بقين حمضانين وأربع خرافات


أمير خليل علي
2011 / 9 / 11 - 15:16     

الأوضاع المنيلة بستين نيلة اللي إحنا عايشنها اليومين دول خلت الواحد .. مش بس يخرج من هدومه .. لكن كمان يخرج من لسانه .. ويكتب بالعامية الشعبية .. بدل ما يكتب بالفصحى المعقدة

لو إن الكاتب بيكتب علشان الناس تقراه .. يبقى ليه يكتب بالفصحى أساسا؟؟
هو أنا بأكتب عشان مدرس النحو يديني درجة كويسة .. ولا بأكتب عشان الناس تقرا اللي بأكتبه؟

الظاهر إن إحنا بقينا عايشين بروحين:

- روح بنتكلم بيها مع بعض
- وروح بتكتب بيها لبعض

كمان الحكومات بس بقت هي دلوقتي اللي بتتكلم بالفصحى .. لأن الكدب بالفصحى أسهل بكتير

إنت بس أبدأ أي جملة بـ : "إن المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد" .. وح تلاقي بقية الكلام بيجيب بعضه لوحده من غير ما تحس بتأنيب الضمير على أنك بتكدب.

لكن اللي بيكتب بالعامية .. بيكون زهق وفاض بيه .. وبقا عاوز يردح ويشتم ويفرش الملاية ويفضفض اللي في قلبه بصراحة من غير تزيين ولا تزييف

عشان كده خلينا نحاول نفهم الأحداث الأخيرة .. اللي حصلت في مظاهرات جمعة تصحيح المسار في مصر يوم 9 سبتمبر.

أول حاجة:

متهيألي فيه حاجة غلط جدا جدا لما نلاقي حكومة - بنسميها تجاوزا حكومة - إنتقالية جت بفعل ثورة شعبية .. إنها تعمل محاكم للمتظاهرين اللي جابوها للسلطة .. لأن المفروض إن دي حكومة ثورة .. مش حكومة ثورة مضادة.

بينما عمرنا ما سمعنا إن نفس الحكومة دي عملت محاكمات مثلا للمتظاهرين التانيين اللي بيصرحوا علنا إنهم ضد الثورة .. وإنهم مع الرئيس المخلوع .. واللي اقتحموا مبنى المحكمة ووقفوا الجلسة بهتافاتهم ورمي الجزم بتاعتهم.

هل حد منهم من اللي اقتحموا المحكمة المصرية بالشكل ده وعمل فيها فوضى .. اتحاكم؟؟

طبعا لأ .. ما حصلش؟

يبقى أكيد فيه حاجة غلط لما نلاقي الحكومة اللي رئيس وزرائها بيقول عن نفسه إنه جاي من ميدان التحرير بيحول جزء من ثوار التحرير دول لمحاكم أمن دولة طورائ .. وكمان يوصف الثوار دول بإنهم "مش شرفاء" .. بينما ما عملش أي تصرف زي ده مع الثوار اللي بيعلنوا إنهم ضد الثورة.

وهنا الواحد لازم يسأل نفسه:

إيه الفرق بين الموقف ده من حكومة الثورة دي
وبين موقف تاني ح نفترض فيه إن مبارك لسه في الحكم قبل الثورة وإنه أصدر بيان حوالين نفس الأحداث؟؟

بالذمة مش موقف مبارك كان برضه ح يكون تحويل المتظاهرين لمحاكم أمن دولة طوارئ .. وإنه كان ح يقول عليهم إنهم "مش شرفاء"؟؟

يبقى فين الفرق بين حكومة شرف وبين حكومة مبارك؟

البقين الحمضانين:

طبعا ح يطلع واحد فلوطة .. يقول لك البوقين الحمضانين إياهم:

"اللي حصل ده فوضى مش مظاهرات سلمية .. ولازم الحكومة تضرب بيد من حديد .. عشان ترجع هيبة الدولة"

