ما الإنسان؟


هشام غصيب
2013 / 1 / 23 - 07:40     

برزت في الحقبة الحديثة العديد من الرؤى بصدد إمكانية علم الاجتماع وطبيعته. ويمكن تصنيفها ابتداء كالآتي:

(1) هناك من يرى بأن المجتمع في جوهره هو كومة من الأفراد، بمعنى أنه يمكن اختزال جميع الظاهرات الاجتماعية إلى ظاهرات إدراكية وسلوكية للأفراد. ويرى أصحاب هذه الرؤية أن الفرد هو جوهر روحي حر الإرادة في أساسه (محكوم عليه أن يكون حرّا، كما يعبر عنها جان بول سارتر)، ومن ثم فهو غير خاضع لقوانين محكمة من صنف قوانين الطبيعة، الأمر الذي يجعل من المجتمع موجوداً اعتباطيا يحكمه مزاج الأفراد والتأثيرات النفسية لفرد على آخر، أو قل إن المجتمع البشري في نظر أولئك ليس أكثر من تعبير جماعي عن جملة من المزاجات الفردية والتأثيرات النفسية. من ثم، فليس هناك إمكانية لعلم اجتماع إما لأن موضوع مثل هذا العلم غير قابل مطلقا لأن يعرف موضوعيا، وإما لأن علم الاجتماع يختزل بحكم موضوعه إلى علم النفس على افتراض أن علم النفس ممكن بوصفه علماً. ونجد هذه الرؤية جلية لدى الوجوديين (كيركغور، هيدغر، ياسبرز، سارتر) ولدى كارل يونغ، عالم النفس المعروف. فهم ينظرون إلى الفرد بوصفه وجوداً مطلقا تنبع منه المعاني والصور والقيم والبنى بحيث لا يمكن اختزاله إلى غيره. إنه نقطة الانطلاق المطلقة. فكل شيء يفسر بدلالته وكل معنى يختزل إليه، لكنه لا يجوز تفسيره بدلالة غيره، حيث إنه مصدر كل تفسير لأنه مصدر كل معنى. إنه معطى أولي لأنه مصدر كل المعطيات. وهو يصنع ذاته بحرية مطلقة لا يقيدها شيء سوى حرية فرد آخر. لذلك ميز سارتر الإنسان عن غيره من الكائنات باعتباره “الموجود” الوحيد الذي يسبق وجوُده جوهرَه. أما الكائنات الأخرى فإن جوهرها يسبق وجودها، بمعنى أن وجودها يأتي تحقيقا لجوهرها. أما الفرد الإنساني، فإنه يصنع ذاته بذاته، بمعنى أن كل جوهر ينبع من وجوده. إنه حرية مطلقة مغروسة في قلب عالم أصم خال من المعنى. وعليه فإن المجتمع ليس سوى ثلة من الحريات التي يسعى كل منها إلى تقييد الأخرى وتشييئها بصورة اعتباطية. هذا هو مجتمع الوجوديين الذي تغنت به البرجوازية الغربية ردحاً من الزمن. وهو بالطبع ليس قابلاً لأن يعرف من حيث الطبيعة والمبدأ. لذلك، فإنه لا يجوز التعامل معه على أساس علمي. إنه خارج إطار العلم فكراً وممارسة. بل، لقد بلغ الأمر في كارل يونغ مثلا أن عرّف المجتمع البشري بأنه مجموع الأفراد الذين هم في حاجة إلى الخلاص، ومن ثم فإن خلاص المجتمع هو في جوهره خلاص روح الفرد.

