عندما وعد كيسنجر وزير خارجية العراق ب-تحجيم- إسرائيل!


داود تلحمي
2011 / 9 / 12 - 19:40     

هنري كيسنجر هو علم من أعلام السياسة الخارجية الأميركية في القرن العشرين. فقد شغل موقع مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية في إدارتي ريتشارد نيكسون (1969-1974) وجيرالد فورد (1974-1977) الجمهوريتين. وهو ترك بصماته القوية على الدبلوماسية الأميركية، لا بل على مجمل التوجهات الإستراتيجية السياسية الأميركية لأعوام طويلة لاحقة.
وبالرغم من أن بصماته هذه، ومعظمها مغمّس بالدم، شملت مختلف مناطق العالم، من فييتنام وجارتيها كامبوديا ولاوس في مراحل التصعيد العسكري هناك قبل التوصل الى اتفاق باريس الذي أنهى الحرب، الى أميركا اللاتينية، حيث أشرف، من بين تدخلات عديدة في القارة، على الإنقلاب الدموي الشهير على الرئيس اليساري المنتخب لجمهورية تشيلي سلفادور أييندي (الليندي) في 11/9/1973، مروراً باللعب على الخلاف بين الإتحاد السوفييتي والصين، والإنفتاح، بشكل مفاجئ، على جمهورية الصين الشعبية منذ العام 1971، إلا ان ما يهمنا هنا هو على دور كيسنجر في منطقتنا، وخاصةً في ساحة الصراع العربي- الإسرائيلي والمنطقة الخليجية، وهو دور ترك آثاراً طويلة الأمد على خارطة المنطقة وعلى مصير شعوبها.

لقاء سري في باريس أواخر عام 1975 بين هنري كيسنجر وسعدون حمّادي

وسنتناول حصراً هنا محضراً للقاء، كان سريٍّاً في حينه، جمع بين هنري كيسنجر، وكان قد أصبح وزيراً للخارجية الأميركية منذ أواخر آب/أغسطس من العام 1973، ووزير خارجية العراق، آنذاك، سعدون حمادي. وهذا اللقاء جرى في العاصمة الفرنسية باريس، في مقر إقامة السفير العراقي، يوم 17/12/1975 تحديداً، ودام زهاء الساعة. وتم الكشف عن محضر اللقاء علناً في أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وذلك من بين الوثائق التي تفرج عنها الإدارات الأميركية عادةً بعد مضي سنوات معينة على تسجيلها. وحين تم نشر هذا المحضر، كان النظام الذي كان يمثّله وزير الخارجية الأسبق حمّادي قد تمت الإطاحة به بفعل الإجتياح الأميركي- البريطاني، الذي بدأ، كما هو معروف، في آذار/مارس من العام 2003.
وللتذكير، كان العراق، آنذاك، أي في العام 1975، لا يقيم علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة، بعد أن قطعها النظام السابق، نظام عبد الرحمن عارف، في العام 1967، إثر الحرب الإسرائيلية على بلدان المحيط العربي وما نتج عنها من إحتلال لسيناء المصرية والجولان السوري والأراضي الفلسطينية التي بقيت خارج السيطرة الإسرائيلية إثر النكبة وحرب العام 1948، وهي القدس الشرقية وبقية الضفة الغربية لنهر الأردن، وقطاع غزة. وكان الزعيم المصري جمال عبد الناصر قد اتهم الولايات المتحدة علناً، في الأيام الأولى للحرب، بدعم إسرائيل فيها. وهو أمر بات اليوم معروفاً ومكشوفاً في الكثير من تفاصيله، وإن كانت القوات الأميركية لم تتدخل مباشرةً في الحرب، في زمن كانت فيه منشغلة بحربها المكلفة في فييتنام، حيث أعطت إدارة ليندون جونسون الضوء الأخضر (أو البرتقالي، على حد تعبير الخبير السياسي والأكاديمي الأميركي ويليام كوانت، الذي أوضح أن سائقي السيارات يتعاملون مع "البرتقالي" باعتباره عملياً "أخضر") لحربٍ يستفيد منها الحليفان الإسرائيلي والأميركي في آنٍ واحد، خاصة إذا ما تمت الإطاحة بالرئيس المصري جمال عبد الناصر.