وبصراحة من المؤسف جدا إن يكون لسه عندنا ناس بتصدق الكلام الحمضان ده ..
والغريبة إنك تلاقي إن الناس دي هي أكتر ناس بتطلع في التلفزيون دلوقتي
والأغرب إنك تلاقي قدام أسامي الناس دي كلمة كبيرة زي: دكتور .. خبير قانوني .. أستاذ قانون دولي
فتقعد قدام التلفزيون فاتح بقك شبرين وبتضرب كف على كف .. لأنك مش مصدق إزاي ناس شكلها محترم كده .. يقولوا كلام مش محترم بالشكل ده

تلاقي نفسك بتقرب من شاشة التلفزيون عشان تشوف اللقب قدام اسم الراجل كويس: هل اللقب دكتور .. ولا تور بس؟

لكن خلينا نفترض حسن النية في الجامعة اللي ادت الدكتور ده اللقب بتاعه وتعالى نناقش البقين الحمضانين بتوعه .. بهدوء ومن غير عصبية:

فهل فعلا ..

"اللي حصل ده فوضى مش مظاهرات سلمية .. ولازم الدولة تضرب بيد من حديد .. عشان ترجع هيبة الدولة"

عندنا في البقين الحمضانين دول أربعة خرافات أو أربع مصطلحات كبيرة هي:

1. فوضى
2. مظاهرات سلمية
3. دولة بتضرب بإيد من حديد
4. ترجع هيبة الدولة

بالراحة كده .. ناخدهم مصطلح مصطلح ونحاول نشوف فين الصح وفين الغلط:

إيه هيا الفوضي؟

يعني مثلا لما تدخل الحمام وتفتح حنفية الحوض علشان تغسل وشك .. تلاقي طاسة الدش هي اللي نزلت كل الميه وغرقت ظهرك .. بينما حنفية الحوض ما نزلتش حاجة

دي هي الفوضى بالبلدي

إذن التعريف العلمي، إن الفوضى هي إنعدام المنطق المتوقع بين السبب والنتيجة.

يعني أعمل حاجة وأتوقع نتيجة ليها .. لكن ألاقي نتيجة تانية خالص غير اللي اتوقعتها.

ده هو تعريف الفوضى.

إذن
هل اللي حصل في مصر ده فوضى؟
هل تصرفات المتظاهرين يوم 9 عند سفارة إسرائيل هي فوضى ؟

نحاول ندرس السبب ونشوف هل النتيجة اللي وصلت لها الأحداث هي فعلا فوضى وهي لا نتيجة منطقية وسليمة ومتوقعة.

السبب الأولاني:

لما إسرائيل تقتل جنود مصريين داخل حدود مصر ويمر عليها شهر وترفض الاعتذار ويادوب قدمت أسف وكأن المسألة إن واحد داس على رجل واحد في أوتوبيس زحمة.

ولما كل اللي الحكومة المصرية عملته هو مكافآة سفارة الكيان الإسرائيلي بإقامة جدار عازل طويل بهدف حماية سفارة إسرائيل من المتظاهرين المصريين.

و الأغرب إن الجدار اتبنى في لمح البصر .. بينما كل المواضيع التانية المهمة جدا للبلد بتتأجل وبتحصل فيها مماطلات. يعني بناء الجدار ده كان بكل المقاييس أسرع شيء حصل في مصر من زمان قوي.

السبب التاني:

طلع الأستاذ أردوغان وطينها زيادة .. لما طرد السفير الإسرائيلي من تركيا .. قال عشان إسرائيل رفضت تعتذر عن قتلها لأتراك في هجومها على سفينتهم اللي حاولت تخترق حصار غزة.

والغريبة إن الفرق بين حالة مصر وتركيا كبير جدا .. فمثلا .. علاقات تركيا بإسرائيل أقوى بكتير من علاقات مصر معاها .. وكمان الأتراك اللي اتقتلوا كانوا بره تركيا وكانوا بيتحدوا إسرائيل جوا مياهها الأقليمية.

