ، وقالت بغضب :
ـ لأن أمه أيزيدية .
بينما كان أهل بحزاني ينتظرون ظهور السنجق عنزال من بيت هنار في أعلى محلة البراذية ، وهم يتبادلون الأحاديث والنكات ، وأطفالهم يتقافزون ويركضون فرحين بهذا اليوم ، وقد ملأت قلوبهم غبطة لا مثيل لها ، كانت تجري مراسيم خاصة ، فهذه هنار تطوف سبعة مرات حول السنجق ، تركع ، وتقبله قبلة خفيفة ، تلمسه بيدها ثم ترسمها على صدرها ، وتمسد وجهها ، وتهرع إلى غرفتها ، ولتقابل أمها ويحل صمت ثقيل مضني بينهما ، وتلتقي العيون بنظرات متأملة كما لو أنها تمتد إلى قرون ماضية مضطرمة قاسية ، تمتد إلى يوم ذلك المشهد المروع عام 1892 إذ جندي الباشا عمر وهبي يبقر بطن الجدة الكبيرة لتتخضب الأرض بالدم ، تلك كانت حملة إبادة في قتل أنفس بريئة ، وتدمير قرى ، وحرق بيوت ، ومطاردة شريرة إلى جبل مقلوب ، وصراخ يتعالى :
كفى شرور يا جندي الباشا
ارتكبتم بما فيه الكفاية من مجازر
ربكم لا يغفر لكم هذه الذنوب
فباسم الرب تعلقون آثام وغرور
كفي شرور يا جندي الباشا
إلا أن جند الباشا كانوا يكررون الذبح مرارا وتكرارا ، ويدوسون بسنابك الخيل صدور النساء ، وأجساد الأطفال ، وأصواتهم الشرسة تأمر : استبيحوا الحرمات ، انهبوا الديار . ويتوالى التعاقب المهول في سفك الدماء ، إذ شيء غير عادي أن تتواصل المجازر ، وتحبس الأنفاس ، لتأن الأصوات في وجه الشمس ، وعند بزوغ القمر ، وتسيل الدماء مثل نهر ، حتى جاء أمر الباشا : انهبوا الطواويس السبعة ، والنياشين الثمينة . حدث ذلك ، وعاد جند الباشا يحملون علائم العدوان إلى بغداد ليضعوا الطواويس والنياشين في متحف الجيش العثماني السادس .
في هذه اللحظة بالذات التي انزلقت فيها رؤيا الأم والبنت إلى تلك الفاجعة المؤلمة من تاريخ طويل ومرير فيه شراسة ، فيه ضراوة ، ليس بمقدورهما الآن إلا أن تتخاطبان بصمت مهيبة عبر التقاء العيون التي كادت تطفر منها الدموع :
ـ أنت أيتها الأم الأيزيدية الحنون ، يا أم البركات وتاج العارفين ، يا حافظة أسرار التاريخ ، وحافظة لوح القدر ، أنت يا سيدة الكون الأيزيدي منذ خلقه الأول ، منذ أن نثرت يدك النبيلة بذور صفراء ، فصارت سنابل ذهبية ، ثم حبة قمح ، فكانت جسدا وروحا ، ثم سدرت براح الصخر ، ثم صارت خبزا ، ثم أكلا ، تلك كانت القفزة الكبرى ، وبرزخ العبور إلى الزرع ، وأنت ترددين المقولة الشهيرة : نحن راضون بكسرة من خبز الشعير . أنت يا رائدة الإخصاب الأول ، فمن رحمك انطلقت صرخة الولادة الأولى ، وتجددت الحياة من نبع حليب نهدك ، وبدأ نسلنا البشري . أواه ، كم كدحتي في البراري وحملتي على ظهرك حطبا لمواقد النار ، أو سرتي ترفعين سراجا لينير الظلام . لكن طغاة الدهور وجبابرة العصور انتهكوا حرمتك وعفتك ، وطهارة جسدك ، فهذا عثماني صاحب الاثنين وسبعين حملة إبادة ( فرمان ) يدوس بسنابك جواده صدرك ، وهذا جليلي يضرم النيران بالدار ، وهذا أمير راوندوزي متعطش لسفك الدماء ، وهذا دكتاتور يدفعك إلى حفرة الموت ، وأنت تحتضنين طفلك الرضيع إلى صدرك ، لتموتين مجهولة بعيدة عن الديار ، والدموع تصرخ في عينيك : ولدي ... أنت تتذكرين دائما عندما ركضتي إلى والدك الغارق جسده بالدماء ، واحتضنتيه بألم ، وأنت تسمعين كلماته الأخيرة : لا تنوحي ، ولا تبكي يا ابنتي ، لقد فعلوا ذلك ألف مرة من قبل ، فعلوها مرارا وتكرارا ، فكيف لا يقتلوني ... كل ذلك يا أيتها الأم ليس لشيء يذكر في التاريخ المرير من جرائم هؤلاء سوى لأنك تمشين بقلب صافي إلى شجرة الحياة ، ألم يقول أجدادك الأوائل : فروحها خيرة غير ملوثة تمشي في الطريق الصحيح ... كل جرائمهم ليس لشيء سوى لأنهم يريدون أن يقتلوا الحب والخير والسلام ويعم الدنيا الظلام .

