تفكيك العقل بالعقل


هشام غصيب
2013 / 11 / 28 - 10:23     

هاجسنا في هذه السلسلة من المقالات هو العقل العلمي الحديث وما يتعرض إليه من هجمات شرسة من قبل النخب الثقافية الغربية المسيطرة، من أجل احتوائه وتقليص نفوذه وربما تصفيته. فمع أن البرجوازية الغربية ساهمت مساهمة أساسية في بناء هذا العقل النظري في مراحل صعودها في مجابهة قوى الإقطاع الغربي، إلا أنها أخذت، وبصورة متزايدة، تتنكر له وتسخر أدواته من أجل زعزعة صدقيته في سياق محاولة الحدّ من نفوذه وربما تصفيته. ولئن وضعنا نصب أعيننا مناقشة هذه المحاولات من منظور الدفاع عن العقل العلمي الحديث، فإن الذي يدفعنا إلى بذل هذا الجهد هو إدراكنا ضرورة بقاء هذا العقل حيا نابضاً في مركز الصدارة في الحضارة البشرية الحديثة لاستمرار البشرية بيولوجيا وحضاريا وبقائها. نعم ! إننا نزعم أن العقل العلمي الحديث أضحى شرطاً أساسيا من شروط استمرار النوع البشري واستمرار الحضارة البشرية. فلئن أدت تصفية العقل النظري في الحضارة الإسلامية إلى جمودها، فهزيمتها الماحقة أمام جحافل الغرب، فإن تصفية العقل العلمي الحديث قد تتعدى الجمود إلى انهيار الحضارة والحياة البشريتين على سطح الأرض، بالنظر إلى هول ما أفلحت الرأسمالية في تفجيره من قوى الإنتاج والدمار وإلى كونيتها وعالميتها. فهذه القوى الجبارة، التي أفلحت الرأسمالية الغربية في تفجيرها، تحتاج إلى من يضبطها ويوجهها حفاظاً على الإنسان وبيئته. وينبغي على من يوجهها أن يكون مدركاً بدقة لطبيعتها وقوانين فعلها وآليات تفاعلها وتطورها، أي أن يكون مسلحاً بالعقل العلمي المتطور. ويرى الماركسيون أن الجهة القادرة، بحكم موقعها في المجتمع الحديث، على التصدي لهذه المهمة هي الطبقة العاملة. فهذه الطبقة المنتجة هي التي تسيّر المجتمع الحديث، لكنها تسيره مرغمة في مجابهة ذاتها ولصالح قوى الفوضى والدمار، الأمر الذي يضع على كاهلها مسؤولية تحويل المجتمع الرأسمالي إلى نوع آخر من المجتمعات يسيره المنتجون من أجل أنفسهم وبيئتهم بصورة منضبطة منظمة على أساس مبدأي المعرفة العلمية والحرية الإنسانية. إذاً، فإن مسألة الدفاع عن العقل العلمي الحديث وتوفير شروط بقائه ونموه الحر وتوسيع نفوذه في المجتمع هي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلينا، وليست ترفاً فكريا أكاديميا.



وينبغي التأكيد هنا على تاريخية العقل العلمي الحديث. فقد تكون هذا العقل جنينا في أحشاء الفلسفة الطبيعية القروسطية (الإسلامية والمسيحية) ، وولد رضيعاً تحت رعاية البرجوازية الأوروبية والقوى القومية الصاعدة، ونضج في القرن الثامن عشر مع انتصار فلسفة نيوتن الطبيعية، وتبوأ مركز الصدارة في القرنين التاسع عشر والعشرين مع انتصار نمط الإنتاج الرأسمالي وهيمنته عالميا. ويتكون هذا العقل من المنهج العلمي بتجلياته المتنوعة ومن عائلة الفلسفات الحديثة التي قامت من أجل التأسيس له وبوحيه، وبخاصة الفلسفة المادية. هذه المنظومة الحديثة من الرؤى النظرية العلمية والفلسفية هي ما نسميها العقل العلمي الحديث. وهو، بهذا المعنى ، عضوية متنامية تمس جوانب الحياة جميعاً. والرأي السائد بصدد هذا العقل أن النظرية الفيزيائية تشكل قلبه ومثاله وقمته(أوجه) ، وبخاصة فيزياء القرن العشرين ممثلة بنظرية النسبية العامة ونظرية الكم. لكني أعتقد أن العقل العلمي الحديث وصل أوجه الحقيقي (قمته، مثاله) في الماركسية التي وحدت في منهجها النقدي الثوري ما بين العلم والفلسفة، وجاءت حلاّ للتناقضات الرئيسية في عقيدة التنوير. وأساس هذا الاعتقاد هو أن الفيزياء الحديثة، برغم انجازاتها الباهرة حقا، تفتقر،ربما بحكم طبيعتها، إلى عنصر النقد الذاتي. وأعني بذلك أنها تمتلك آليات لاختبار أفكارها واستنطاق موضوعها (الطبيعة). لكنها تفتقر إلى آليات لنقد جوهرها، أي منهجها. إن المنهج، في هذه الحال، يمتلك آليات نقد النتائج، سواء كانت تجريبية أو نظرية، لكنه لا يمتلك آليات نقد ذاته ومسيرته. أما الماركسية فهي نقد مطلق للقائم، بما في ذلك ذاتها . ولأنها أفلحت في توحيد الفلسفة مع العلم، فقد أفلحت في امتلاك أدوات النقد الذاتي. فهي قادرة على نقد خطابها في الجوهر. وهذه السمة الجوهرية للماركسية تجعل العلم الطبيعي ذاته في حاجة إلى الماركسية. فهو عرضة للاختراقات الآيديولوجية الضارة التي تعوق مسيرته المعرفية ، ومن ثم فهو في حاجة إلى منهج نقدي يسعى إلى تطهيره باستمرار من هذه الملوثات الآيديولوجية. ويظهر ذلك بجلاء في فيزياء القرن العشرين، التي هزتها رياح اللاعقل المتعاظمة، وبخاصة المثالية الذاتية، حتى كادت تقتلعها من جذورها وتربتها المادية. فالهجمة العاتية التي تعرّض لها العقل في القرن العشرين لا تقتصر على الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وإنما تمس العلم الطبيعي أيضا، ذلك الحصن المنيع الذي كان يظن أن التجربة والمشاهدة تحميه تلقائيا من اللاعقل. لكنه تبين أنه لا يقل عرضة للاعقل من الفلسفة ذاتها.