بينما في حالة مصر .. اللي اتقتلوا كانوا جنود داخل حدود مصر .. ومش ناس راكبين سفينة ورايحين يتحدوا اسرائيل في عقر دارها.

يعني هنا الفرق شاسع بين مصر وبين تركيا في التعامل مع إسرائيل.

إذن السؤال هو:

هل السببين اللي فاتوا دول ماكانوش يؤدوا للنتيجة بتاعت إن المتظاهرين يكسروا الجدار؟

بصراحة .. كان ممكن المتظاهرين يسكتوا وما يعملوش مظاهرات ولا يكسروا الجدار .. لكن بشرط: إنهم ما يكونش عندهم لا دم ولا كرامة.
كان ممكن المتظاهرين المصريين يخرسوا وما يخرجوش أصلا من بيوتهم لو كانوا قبل 25 يناير.

لكن لأن المصريين بعد 25 يناير بقوا - فاكرين إن - عندهم دم وعندهم كرامة أكتر من الأول .. وبقوال فاكرين إن من حقهم يعبروا عن رأيهم أكتر من الأول .. ف عشان كده أتظاهروا قدام السفارة وكسروا الجدار وطالبوا بطرد السفير الإسرائيلي.

إذن
أغلب تصرفات المتظاهرين عند سفارة إسرائيل ماكانتش فوضى .. لكنها كانت نتيجة منطقية جدا ومكتوقعة جدا لشعب في ثورة وبيعبر عن رأيه .. وبيدور على كرامته اللي حس إن حكومته بتضيعها بتصرفاتها العجيبة اللي مش بتعبر عن رأي الشعب ولا بتتم بموافقته في مسألة التعامل مع إسرائيل.

إذن
لو عاوز تحاكم حد ع الفوضى .. ما تحاكمش الثوار .. حاكم اللي بنى الجدار


السبب الحقيقي للفوضى:

وهنا نروح للسبب الحقيقي للفوضى، وهو: تقاعس الحكومة المصرية عن اتخاذ إجراء يحفظ كرامة مصر يكون على مستوى القرار التركي ..

بل والأدهى كمان .. مش بس التقاعس .. لكن المبالغة في إظهار الحماية للكيان الإسرائيلي ببناء الجدار .. بما يدلل على أن المسألة مش بس مجرد تقاعس عن المطالبة بكرامة مصر وحق دم جنود مصر .. لكن أيضا قبول لوضع تكون فيه مصر أقل ندية من إسرائيل في مسألة اختراق الحدود وقتل الجنود.

إذن مصدر الفوضى ليس هو تصرفات المتظاهرين ..
بل مصدر الفوضى هو تصرفات الحكومة التي لا تعبر عن المصريين بحيث تضطر المصريين لأخذ حقهم بإيدهم.

ولما الحكومة تكون عاجزة إنها تجيب حق الناس لدرجة إنها تضطرهم ينزلوا الشارع ياخدوا حقهم بإيدهم .. يبقى مش من حق الحكومة ساعتها إنها تقول الناس:

معلش يا جماعة .. بس والنبي وانتوا بتتظاهروا في الشارع بلاش تكسروا السبب اللي أصلا خلاكوا تعملوا المظاهرة.

وده يودينا للسؤال: هو إيه اللي حصل فعلا في المظاهرات؟ وهل كان فوضى ولا كان في حدود التظاهر؟؟

واضح جدا إنه فيه عملية تهويل ومبالغات كتير جدا حوالين إيه اللي عملوه المتظاهرين قدام السفارة الإسرائيلية.

إذا كان أصلا واحد من المسئولين الإسرائيليين صرح بأن المتظاهرين لم يقتحموا السفارة أساسا .. يبقى ليه الإعلام المصري بيحلف ميت يمين إن المتظاهرين اقتحموا السفارة.