في هذه اللحظة التي كادت تتحول إلى حزن ، ودموع ، وسكوت ، تقدمت الأم إلى ابنتها وأخذتها بين ذراعيها ، وضمتها إلى صدرها ، وهي تقول بخفوت :
ـ لا أحد يهلك الشمس يا ابنتي .
حينئذ كتمت هنار صرختها في صدرها كي لا تنطلق مثل قرع طبول لتدوي في بحزاني ، ويمتد صداها من قرية إلى قرية ، ومن مدينة إلى مدينة :
ـ يا باشا ، لا أحد يهلك الشمس .
لأن هنار صبورة وعنيدة في نفس الوقت ، لذلك سحبت نفسها من أنفاس أمها التي فرشت على وجهها دافئة ، ثم خطت إلى خزانة ثيابها ، وأخرجت منها ثوبا أبيضا لتكون في سفر كينونة أخرى ، سفر نابع من ماء القلب والحياة ، وهي تقول :
ـ ماما ... اخرجي لي حلي جدتي .
ـ نعم ، يا ابنتي ....
فتقدمت الأم إلى صندوق صغير في زاوية الغرفة ، وأخرجت منه كيس قماش أسود صغير ، وقدمته إليها التي ما لبثت أن فتحته بسرعة ، وراحت تزين أذنيها بقرطين ، وعنقها بقلادة ، ورجليها بخلخالين ، وإصبعها بخاتم نقش على فصه الأخضر صورة شمس حمراء ، إذ ما لبثت أن قبلت الخاتم ، وقالت بصوت رخيم :
ـ هذا خاتم المحبة يا أمي .
كانت الأم تحوم حول ابنتها مرتبكة دون أن تعرف ماذا يحدث لها ، وقد تعلقت دمعة بين رموشها السوداء ، دمعة صافية خالصة مرتجفة لا تفارق كأسها كأنها غافية فيه ، تلك كانت دمعة حية متقدة دون أن تفارق محجرها الدافئ ، فعضت الأم شفتها السفلى ، وهي تقول :
ـ ماذا يا ابنتي ، أوقعتي في الحب ؟!
ـ نعم ، يا أمي ...
ثم اعتمرت بغطاء الرأس الأسود المرصع بقطع فضية ، ولفته بقطعة قماش منيرة ليس لتكون عمامة مهراة بل لتكونون تاج عذراء ، ينسدل من حافاته شعرها على كتفيها ، وقد زينت فوق أذنها اليمنى وردة حمراء ، ثم لبست درعا منسوجا من رق النسيج ، ووضعت على صدرها وشاحا منقوشا بالورود ، ومخططا بصور الشمس ، ومصبوغا أيضا بلون الشمس ، إلا أن ما زاد رونقها هو الإزار الأحمر الخفيف الذي لفته على جسمها ، وتدلى على جانبها الأيسر كما لو أنها تتأبط به ، ليجلل رشاقتها ، وقوامها الذي أصبح مشرقا ، ثم ما لبثت أن أردفت قائلة بعد أن اكتمل رونقها :
ـ آتيني بالمبخرة يا أمي .