يتضح إذاً أن الماركسية هي قمة العقل العلمي الحديث وأوجه وحاميه. ولعل هذه الحقيقة هي التي تدفع مثقفي البرجوازية الغربية اليوم إلى عدم الاكتفاء بمهاجمة الماركسية في حدّ ذاتها ، وإنما تدفعهم أيضاً إلى محاولة اجتثاث الماركسية من جذورها بنسف قواعدها المتمثلة بالعقلانية العلمية ومشروع التنوير وصولاً إلى الإنسانوية المسيحية، فالعقلانية الإغريقية. فالماركسية، وفق البرجوازية الغربية، هي نوع من السرطان الخبيث، الذي ينبغي استئصاله من جذوره. فالاكتفاء باستئصال الخلايا السطحية قد يوقف تفشيه إلى حين، لكنه لن يفلح في ذلك على المدى الطويل. لذلك، لا مفرّ من البحث عن جذوره واستئصاله منها. لكن البرجوازية الغربية لا تدرك، أو لا تريد أن تدرك، أن استئصال الماركسية من جذورها قد يعني استئصال البشرية والحضارة البشرية من جذورها وشرط بقائها. لقد تحول رعب البرجوازية الغربية من العقلانية العلمية إلى نوع من القرف والتقزز البدني، بحيث أضحت درجة تحرر الفيلسوف من مشروع التنوير وتراث التنوير مقياساً لنجاحه و تقديره. وهي لا تني تعبر عن تبرمها حتى بنيتشه و هيدغر و فلاسفة ما بعد الحداثة، لأنها ترى أنهم لم يتحرروا تماماً من مشروع التنوير ولم يذهبوا بعيداً في تحطيم العقل العلمي الحديث. ولكن، لئن كان العالم قادرا، بصعوبة، على تحمل كارثة تفكيك الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، فهل هو قادر على تحمل تفكيك الماركسية، تمهيداً لتفكيك مشروع التنوير برمته ؟! لست أظن ذلك. وهذا الاعتقاد هو الذي حداني منذ البداية (منذ بداية تفكك المنظومة الاشتراكية) إلى المناداة بفك الارتباط بين الماركسية والاتحاد السوفييتي من أجل إنقاذ مشروع التنوير والعقلانية العلمية. فالخطر، كل الخطر، في جعل تفكيك الاتحاد السوفييتي مناسبة ومدخلا إلى تفكيك مشروع التنوير برمته. فلئن أخفقنا في منع تفكك الاتحاد السوفييتي، فلنلملم صفوفنا ونحاول الحد من سيرورة التفكيك هذه، بحيث لا تنتقل إلى الماركسية نفسها، فتفضي إلى انهيار صرح العقل والتنوير برمته!



لقد كان الاتحاد السوفييتي تجسيداً جزئيا لمشروع التنوير، أي صورة لجانب من هذا المشروع، لكنه لم يرقَ إلى مستوى التجسيد الكلي له. لذلك كان صورة ناقصة تنخرها الثغرات لمشروع التنوير. ولم تتح الظروف التاريخية التي سادت في القرن العشرين – لم تتح للبروليتاريا الروسية بناء تجسيد كلي لمشروع التنوير. وقد استغلت القوى الطفيلية،قوى الثورة المضادة، الداخلية، وبالتواطؤ مع البرجوازية الغربية، هذه الثغرات لتفكيك الاتحاد السوفييتي وتصفية ما كان يمثله من جوانب تنويرية ومكاسب تاريخية للطبقة العاملة السوفييتية وشعوب أطراف النظام الرأسمالي العالمي. وفتح نجاح البرجوازية الغربية في تفكيك الاتحاد السوفييتي شهيتها على تفكيك الماركسية، فمشروع التنوير برمته. فأخذت تؤكد على أن تفكيك الاتحاد السوفييتي هو عملية انهيار داخلي له، وأن المشروع اللينيني كان فاشلاً منذ البداية ومحكوم عليه بالفشل والانهيار، وأن “انهيار” المنظومة الاشتراكية دليل على فشل الماركسية ومشروع التنوير. وحولت هذا الزعم الأخرق إلى مسلمة في خطابها الثقافي والسياسي، وبنت على أساسه برنامجها التفكيكي الذي يسعى إلى رفض كل ما يمت بصلة إلى العقلانية العلمية الحديثة، بما في ذلك الليبرالية الإنسانوية. إنها تحاول أن توهم نفسها وتوهمنا أن مشروع التنوير قد أخفق وانهار من الداخل، وأن علينا أن نبحث عن البديل، إما بالتمسك بتخلفنا (في حال مجتمعات الأطراف غير الغربية) وإما بالبحث عن البديل في التراث اللاعقلاني الحديث، وبخاصة في نيتشه و هيدغر. وسنرى في مقالات لاحقة كيف تستفيد البرجوازية الغربية من هذا التراث، ومن هذين الفيلسوفين تحديداً، في محاربة العقل والبحث عن البديل.