إذن إحنا قدام عملية تهويل ومبالغة كبيرة لتصرفات المتظاهرين من الإعلام المصري .. بل وهي مسألة ينفيها الإسرائيليون نفسهم عن الأحداث .. وكأن الإعلام المصري ياعيني صعبان عليه اللي حصل لسفارة إسرائيل أكتر من الإسرائيليين نفسهم.

من المؤكد إن السفارة الإسرائيلية يوم الجمعة بالليل ماكانش فيها أي حد لأن دي عطلة الأسبوع بتاعتهم أساسا لغاية يوم السبت. يعني السفارة المفروض إنها فاضي تماما .. يبقى منين اتصور الموضوع وكأن المتظاهرين كانوا مثلا ح يخطفوا السفير ويعملوا فيه زي إيران ما عملت في رهائن سفارة أمريكا بعد ثورة الخميني؟


هل كانت المظاهرات سلمية؟

من هنا نروح للمصطلح التاني:

- مظاهرات سلمية

هل اللي حصل هو مظاهرات سلمية ولا مش سلمية؟

متهيألي إحنا فهمنا إن الفوضى هي في تصرفات الحكومة ومش في تصرفات المتظاهرين

يعني التظاهر قدام السفارة الإسرائيلية مش فوضى بل حق للمتظاهرين .. لأنه ليس من حق الحكومة المصرية أنها تتنازل عن الحق الشرعي في القصاص نتيجة مقتل الجنود المصريين على أرض مصر.

يفضل قدامنا تحليل هل المظاهرات كانت سلمية ولا ماكانتش سلمية؟؟

والإجابة السريعة وبصراحة: لأ ..

للأسف .. المظاهرات بدأت سلمية لكنها تحولت إلى كسر الجدار .. ثم حرق عربيات أمن مركزي .. ثم الهجوم على مباني وزارة الداخلية.

إذن فمن الناحية القانونية البحتة:

المظاهرات لم تكن سلمية .. لأن حصل فيها تكسير وحرق وكلام من ده

تنطع رجال القانون:

لكن القانون مش كل حاجة .. في أوقات الثورات .. يعني أساساً ثورة 25 يناير ما كانتش قانونية .. وقيام المتظاهرين بتدمير عربيات الأمن المركزي والتسبب في إنهيار مجمل منظومة وزارة الداخلية طوال أيام الثورة ما كانش قانوني ولا كان سلمي.

ببساطة لأن اللي مصر بتعيشه دلوقتي أسمه فترات استثنائية وفترات ثورة .. ودي اسمها في علم القانون الفرنساوي "فورس ماجير" Force Majeure .. يعني "القوة القاهرة".

يعني أوقات الظروف الاستثنائية الخارجة عن السيطرة .. ودي بند أساسي موجود في كل العقود والاتفاقيات في العالم.

وفي الأوقات دي ما يكونش من حق أي طرف سواء إسرائيل أو غيرها إنها تحتج لدى الحكومة المصرية عشان جماهير الثوار قطعوا خط الغاز ولا اقتحموا سفارة.

لأن الجماهير الثائرة بتكون أساسا خارج نطاق السيطرة ومش في أوضاع اعتيادية ..

وهنا بتكون الأمور زي لما زلزال بتاع ربنا يحصل ويدمر السفارة الإسرائيلية .. فهل من حق إسرائيل إنها تحتج لدى الحكومة المصرية وتقولها: إزاي تسمحي للزلزال يدمر السفارة.

لكن الغريبة إني عمري ما سمعت أي حد من رجال القانون - قال إيه الدولي - اللي بيطلعوا في التلفزيون المصري واللي قدام أساميهم - ربنا يحرسهم – كلمة دكتور بيتكلم عن مسألة "القوة القاهرة" أو الفورس ماجير دي

وكأنهم واخدين الدكتوراة بتاعتهم في حاجة غير الفورس ماجير.

والفورس ماجير (أو القوة القاهرة) هي ببساطة ظروف الإضرابات والثورات والاعتصامات وأعمال التخريب والزلازل والبراكين والفيضانات، التي لا يمكن السيطرة عليها كما في الأحوال العادية.