(2) وهناك الوضعيون الذين لا يعترفون بالمشكلة أصلاً. فهم لا يعترفون بوجود الطبائع ويعتبرون مثل هذا الاعتراف فعلاً ميتافيزيقيا بعيداً عن روح العلم. فهم لا يعتبرون العلم ممارسة تهدف إلى الكشف عن طبائع الأمور وعن الآليات الموضوعية والقوانين التي تنتج الظاهرات، وإنما تعتبره ممارسة تهدف إلى جمع أكبر عدد من البيانات وتنظيمها في أقل عدد من الصيغ والجمل والمعادلات من اجل استعمالها لاحقاً في الحياة العملية بصورة منتجة وفعالة. ولا فرق في ذلك بين البيانات الطبيعية والأخرى الاجتماعية. جميعها بيانات تنطبق عليها أساليب التنظيم والتعبير ذاتها. لذلك يدعو الوضعيون علماء الاقتصاد والاجتماع إلى تبني طرائق الفيزياء وأساليبها للوصول إلى قواعد وقوانين اقتصادية واجتماعية يمكن استعمالها من قبل الفئات المتنفذة للسيطرة النسبية على المجتمع. وبالفعل نجد علم الاقتصاد الغربي الحديث يعج بمثل هذه الأساليب الفيزيائية والإحصائية والرياضية حتى ليخال المرء المجتمع مجرد نظام مادي عادي كالمجموعة الشمسية أو كالغازات. ولما كان المجتمع البشري نظاما مفتوحاً ليس فيه انتظامات جلية في الأحداث والظاهرات، ولما كان الوضعيون يعتقدون أن القوانين ليست سوى انتظامات متكررة، فإن كثيراً منهم يخلصون إلى الاعتقاد بأن المجتمع نظام معقد جداً، إما لا تحكمه قوانين فعلية، وإما يعجز العلم عن معالجته حتى لو كان هناك قوانين فعلية تحكمه وذلك لتعقده، وإما تحكمه قوانين تقريبية نسبية جداً لا يدوم فعلها إلا لفترات صغيرة نسبيا. فالوضعيون إذاً يدعون إلى معالجة المجتمع البشري تماماً كما تعامل الطبيعة وبالأساليب ذاتها. ولا يرون فرقاً بين الظاهرات الاجتماعية والظاهرات الطبيعية إلا من حيث درجة الانتظام. فالظاهرات الطبيعية أكثر انتظاماً وتكراراً بكثير من الظاهرات الاجتماعية، الأمر الذي يجعل علم الطبيعة (الفيزياء) أكثر دقة ونجاحاً وفاعلية وريادة من علم الاجتماع.

(3) وهناك الماديون المبتذلون الذين يعترفون بوجود مجتمع أو ظاهرات اجتماعية فعلية، وإنما يختزلون الظاهرات الإنسانية إلى تفاعلات مادية طبيعية بين مجموعة من الكائنات البيولوجية المتطورة مع نفسها ومع محيطها الطبيعي. إنهم يعتبرون المجتمع البشري مجرد وهم ذاتي تفرزه أدمغة الكائنات البيولوجية البشرية تعبيراً عن تفاعلاتها البيولوجية المادية معاً ومع محيطها الطبيعي. بذلك فهي تختزل علم الاجتماع إلى علم البيولوجيا. وقد راجت هذه الرؤية المبتذلة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (بيشنر، موليشوت، فوغت، هيكل)، حيث انتقدها فريدريش إنغلز انتقاداً لاذعاً وشاملاً بماديته الجدلية. كما إنها راجت بأشكال أخرى في العقود الثلاثة الأخيرة. وتنزع المادية المبتذلة إلى تفسير الظاهرات الاجتماعية والتاريخية تفسيراً عرقيا، حيث إنها تعتبر بعض الأعراق البشرية أكثر قدرة على الخلق الحضاري من غيرها بحكم تركيبها البيولوجي. ويقودها ذلك إلى ليّ التاريخ ووقائعه وتزويرها بصورة فجة ومعالجته بصورة تجريئية من أجل تدعيم مقولاتها العنصرية غير العلمية.