محضر اللقاء الذي نحن بصدده، كما تم تسجيله من قبل الجانب الأميركي، يظهر مدى خبث الوزير الأميركي في محاولته الظهور بمظهر المحايد في الصراع العربي- الإسرائيلي، أو حتى مظهر الراغب في "تحجيم" إسرائيل، بمعنى "تصغير حجمها"، وهي الكلمة التي استعملها هو نفسه في الحديث مع الوزير العراقي، كما بمظهر الراغب في فتح قنوات مع كافة الدول العربية تقريباً، باستثناء اليمن الجنوبي وليبيا آنذاك، تحت عنوان واضح في مجمل سياسته الشرق أوسطية: وهو إضعاف حضور الإتحاد السوفييتي في هذه المنطقة الحيوية وصولاً الى إبعاده تماماً إن أمكن ذلك، بما في ذلك وخاصةً في بلدان الصراع العربي- الإسرائيلي والبلدان "الراديكالية" بشكل عام، وفق التعبير الذي استخدمه مع الوزير العراقي.
ومن منطلق معرفة كيسنجر بمدى حرص النظام العراقي في تلك الحقبة على الحفاظ على مسافة من الإتحاد السوفييتي، بالرغم من العلاقات الإقتصادية والتسليحية الواسعة نسبياً معه، وفي الوقت ذاته تشدد النظام تجاه إسرائيل، أطلق كيسنجر خلال اللقاء، في ما أطلق، دعوة للحكام العراقيين للتخفيف من تشددهم وعلاقتهم بالإتحاد السوفييتي، مقابل تغيير إيجابي تجاههم من قبل الولايات المتحدة، وتغيير في سياسة واشنطن تجاه إسرائيل. فهو قال، مثلاً:
"الإسرائيليون يفضلونكم على السادات، لأنهم يرغبون في وضع الأمور في صيغة مشكلة أميركية – سوفييتية".
وأضاف:
"نحن لا نتدخل في علاقاتكم مع السوفييت... ولكن، جوهرياً، الإسرائيليون يفضّلون الراديكاليين العرب".
وهو هكذا يقول ان الإسرائيليين يفضلون أن يكون الحكام العرب مع السوفييت حتى يقف الأميركيون مع إسرائيل وحدها في سياق صراعهم العالمي مع الإتحاد السوفييتي. وهي دعوة واضحة للعراق لمزيد من الإبتعاد عن الإتحاد السوفييتي والإقتراب من الولايات المتحدة، والتخفيف من التشدد، الذي تحبّذه إسرائيل، وفق كلام كيسنجر.
ويبدو أن كيسنجر تعامل مع الوفد العراقي في اللقاء على أساس انه لا يعرف بالعمق معطيات الوضع الداخلي في الولايات المتحدة، وطبيعة العلاقة بينها وبين إسرائيل، فذهب بعيداً في محاولة تضليل محاوريه العراقيين، الذين كانوا يطرحون عليه الأسئلة الإستفسارية.
ففي رد على سؤال يتعلق بأسباب استمرار تسليح الولايات المتحدة لإسرائيل، يقول كيسنجر بأن "أميركا دعمت إسرائيل لأسباب داخلية بالأساس، وبقي نفوذ المجتمع (يستعمل تعبير "كوميونيتي" بالإنكليزية) اليهودي في الولايات المتحدة يؤثر بشكل هائل (على السياسات الأميركية) حتى 1973، وقد تغير الوضع خلال السنتين الأخيرتين بفعل السياسة التي نتبعها"!
ويقول:
"نحن لا نحتاج إسرائيل للتأثير في العالم العربي. بالعكس، إسرائيل تسبب ضرراً لنا أكثر مما تحقق لنا فائدة في العالم العربي. نحن لا نستطيع أن نفاوض على وجود إسرائيل، ولكننا نستطيع أن نقلّص حجمها الى مقادير تاريخية. وأنا لا أوافق بأن إسرائيل هي خطر دائم". ويتحدث كيسنجر عن حجم إسرائيل البشري المتواضع، مقارنةً بالعالم العربي، معتبراً أن تفوقها التكنولوجي والعسكري الراهن مؤقت، وأنه "خلال عشرة الى خمسة عشر عاماً ستصبح إسرائيل مثل لبنان، تكافح من أجل وجودها، بدون أي تأثير في العالم العربي"!!
والطريف هنا أن كيسنجر، الألماني اليهودي المولد، يضع نفسه أمام محاوريه العراقيين خارج "المجتمع اليهودي"، وكأنه يتحدث عن "مجتمع" غريب عنه، أو هو حيادي تجاهه.