الغريبة إن يطلع لك راجل محترم جدا وقدام أسمه لقبين ثلاثة في القانون الدولي وقد بلغ من العمر أرذله وأول ما يتكلم يقولك: أه طبعا من حق إسرائيل إنها تحتج وتطالب بتعويض.

وطبعا كل الكلام ده بيدل على إن الدكتوراة بتاعت الراجل ده ماكانتش في القانون أساسا.

لأنه مش من حق الطرف المتضرر أنه يطالب بأي تعويضات ولا يعمل أي احتجاجات أثناء الفورس ما جير (أو القوة القاهرة).

يعني ليس من حق إسرائيل إنها تطالب مصر بأي تعويضات ولا تعمل أي احتجاجات، طالما مصر في حالة ثورة وفي حالة إضرابات.

ده بند أساسي في القانون الدولي واللي مش دولي.

واللي يقول غير كده .. يبقى للأسف مش بيفهم في القانون .. وما يستحقش أصلا يحكم في ماتش كورة شراب في الشارع.

ولو رجعنا لمقارنة حالة مصر وإسرائيل ح نلاقي:

إن طائرات إسرائيل قتلت جنود مصريين .. وده مش اسمه أبداً "ظرف قوة قاهرة" (فورس ماجير) .. لأن اللي عمل كده طائرات جيش مش طائرات مخطوفة ولا مسروقة .. وكمان الجريمة تمت خارج الأراضي الإسرائيلية .. يعني فيها الطرف اللي عمل الضرر تجاوز مجاله الجوي ودخل جوا مجال مصر وقتل جنود مصريين .. يعني حصلت 2 تجاوزين .. واللي عملهتهم غرفة عمليات عسكرية فاهمة هي بتعمل إيه بالظبط.

أما في حالة مصر:

ف اللي عملوا المشاكل في سفارة إسرائيل مش أطراف تابعين للحكومة أساسا .. بل أطراف ثوار تطالب بإقالة الحكومة. وكمان الحالة الأمنية في مصر تعاني من إنهيار لوزارة الداخلية .. بمعنى أنه لا يوجد ما يكفي لتأمين سفارة إسرائيل .. وكل الأمور دي بتخلي وضع مصر وبشهادة العالم أجمع هو في حالة "ظروف استثنائية قاهرة" .. بما يعني أنه من الخطأ الاحتجاج على ما يحدث فيها أو المطالبة بأي تعويضات عن الأحداث أو الأضرار.

إذن
صحيح أن المظاهرات قلبت غير سلمية .. إلا أن ده لا يؤثر بالمرة على "صورة مصر" ولا "وضع مصر" ولا أي كلام من الخرافات دي خالص ..

وأظن إنه بعد كده لما يطلع راجل قانون في التلفزيون يكلمنا عن "صورة مصر" عن إن إسرائيل ح تطالب بتعويضات من مصر .. يبقى المفروض نقوله: كفاية تنطع! روح خد لك درس محو أمية قانونية واركن شهادة الدكتوراة بتاعتك دي على جنب.

هيبة الدولة:

نخش بقا في الموضوع الحساس بتاع هيبة الدولة.

ظريف جدا إننا نسمع واحد مثقف ولا دكتور قانون يطلع في التلفزيون يقولنا كلام كبير زي: إن الدولة هي من يحتكر ممارسة العنف في المجتمع.

ومحل الظرف هنا إن ده دليل على إن المثقف ولا رجل القانون ده قرا كلمتين كتبهم ماكس فيبر من حوالي ميت سنة تقريبا.

لكن اللي مش ظريف إن أغلب اللي بيقولوا الكلمتين دول مش فاهمين إيه معناهم في الدولة الحديثة. لكن بيتكلموا وخلاص زي ما تقول نص الآية وتخبي نصها التاني، فتقول: "يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة" .. وتسكت وما تقولش بقية الآية: "وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"

لأن الهدف هنا مش إنك لا تقرب الصلاة .. ولا إنك تدي الدولة احتكار العنف .. لكن الهدف هو إن الدولة تستخدم احتكارها للعنف في المسار الشرعي .. مش في أي مسار.