(4) وهناك التأويلية hermeneutics والتأويليون الذين يعاملون المجتمع البشري بوصفه نوعاً معينا من اللغة يتم فهمها أو تأويلها بمعرفة القواعد واللعبات التي يسير المجتمع وفقها. إن المجتمع في نظر أولئك هو نظام من الرموز والمعاني. أما الأفعال فهي تجسيدات للرموز والمعاني. وعليه، فإن وظيفة علم الاجتماع تتمثل في استكشاف قواعد الترميز التي تمارس الافعال وفقها، ثم قراءة الأحداث الاجتماعية بدلالة هذه القواعد ومفرداتها. لذلك يفرق التأويليون بصورة أساسية بين علوم الطبيعة وبين علوم الاجتماع. فالأولى تجريبية المنهج وتتمحور حول مفهوم العلة أو السبب. أما الثانية فهي مفاهيمية المنهج وتتمحور حول مفهوم المعنى. لذلك كانت التجربة الأداة الرئيسية للأولى فيما كان التأويل الأداة الرئيسية للثانية. هناك إذا فصل كامل بين علم الطبيعة وعلم الاجتماع من حيث الطبيعة والمنهج والأسلوب. وعلى سبيل المثال، فقد عمد بيتر ونش Peter Winch ، فيلسوف الاجتماع المعروف، إلى تطبيق فلسفة فتغنشتاين المتأخرة في اللغة على أشكال أخرى من التفاعل بين البشر على اعتبار أن هذه الأشكال “الاجتماعية” تشترك مع اللغة في طابعها الرمزي، أي في كونها تحمل معنى. وبتعبير آخر، فقد اعتبر ونش المجتمع ظاهرة فكرية مفاهيمية محضاً تعبر عن التفاعل الروحي بين البشر، متناسيا أن التفاعل الأساسي ل للبشر هو تفاعل الأفراد مع الطبيعة بصورة منظمة عبر العلاقات الاجتماعية بينهم من أجل إنتاج مستلزمات حياتهم المادية والمعنوية. إن أمثال ونش هم الوجه الآخر للماديين المبتذلين. ففي الوقت الذي يتناسى فيه الماديون المبتذلون أن الإنسان يمثل طفرة دماغية في عالم الحيوان وأنه كائن بيولوجي متطور مفكر، فيختزلوه إلى مجرد نظام بيولوجي عادي وكأنه مجرد حيوان، فإن التأويليين يتناسون أن الإنسان يظل كائناً بيولوجيا برغم تطوره الدماغي الكبير. وهناك بالطبع بعد تبريري في التأويلية. فهي تعمد إلى فهم مجتمع معين بدلالة قواعده التي يسير عليها، أي من داخله. من ثم فهي تكرس هذه القواعد وتبررها وتضفي عليها مشروعية. فالتأويلي يعمد إلى الكشف عن روح مجتمع معين وتمثله أو تقمصه، ثم استعماله أداة في تأويل الأحداث والظاهرات الاجتماعية. إنه يختزل الفعل الاجتماعي المادي بجوانبه المتعددة إلى جانب تجريدي واحد متمثل في الرمز والمعنى، مهملاً الجوانب الأخرى، وفي مقدمتها الجانب العملي. إنه يختزل الكائن الإنساني العياني إلى مجرد روح تخاطب غيرها بالتعبير عن ذاتها.

(5) وأخيراً وليس آخراً، فهناك الواقعيون الجدليون، أي الماركسيون، الذين ينظرون إلى الإنسان على أنه كائن بيولوجي متطور أفراده قادرون على تنظيم أنفسهم في بناء من العلاقات الموضوعية (أي في تشكيلة اجتماعية) يمارسون عبره عملاً هادفا منظماً يحول بيئتهم الطبيعية بما يسدّ حاجاتهم ورغباتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وترتد عملية الإنتاج والتحويل هذه عليهم وعلى بنائهم التنظيمي محولة إياهم وإياه بصور مختلفة. فالإنسان يصنع نفسه (أي أفراده وبناءهم التنظيمي) إذ يصنع بيئته الطبيعية ويستوعبها لسدّ حاجاته. إنه يحول بيئته بقواه الإنتاجية عبر علاقاته الإنتاجية، فتعمل بدورها على تحويله وتغييره صوب مزيد من القدرات والمهارات. هكذا يتطور المجتمع البشري وهكذا يصنع التاريخ. والسؤال، الذي يبرز في ضوء التحليل الوارد أعلاه، هو: ما هي طبيعة البناء التنظيمي؟ أي ما هي طبيعة العلاقات التنظيمية التي يمارس الأفراد حياتهم عبره؟ هذا ما سنجيب عنه في مقالات لاحقة.