ويستذكر كيسنجر، أثناء الإجتماع، لقاءه الأول مع الملك فيصل بن عبد العزيز، فيقول أنه طمأن العاهل السعودي بـ"أن هناك تغييراً مهماً في الولايات المتحدة" - ويقصد، طبعاً، لغير صالح إسرائيل، ولصالح العرب-، ولكن الأمر "سيتطلب بضع سنوات، وعلينا أن نتحرك ببطء. لقد وصلت الأمور الى نقطة في أميركا حيث المواقف تغيرت". ويضيف: "عندما أقوم بشهادات أمام لجان الكونغرس، أواجَه بشكل متزايد بأسئلة عدائية بشأن إسرائيل".

حديث مضلِّل عن تغيّر مزعوم في السياسة الأميركية: إسرائيل ستصبح مثل لبنان!

ويمضي كيسنجر في عملية التضليل بعيداً، حيث يقول:
"كان الدعم المالي (لإسرائيل) في الستينيات 200 الى 300 مليون دولار (سنوياً)، والآن هو 2 الى 3 مليار دولار. وهذا غير قابل للإستدامة. فنحن لا نستطيع حتى توفير الأموال لنيويورك. هي مسألة وقت قبل أن يكون هناك تغيير.. سنتان الى ثلاث. بعد التسوية، إسرائيل ستكون بلداً صغيراً ودوداً... وستتأثر بقانوننا الإنتخابي الجديد.. وهكذا، فتأثير البعض الذين يموّلون الإنتخابات في الماضي لن يكون كبيراً. وهذا ما لم تتم ملاحظته. وسيحتاج الى بضع سنوات قبل أن يتم فهمه بشكل كامل".
ويضيف:
"هكذا أعتقد أن الميزان في أميركا يتحرك. ذلك إذا كان العرب، إذا شئت أن أكون صريحاً، لا يعمدون الى القيام بأي شيء غبي. فإذا كانت هناك أزمة مرتبطة بالإتحاد السوفييتي، فالمجموعات في أميركا يمكن أن تحوّلها الى معركة معادية للشيوعية".
ويقول:
"نحن نريد الحفاظ على وجود إسرائيل، ولكن ليس سيطرتها على المنطقة... وهكذا، إذا كانت إسرائيل تريد البقاء كدولة مثل لبنان، كدولة صغيرة، بإمكاننا أن ندعمها"!
طبعاً، هنا يستغل كيسنجر كون الطرف العراقي لا يعلم ما جرى بالضبط مع مصر الساداتية بين العامين 1973، أي بعد حرب تشرين/أكتوبر، وأواخر 1975. فقبل ثلاثة أشهر ونصف الشهر من هذا اللقاء الذي نحن بصدده بين الوزيرين الأميركي والعراقي، كان كيسنجر قد توصل الى اتفاق فك إشتباك ثانٍ في سيناء بين الجانبين المصري والإسرائيلي، كان عملياً، وبكل المعايير، لصالح الجانب الإسرائيلي. وعلاوة على الإتفاق المعلن، كان كيسنجر قد بعث الى رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إسحق رابين، برسائل ضمانات أميركية سرية، تشير إحداها الى التزام الولايات المتحدة بعدم فتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية طالما هي لا تقبل بالقرارين 242 و338 لمجلس الأمن الدولي وبحق إسرائيل في الوجود (وقد أضيف في الثمانينيات شرط ثالث على هذين الشرطين، وهو إلتزام المنظمة الفلسطينية بـ"نبذ الإرهاب").
وتشير رسالة ضمانات سرية أخرى قُدمت للجانب الإسرائيلي الى التزام الولايات المتحدة بالتنسيق المسبق مع إسرائيل بشأن أي حل أو أية تسوية في الصراع العربي- الإسرائيلي. وليس واضحاً إذا ما كان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات الذي توصّل الى اتفاق فك الإشتباك في مطلع أيلول/سبتمبر 1975 كان على علم بكل رسائل الضمانات السرية لإسرائيل، ولكن وزير الخارجية المصري الأسبق محمد ابراهيم كامل الذي شغل هذا الموقع أقل من تسعة أشهر بين أواخر العام 1977 وأواسط أيلول/سبتمبر 1978 يروي في كتابه "السلام الضائع" ان مناحيم بيغن، رئيس حكومة إسرائيل أثناء مفاوضات كامب ديفيد، التي استقال قبل انتهائها وزير الخارجية المصري كامل، قد أبرز للجانب الأميركي رسالة الضمانات الأميركية المشار إليها بشأن التنسيق المسبق بين أميركا وإسرائيل في أي مشروع تسوية مع العرب، مما فاجأ الوزير كامل عندما أبلغه به وزير الخارجية الأميركي سايروس فانس، حيث كان السادات قد أوحى لوزيره بأن الجانب المصري ينسّق مع الجانب الأميركي للضغط على بيغن، الذي كان للرئيس الأميركي كارتر موقف سلبي منه.
