خيرى شلبى سارق الفرح


صلاح السروى
2011 / 9 / 13 - 08:03     

هوى كوكب جديد من برج الثقافة العربية فى مصر , رحل صاحب "وكالة عطية" و"موال البيات والنوم" و"والشطار" و"صحراء المماليك" .. الخ. رحل خيرى شلبى ابن الثالثة والسبعين عاما ولم يفرغ بعد من الحكايا والأفكار والمقالات التى يمكنها أن تملأ أعمارا على عمره , فلقد ظل يعمل وينتج بذات الدأب والانتظام والغزارة حتى الرمق الأخير من حياته, ورحل تاركا مشاريع لم تكتمل بعد وأعمالا تنتظر الانتهاء وأخرى يخزنها فى واعيته الى أن يفرغ مما بين يديه ويأتى دورها. لقد كان حكاءا كبيرا, لاينضب معينه ولاتفرغ جعبته من القصص والمواقف والمعانى.
ولد خيرى شلبى عام 1938ونشأ فى قرية شباس بمحافظة الدقهلية فى أسرة متوسطة هى الى الفقر أقرب, ثم رحل الى القاهرة فقيرا وضائعا ومشردا وجوابا للآفاق ومتنقلا فى الدروب, فكان لكل ذلك دور كبير فى اغناء تجربته الحياتية واثرائها على نحو غير مسبوق, مما مكنه من الغوص حتى الأعماق فى تلافيف وتفاصيل الحياة الشعبية المصرية بكل تنوعها وتراكبها حتى غدا مؤرخها الأدبى والجمالى وسفيرها الروحى والثقافى دون منازع. لقد انحاز خيرى شلبى الى هؤلاء البسطاء من المهمشين والفقراء والصعايدة والنازحين وسكان المقابر والعشوائيات والقرى النائية وتعاطف مع أصحاب الطرافة والمقالب من بسطاء الريف وقدمهم على أنهم أبطال عظام, حتى خطاياهم وقباحاتهم جاءت على قدر كبير من الجمال والانسانية.
لقد رأى خيرى شلبى عالمه بأعين هؤلاء البسطاء فرسم أنماط رؤيتهم للواقع الذى يعيشون قسوته وبؤسه, فابتعد عن التفلسف ووادعاء الحكمة وتقمص الوعى اليومى البسيط لأبطاله وتبنى طريقتهم فى التفكير والتعبير والمماحكة والمشاحنة والاحتيال وابتكار السعادة وسرقة الفرح. فتمكن من خلق أجواء الحياة الفقيرة بألفاظها الخشنة, ومعاناة البحث عن الرزق بحيلها النابية, والمكابدة الوجودية بلوعتها الروحية والنفسية, راسما من كل ذلك لوحات انسانية بالغة الرقة والتوهج والعمق فى الآن نفسه, كما تمكن من أن يصنع من مصائر أبطاله ومآلاتهم الشخصية ما يكاد يشبه فصولا عميقة الغور فى دراسة جمالية للنفوس والشخصيات وتحولات الواقع السياسى المصرى المصطخب, لاتقل فى أهميتها ولا دلالتها العميقة عن ما يمكن أن تصل اليه الأبحاث الأكاديمية الرصينة لعلمى النفس والاجتماع وان تم ذلك بطريقته الخاصة التى تكشف عن الخفى والكامن فى أعماق الوعى والوجود الانسانى والمصرى. فانطبق عليه ماذكره فريدريك انجلز عن بلزاك, من أن قراءة أعماله قد تمنحك وعيا اجتماعيا بأكثر مما تمنحه لك مكتبة فى علم الاجتماع. انها مورفولوجيا الواقع المصرى بكل أبعاده الانسانية والاجتماعية والسياسية.
تميزت أعمال خيرى شلبى, الى جانب ذلك, بالطرافة والقدرة على تحقيق المتعة والتسلية الفائقة, فلا يمكنك الا أن تكمل قراءة قصصه ورواياته وأنت ممتلىء بالدهشة والمتعة والضحك من أعماق قلبك رغم مأساوية الأجواء وقتامتها .. فهناك شبه العاطل الذى يسرق الحذاء الثمين من أخيه الطبال الميسور الحال لكى يكمل زفافه من ثمنه (فى مجموعة سارق الفرح), وهناك من يحترف التزويغ من محصل الباص ويبدع فيه باعتباره فنا معتبرا, ذلك الباحث أبدا عن مكان للمبيت والنوم فى مدينة قاتمة لاترحم (موال البيات والنوم), وهناك من يعمل يوما كاملا من أجل وجبة من الفول والبصل والباذنجان المقلى فيشعر بعدها بأنه قد أضحى مثل الثور المتقد بالقوة والطاقة فى (أولنا ولد) .. الخ.
لقد تميزت معظم الأعمال الروائية لهذا الكاتب الكبير بطولها النسبى, نظرا لقدرته الفائقة على توليد الحكايات وتضفيرها والاستطراد فيها دون أى قيود أو خضوع ظاهر لمتطلبات البناء الروائى وضروراته الفنية, فجاء فنه أقرب الى الأدب الشفاهى والحكى الحر منه الى الأبنية المصنوعة بمتانة وهندسة محكمة. وهو ما أدى الى أن يصبح فن خيرى شلبى فن "جو" أو بيئة millio الى جانب كونه فن الشخصية والحدث بذات القدر من القوة.
لقد رحل صاحب "صهاريج اللؤلؤ" مخلفا وراءه صهاريج هائلة مليئة بالقيمة والمعنى وجديرة بالتأمل والتعلم من اللآلىء الروائية والقصصية والمقال الأدبى والنقدى والتحقيق, فلقد كان الراحل الكبير, رغم بعض تصريحاته الهجائية, شعلة وضاءة دائمة التوهج والفاعلية أنارت حياتنا الأدبية والثقافية.