لأن حقيقة مقولة ماكس فيبر هي إن: الدولة هي من يحتكر ممارسة العنف ("الشرعي") في المجتمع.
بينما أغلب اللي بيستشهدوا بالمقولة دي بينسوا كلمة "الشرعي" .. ويتكلموا وخلاص.

لكن المعنى الحقيقي لمقولة ماكس فيبر دي هي: هو إن العنف اللي تحتكره الدولة هو العنف الشرعي .. وكلنا عارفين إن العنف اللي كان بيحتكره نظام مبارك ما كانش عنف "شرعي" .. بل كان عنف "غير شرعي" موجه لإفساد الدولة نفسها وإرهاب الشعب .. ومثل هذا العنف هو الذي مارسه القذافي والذي يمارسه حاليا نظام الأسد في سوريا.

ومجمل أفكار ماكس فيبر (صاحب المقولة دي) قايمة على مسألة الشرعية .. ومش قايمة على مسألة الاحتكار.
يعني عند ماكس فيبر الشرعية أهم بكتير من الاحتكار

يعني احتكار العنف .. ليس سبب كافي ليكون هذا العنف شرعي.
لكن قصد ماكس فيبر هو إن الشرعية هي اللي بتخلي العنف ده محتكر من الدولة وليس العكس.

وده معناه إنه إذا سقطت شرعية النظام .. تسقط معه فورا شرعية احتكاره للعنف.

دي مسألة أساسية في مجمل التراث السياسي الحديث.

لكن طبعا واضح إن المسائل عندنا في منطقة العربية .. بتمشي بقفاها .. يعني بالعكس.

لأن جدنا ابن خلدون قال العكس .. لما قال إن احتكار قوة العنف (وبلغة زمان سماها ابن خلدون العصبية والشوكة) هي اللي بتسبب الشرعية.

يعني من الأخر اللي يغلب ويملك قوة العنف هو اللي يحكم .. ودي على فكرة هي نفس أفكار الأخوة الماركسيين .. واللي أغلبهم ما يعرفش إن أغلب أفكار ماركس وإنجلز هي مجرد إعادة صياغة لأفكار ابن خلدون.

لكن ابن خلدون كان بيتكلم عن دولة بنسميها الدولة "المستبدة الوسيطية" يعني الدولة بتاعت القرون الوسطى .. ودي كانت مرحلة متخلفة من الدول حصلت قبل الدولة "الحديثة" والمعاصرة.

ففي الدول الوسيطية دي .. كانت القبائل الأقوى هي التي تحتكر حق استخدام العنف .. وكانت تنظم عصبياتها لتستعبد وتسبي القبائل الأضعف.

أما في الدولة الحديثة والمعاصرة فقد اختلفت المسألة حبتين .. حيث انتهى عهد استعباد القبيلة الأقوى للقبيلة الأضعف.

وبذلك لم تعد قوة العنف هي مصدر الشرعية .. بل تعددت مصادر الشرعية .. فقد أصبحت هناك شرعيات جديدة لا تقوم على العنف .. مثل شرعية الدين .. وشرعية العقل .. وشرعية الحداثة.

وفي الشرعيات الجديدة دي .. ما كانتش قوة العنف هي الأساس .. لكن ظهرت شرعيات جديدة هدفها تطوير المجتمع .. مش مجرد حكمه بحيث تستمتع طبقة أو قبيلة واحدة وتستعبد بقية الطبقات والقبائل الأضعف منها.

عشان كده أصبحت الدولة الحديثة والمعاصرة تستمد أهم مصادر شرعيتها ليس من قوة العنف والجيش والسلاح اللي معاها بس .. لكن أصبح المصدر الأساسي للشرعية دلوقتي هو البرنامج السياسي اللي بيحقق طموحات الشعب.