وكان بيغن، آنذاك، يرفض أية صيغة لربط الإتفاق المصري – الإسرائيلي بشأن سيناء مع أي التزام بأي انسحاب على الجبهات الأخرى، وتحديداً مع أية تسوية للقضية الفلسطينية أو حتى أي مشروع للحكم الذاتي يمكن أن يقود الى ممارسة الفلسطينيين لحقهم في تقرير المصير أو لإخلاء إسرائيل لأي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وكان السادات يسعى منذ زيارته الشهيرة للكنيست الإسرائيلي في تشرين الثاني/نوفمبر 1977 لتوفير هذا الغطاء للإتفاق الثنائي مع إسرائيل ليتفادى العزلة العربية الكاملة. في حين كان مناحيم بيغن يسعى من جانبه الى إخراج مصر بمفردها من الصراع العربي – الإسرائيلي، للإستفراد اللاحق بالجبهات الأخرى، التي تكون بذلك قد أُضعفت. وهو ما حصل في نهاية المطاف.
فعن أية دولة صغيرة وودودة يتحدث كيسنجر لنظيره العراقي، وهو يعلم تماماً أنه وفّر لإسرائيل الأرضية اللازمة لتفكيك الجبهات العربية، ودفع مصر عملياً الى صفقة منفردة، أي للرضوخ لما ترتضيه إسرائيل كحد أقصى، عملاً برسالة الضمانات التي أعدها كيسنجر ووقّعها رئيسه آنذاك جيرالد فورد، وأرسلت الى إسحق رابين؟!
وبالطبع، فكل حديث كيسنجر عن التحول داخل الولايات المتحدة لغير صالح إسرائيل ولصالح العرب في حديثه مع الوزير العراقي كان تضليلاً في تضليل. فلا الموقف الرسمي الأميركي تغيّر، ولا الدعم المالي والتسليحي الأميركي لإسرائيل تقلّص طوال الأعوام الـ35 الماضية، ولا إسرائيل "تحجّمت" بفعل سياسات كيسنجر، والسياسات الأميركية اللاحقة المنبثقة عنها في منطقتنا، ولا نفوذ "اللوبي الإسرائيلي" وكتل التمويل المناصرة له تقلّص في الإنتخابات الأميركية، للرئاسة وللكونغرس على حد سواء. وقد شاهدنا في أواخر أيار/مايو من العام 2011 أعضاء الكونغرس الأميركي يصفقون لكل عبارة نطق بها رئيس حكومة إسرائيل الحالي بنيامين نيتينياهو أمامهم، ويهبّون واقفين لإظهار تأييدهم الشديد للضيف الإسرائيلي كلما صُوّبت كاميرات التلفزيون باتجاههم، حرصاً على رضا اللوبي المموّل لحملات إعادة انتخابهم.
وإذا كانت إسرائيل اليمين المتطرف قد سحبت قواتها ومستوطنيها من سيناء بعد توقيع المعاهدة المصرية – الإسرائيلية في آذار/مارس 1979 على مدى ثلاث سنوات، فقد تم تكبيل مصر في نصوص ومضامين المعاهدة بجملة من القيود على حجم قواتها في سيناء وحركتها، وعلى سياساتها الداخلية والخارجية، علاوة على فك ارتباطها مع الجبهات العربية الأخرى، مما ترك الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين تحت رحمة إسرائيل. وهو ما لم تتأخر حكومة إسرائيل في الإستفادة منه: فلم تكد في مطلع العام 1982 تنجز إنسحاباتها من سيناء، دون غزة طبعاً بالرغم من أنها كانت تحت الإدارة المصرية قبل حرب 1967، حتى قامت بحربها الواسعة على لبنان في حزيران/يونيو 1982، بهدف تشكيل حكم موالٍ لإسرائيل في لبنان (وهو ما تم إفشاله على الأرض) وبهدف القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وفق الأهداف المعلنة لهذه الحرب من قبل وزير "الدفاع" في حكومة مناحيم بيغن وصاحب مشروع الحرب والإستراتيجية الكبرى وراءها، أريئيل شارون الشهير، لا غيره.