خرجت الأم إلى الموقد ، وهي تلقم المبخرة بخشب من جذع شجرة الزيتون ذات الرائحة النكهة ، وشعلتها لتكون جمرا أخاذا بلونه وديمومته ، وهي تلقي نظراتها على القوال الكبير الذي بدءا يفكك أجزاء سنجق عنزل بترو ، ويغسله بنقع السماق كي لا يخالطه شيء من صفرة أو حمرة ، ولا تكون قد علته غبرة أو عفرة تراب ، ثم اخذ يبلل قطعة قماش بزيت الزيتون في إجانة ، ويمسح القطع لتكون لامعة خالصة ، تامة في نقاء ، وقد أخذت اللمعة كاملها ، ثم وضعها في كيس أحمر منسوج من صوف خالص ، وحمل الكيس على كتفه ليتدلى على جنبه منحرفا على صدره ، ويلامس حزامه الأحمر الذي يطوق خصره ، ثم وضع القوال عباءته البيضاء على كتفيه لتغطي ظهره ، ويدثر بها جزءا من الكيس ، وليكون القوال في هذا اليوم حامل الرمز ، وحامل لواء الخير . عندئذ رجعت الأم إلى الغرفة وهي تهز المبخرة ذات السلاسل الثلاثة الرفيعة التي ارتأت أن تكون هكذا ليس مثل منقلة لئلا تحرق يد بهار الناعمة الصغيرة ، ولتتمكن بهار أن تحملها في كل الطريق إلى بعشيقة ، وقد أطعمتها بالبخور لتنتشر رائحة الطيب في البيت .
اصطف القوالون حفاة قرب عتبة البيت وهم بزيهم الأبيض ، أحدهم حاسر الرأس تتدلى لحيته البيضاء على صدره ، وأخر يعتمر كوفية حمراء ، وآخر يعتمر عقال أسود فوق كوفية بيضاء ، فهذا تقدم إلى الكيس وقبله إلا أن قبلته وقعت على صدر حامل السنجق ، وذاك كان يرتب عباءة حامل السنجق التي تمايلت على جانبه الأيمن دون اتساق ، وكلهم يحملون دفوف ، غير أن صاحب الكوفية الحمراء كان يقبل الناي، وهو ينتظر إشارة البدء ، لكن كبير القوالين كان ينتظر ظهور هنار ، فأراد أن يكون لهذا الجيل شأن في الاحتفال ، وقد وقف إلى جانبه جد هنار التي فرشت معالم الفرح على وجهه . لم تمض لحظات حتى بانت هنار مثل يمامة بيضاء يطوقها لون أحمر ، تمسك بيدها المبخرة التي يتصاعد منها دخان أبيض ذات السلاسل الثلاثة . أجل ، بانت هنار صباحة في وجه ، وضاءة في بشرة ، رشيقة القد ، كاملة الحسن والجمال ، مليحة في فمها وأنفها وحلاوة عينيها ، أنيقة القوام ، فانبهر القوالون وكادت عيونهم تسوغ من محاجرها لبزوغ يمامة بحزاني التي كانت بياض في بياض، فتقدم إليها حامل السنجق ، ووضع في يدها البراة البيضاء ، وهو يردد بخفوت :
أصغي يا هنار ، اسمعي يا هنار ،
جلال صوت الرب ،
جلال نصائح الرب ،
في الصباح المغرور ،
في المساء المنشور ،
احملي البراة ، احفظي البراة ،
هذه البراة هي تراب حمل من مغارة قرب معبد شيشمس في معبد لالش ، ونقع بماء العين البيضاء يوما كاملا داخل المعبد ، ثم عجن بيدي عذراء طاهرة خادمة المعبد ، متصوفة في الدنيا ، زاهدة إلى ربها ، ثم جبلت العجينة ، وجففت لتكون بحجم البندق لتوزع هدايا من قبل القوالين . هذه البراة مباركة مقدسة تحمي حاملها في الشدائد ، وتلبي الدعاء ، وتقوي أواصر المحبة . تطلعت إليها هنار ، وقد استقرت في كفها المفتوح . كانت بيضاء حميمة ، فلم تمر لحظة حتى رفعتها بود إلى شفتيها وقبلتها ، ورددت مع نفسها :
ـ احمي حبي البريء .