يعني باللغة الفصحى حصل ازاحة للشرعية من قوة العنف في يد الحاكم المستبد .. إلى قوة الحكم الرشيد واللي بقت في أيد الشعب.

وعشان كده بقت الأنظمة اللي قايمة بس على قوة العنف دلوقتي بتنهار وبتخرج من التاريخ وتروح مزبلة التاريخ .. زي تونس بن علي ومصر مبارك وليبيا القذافي وسوريا الأسد.

وطول ما نظام الحكم ح يعتمد بس على قوة العنف في أيد سلطات الحكم .. فإنه مؤكد راح يفقد بقية مصادر الشرعية اللي في إيد الشعب.

وده يطلعنا على آخر مصطلح وهو:

الدولة اللي بتضرب بأيد من حديد:

لأن لو كان كل اللي تقدر عليه الدولة هو إنها تضرب بإيد من حديد .. فهي إذن بالضرورة مجرد دولة استبدادية ولابد من إسقاطها والثورة عليها .. لأنها دولة متخلفة ولا تصلح إلا لمزابل التاريخ.

واللي فاكر إن هيبة الدولة ح ترجع عشان الدولة معاها جهاز شرطة قاسي ولا جيش بدبابات يبقى لسه عايش في أيام ابن خلدون .. والمفروض ندخله المتحف ونقفل عليه.

لأن الدولة مش هيبة .. يمكن الكلام ده ينفع العمدة في العمودية أو ينفع الصيع في خناقات الشوارع ..

لكن الدولة الحديثة ما بقتش هيبة .. الدولة بقت بتعتمد على حاجة جديدة .. أسمها الشرعية مش الهيبة والشيبة.

الدولة التي نريدها ويريدها العرب الآن هي الدولة صاحبة مصادر الشرعية غير المستندة ليد الحديد ولا للعنف.

الدولة اللي بقا من حقنا نطالب بيها مش هي الدولة أم أيد الحديد .. والشرعية الخشبية أو الحجرية أو الحديدية.

الدولة اللي إحنا عاوزينها مش دولة لها أنياب .. زي بابا سادات ما كان بيقول.

الدولة اللي إحنا عايزنها هي دولة بتستمد شرعيتها مش من العنف والحديد والنار .. لكن بتستمد شرعيتها من حفاظها على كرامة شعبها .. وعدالة حكمها .. ومشروعها الحضاري التنموي اللي ح تقدمه للناس.

إحنا محتاجين دولة تحافظ على كرامة شعبها .. مش تصر على حماية عدو شعبها الأساسي في الخارج (وهي إسرائيل) .. حتى ولو اتقتل جنودها واتحاكم شعبها لمجرد الحفاظ على بروتوكولات دبلوماسية لا قيمة لها ولا تقدم ولا تؤخر .. فما قيمة أي معاهدة مع إسرائيل إن كانت في النهاية تؤدي إلى استباحة دم الجنود وتصدير الغاز بأسعار متدنية

إحنا محتاجين دولة فيها عدالة الحكم .. مش دولة تكيل بميكالين .. فتحيل الثوار اللي جابوها للسلطة إلى محاكم عسكرية وأمن دولة طوارئ بينما لا تحيل أي من أعداء الشعب في الداخل إلى أي محاكم (زي ما بيحصل مع فلول النظام) .. أو تحيلهم إلى مسرحيات كوميدية متلفزة أسمها محاكمات مدنية (زي ما بيحصل مع مبارك وأعوانه).

إحنا محتاجين دولة ليها مشروع حضاري وحداثي .. مش كل مشروعها هو إنها تحكم بإيد من حديد من غير ما تقدم أي حاجة للشعب غير بيانات تهديدية بالمحاكمات العسكرية ومحاكم أمن الدولة.

معلش إحنا عاوزين دولة "شرعية" أحسن من كده بكتير .. لأننا نستاهل دولة "شرعية" أحسن من كده بكتير.