وطوال اللقاء الأميركي – العراقي الذي نتناوله، والذي استمر زهاء الساعة من الوقت، واصل كيسنجر عملية التضليل هذه، بطريقته الخاصة طبعاً، وأحياناً مع بعض الملاحظات الساخرة. فرداً على سؤال لسعدون حمادي حول فحوى ما تريده إسرائيل، أجاب كيسنجر:
"هي، أولاً، تريد أن تتخلص مني، لأنني جعلتهم يتراجعون (!!). وثانياً، خلال العام 1976 (أي العام التالي على هذا اللقاء)، هم يريدون استفزاز العرب، في لبنان، في سوريا، لأنهم يعتقدون أنه إذا كانت هناك حرب، فهم يمكن أن يكسبوا ويخلقوا اضطراباً كبيراً. وثالثاً، هم يريدون أن يمرروا قوانين في أميركا لاستعداء أكبر عدد ممكن من العرب... هم يأملون أن العرب سيعودون الى حالة شبيهة بالفترة 1967- 1973، بحيث يتخذ السوريون والمصريون نهجاً معادياً للولايات المتحدة، حتى يستطيعوا القول بأنهم الصديق الوحيد لأميركا في الشرق الأوسط... بينما نحن نريد أصدقاء آخرين".

كيسنجر يراوغ في موضوع الحل الفلسطيني

ورداً على سؤال لأحد أعضاء الوفد العراقي حول إمكانية تحقيق حل بشأن الفلسطينيين، أجاب:
"ليس في 1976. عليّ أن أكون صريحاً تماماً معكم. أعتقد أن الهوية الفلسطينية ينبغي الإعتراف بها بشكل ما. ولكن نحن نحتاج الى التعاون من العرب في التفكير بالموضوع. سنحتاج الى عام أو عام ونصف العام لعمل ذلك، وستكون مواجهة هائلة. وهناك تطور فعلي يجري...".
ورداً على سؤال آخر حول ما إذا كان الموضوع الفلسطيني سيكون جزءً من الحل، أجاب:
"ينبغي ذلك. لا حل ممكنٌ بدون ذلك. الوضع الداخلي لدينا يتطور إيجاباً. هناك أسئلة متزايدة تطرح في الكونغرس لصالح الفلسطينيين".
وحول سؤال بشأن احتمال قيام دولة فلسطينية، أجاب:
"من حيث المبدأ، نحن لا نستبعد ذلك. ولكن لا يمكن تحقيق ذلك الآن".
طبعاً، هذا الكلام ليس صادقاً أيضاً. فكل الإدارات الأميركية التي جاءت بعد ذلك كانت تقف عملياً ضد قيام دولة فلسطينية مستقلة. ومعروف أن هذا كان موقف إدارة كارتر (1977-1981)، التي رعت إتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وتحدثت فقط عن "وطن" للفلسطينيين (طبعاً، موقف كارتر الشخصي تطوّر لاحقاً). وهذا كان موقف إدارة ريغن التي أعطت الضوء الأخضر للهجوم الإسرائيلي على لبنان ومنظمة التحرير عام 1982، ثم قدمت مشروع الحل المعروف باسم "مشروع ريغن" في أيلول/سبتمبر من العام ذاته وهو يربط الحل الفلسطيني بالأردن. وهذا كان موقف الإدارات الأميركية التالية، حتى لو بدأت في أوائل القرن الجديد تتحدث عن "دولة فلسطينية"، لكنها كانت تدعم، أو تتغاضى، عملياً عن كل الخطوات الإسرائيلية على الأرض لمنع قيام هذه الدولة.
ورداً على سؤال لحمادي بشأن اللاجئين الفلسطينيين، أجاب كيسنجر:
"يجب أن يكون لديهم الخيار، إما أن يبقوا حيث هم الآن، أو يعودوا الى الدولة الفلسطينية".
وهنا كان كيسنجر أكثر اقتراباً من موقفه الحقيقي، الذي يرفض "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين الى ديارهم الأصلية، وفق ما نص عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 للعام 1948.
ورداً على ملاحظة لأحد أعضاء الوفد العراقي الذي أشار الى أن "الإسرائيليين يعلمون بأنكم أنتم الأميركيين تقفون وراء فكرة دولة فلسطينية"، وهو، طبعاً، إفتراض غير صحيح، قال:
"علينا أن نكون حذرين ونتحرك بشكل متدرج. الصحافة الإسرائيلية تتهمني. أنا قلت بأننا لا نستطيع أن نتحرك تجاه الفلسطينيين الى أن يقبلوا بوجود دولة إسرائيل وقرار مجلس الأمن 242. لم أستبعد قط إمكانية الإعتراف بـ م.ت.ف. لقد ربطتها دائماً بالإعتراف بإسرائيل وبـ242. ضمنياً، نحن علينا أن نقوم بشيء إذا اعترفوا بإسرائيل و242".