ثم دستها في جيبها ، وقررت عندما تعود إلى بيتها بعد هذا اليوم المصرح ستلفها بقطعة جلد ، وتخيط لها قلادة وتعلقها في عنقها كي تكون تعويذة حب أزلية خالدة . لم تمض برهة زمن ثم برهة لتكون بهار في عالم طقوسي ، وهي تردد دعاء القوال كلما انتهى من جملة ، ليتجلل على المكان صوت شبه حزين وقور :
يا رب ، أنت خلقت نفسك بنفسك
يا رب ، أنت معطي القوت
يا رب ، أنت الحكيم والملكوت
يا رب ، أنت عالم العلماء
يا رب ، أنت خلقت نفسك بنفسك
يا رب ، أنت الملك العظيم
يا رب ، أنت ملك العرش العظيم
يا رب ، أنت أزلي عظيم
يا رب ، أنت المقدس العالي الشأن
يا رب ، أنت الغوث وأنت المدد
يا رب ، أنت خلقت نفسك بنفسك
ثم أعطى إشارة البدء ، فنقرت الدفوف ، وعزف الناي ، وتعالت الزغاريد ، والهلاهيل في بحزاني ، وتوالت ترانيم أطلقتها أفواه القوالين ، وتحرك الموكب المهيب ، وقد سبقه قوال ، وهو يصيح بأعلى صوته :
ـ السنجق العنزل قادم .. قادم ...
والقوال يشق طريقه بين الحشود إلى بعشيقة ليبلغهم بالنبأ السعيد :
ـ الزائر الكريم قادم ... قادم ...
فهب أهل بعشيقة من بيوتهم لينظموا الصفوف لاستقبال السنجق العنزل ، وهم يرددون بفرح عظيم :
ـ أهلا وسهلا بالزائر الكريم .
كان الموكب يشق طريقه بين صفين من المحتشدين داخل بحزاني ، ويمر قرب أطراف بساتين الزيتون ، ويخرج من القرية بقافلة حشود بشرية ضخمة ، ويصل التلال التي تتوزع عليها المزارات فعلى يساره بموازاة جبل مقلوب مزارات شيخ شمس وسجادين وآمادين ، وعلى يمينه شيخ حسن ، حيث استطاعت هنار أن ترى مزار شيخ أبو ريشة من بين التلال الذي كانت تزوره غالبا ، وتضع نذورها فيه ، وهو الشهير ، داعية الخير ، التي علقت أسطورته في ذهنها ، إذ عندما دفن في ذلك الوقت القديم جاء طائر سماوي أبيض ، وأخذ ينفض ريشه عنه ليسقط فوق القبر ، وكلما نفض الطائر ريشه ينبت ريش جديد حتى تغطت قمة القبر ، ولذلك شاع أسمه أبو ريش في المنطقة .
توقف الموكب قليلا بمواجهة قبة الثلاث الصغيرة والمتوسطة والكبيرة التي تعطي أيضا صفة أخرى لرمزها الديني : الهلال والقمر والبدر . كانت هنار تميز الأصوات المركبة التي تصرخ في أذنيها من قبل الجماهير الفرحة ، فراحت تميز ترددها ، لم تسمع صوتا أحبت أن تسمعه الآن ، تلك كانت رغبة جامحة متأججة ، ثم أرادت أن يراها ميرزا : كم هي جميلة ! بينما كانت عينا هنار شاردتين بعيدا ، تبحثان عن وجه ميرزا ، وقد تملكها أسى أن لا تراه ، و أن لا يراها ، لكن فجأة رأته فوق التل ، ووجهه يختلج فرحا ، وهو يقفز مرحا على قدميه ، وقد رفع ذراعه إلى أعلى ، وأشر بيده ، وردد اسمها ، سمعت صوته يناديها ، فراحت تحدث نفسها :
ـ تعال حبيبي نصعد جبل مقلوب ، ونتشرب بالرحيق ، ونعيش المدى فوق قمته ، ونصنع جنة الخيال ، ونبني عش الأحلام ، ونسمع أجراس التيس ، ثم نحلق معا إلى السماء ، قلبان يخفقان بقلب واحد ، والأرض تمتد تحتنا ، ونشير إلى بحزاني دون انتهاء ، نطوي العصور ، وندرك المستحيل .
تجاوز الموكب الوادي الذي يؤدي إلى بعشيقة ، وتوقف في مدخلها ، إذ كان وجهاء وشيوخ بعشيقة في استقباله ، فتقدم كبيرهم ، وركع ، ثم قبل الكيس الذي كان يحمل السنجق العنزل ، وهو يقول :
ـ أهلا وسهلا بالزائر الكريم .
وكان هذا يوم فرح ، وذبائح ، وأكل ، وشرب ، وموسيقى ، ورقص ، وغناء في بعشيقة ، وليتواصل السنجق يطوف من قرية إلى قرية ، ومن مدينة إلى مدينة في أرض الأيزيديين ، والكلمات تتردد على الشفاه :
ـ لا أحد يهلك الشمس .