وهو، هنا، يصرح بأحد التعهدات التي قدمها لرئيس الحكومة الإسرائيلية بهذا الشأن، وهو التعهد الذي أشرنا إليها أعلاه. ولكنه لا يوضح ما هو "الشيء" الذي يمكن إعطاؤه للفلسطينيين مقابل هذه التنازلات المطلوبة منهم، إلا إذا كان ما حدث بعد أواخر العام 1988، حين قبلت قيادة م.ت.ف. بالشروط الأميركية، يوضح هذا "الشيء"، ومحدوديته...

المسألة الكردية في شمال العراق، والتحولات الأميركية بشأنها

طبعاً، لم يقتصر اللقاء على الموضوع الفلسطيني والإسرائيلي، وهو تناول أيضاً القضايا المتعلقة بالعراق، وخاصة القضية الكردية في شمال العراق. ومعروف أن العام 1975 هو العام الذي تم فيه التوقيع على اتفاقٍ في العاصمة الجزائرية بين شاه إيران، الذي كان يقدم قبل ذلك الدعم للحركة القومية الكردية في شمال العراق، بتشجيع أميركي، ونائب الرئيس العراقي، آنذاك، صدام حسين، والذي بموجبه أوقف الإيرانيون، والأميركيون، دعمهم للحركة الكردية مقابل تنازلات عراقية لإيران بشأن شط العرب، وهو الإتفاق الذي سعى الحكام العراقيون للتحلل منه بعد الثورة الإيرانية في العام 1979 التي أطاحت بالشاه، وهو أحد أهداف الحرب التي خيضت مع إيران منذ أيلول/سبتمبر 1980.
وفي اللقاء العراقي- الأميركي الذي نتحدث عنه، طرح سعدون حمادي السؤال على هنري كيسنجر بشأن تسليح الأكراد في شمال العراق من قبل الولايات المتحدة، فردّ كيسنجر:
"عندما كنا نظن أنكم في فلك الإتحاد السوفييتي، لم نكن نعترض على ما كانت تقوم به إيران في المنطقة الكردية. والآن بعد أن حللتم المشكلة مع إيران، ليس هناك سبب للقيام بأي عمل من هذا النوع. أستطيع أن أقول لكم أننا لن ندخل في أي نشاط ضد الوحدة الترابية للعراق". وقد أعاد الوزير العراقي طرح الموضوع ثانيةً على كيسنجر في نهاية اللقاء، فكرر الوزير الأميركي رأيه بعدم جدوى الحديث عن الماضي، بعد أن تغيّر الوضع.
طبعاً، الموقف الأميركي من القضية الكردية في شمال العراق كان مرتبطاً في تلك الحقبة بكون البلدين الجارين اللذين لديهما تجمعان كرديان كبيران، وهما تركيا وإيران، كانا مرتبطين بالولايات المتحدة، ولم يكن من مصلحة الإدارة الأميركية، آنذاك، تشجيع أية تطلعات قومية إستقلالية كردية في أي بلد، بما يؤثر على البلدان المجاورة، وخاصة هذين البلدين الحليفين. طبعاً، المعطيات تغيرت في السنوات اللاحقة، خاصةً عندما أطاحت الثورة الإيرانية بالشاه محمد رضا بهلوي وأتخذت مواقف مختلفة تجاه الولايات المتحدة. ومن المبكر الحديث عن تغير أميركي بشأن تركيا وقضية الأكراد فيها بعد أن انتهجت حكومة حزب العدالة والتنمية، التي وصلت الى السلطة هناك في العام 2002، مواقف مختلفة عن الحكومات السابقة تجاه إسرائيل بشكل خاص. ولكن هذه الحكومة، وإن أظهرت بعض الإستقلالية تجاه الولايات المتحدة في بداية اجتياح العراق في العام 2003، إلا انها لا زالت عضواً، وعضواً هاماً، في حلف شمال الأطلسي، حتى وإن كان الخصم التاريخي للولايات المتحدة، الإتحاد السوفييتي، لم يعد موجوداً ليتم التعامل مع تركيا كأحد السدود الهامة في وجه تمدده جنوباً.