الحداثة وما بعد الحداثة


هشام غصيب
2013 / 2 / 26 - 09:11     

كيف تنظر النخبة الثقافية الغربية المسيطرة اليوم إلى تراثها وتاريخها وجذورها الثقافية؟

إنها تدرك جيداً أنها نتاج مشروع ثقافي عالمي جديد وثوري، مشروع الحداثة. وتدرك أيضا أن محور مشروع الحداثة عو عقيدة التنوير، وهي عقيدة جديدة من نوع جديد يختلف عن العقائد الدينية التقليدية. لكنها تعتقد أيضا أن هناك نوعا من الاتصالية بين الحداثة والثقافة الأوروبية التقليدية ما قبل الحداثة، برغم ثورية الحداثة. فهي تعتقد أن هناك جملة من الأسس المشتركة بين الثقافة التقليدية (الإغريقية والرومانية والمسيحية) وبين الحداثة. هناك مبادىء عامة بصدد الإنسان والطبيعة كانت موجودة بصورة جلية لدى الإغريق وأوروبا المسيحية في العصور الوسطى. ولم تتخل عنها الحداثة، وإنما أكتسبتها موقعا أكثر محورية، بعد أن علمنتها وعقلنتها بصورة جديدة. لذلك تعتقد هذه النخبة أن الحداثة، برغم ثوريتها، هي نوع من الامتداد والاستمرار والتطور للفكر الأوروبي التقليدي، وأن خصوصيتها الأوروبية تنبع من خصوصية التراث الأوروبي التقليدي، خصوصية الحضارة الإغريقية وخصوصية التراث المسيحي الغربي. وعليه، فإن هذه النخبة تنزع إلى نفي الكونية والشمولية الإنسانية عن الحداثة، وإلى اعتبارها تعبيرا عن الخصوصية الأوروبية، لا إلى اعتبارها طور جديدا للحضارة البشرية برمتها. وتنبع خطورة هذا الاعتقاد بالطبع من كونه يبرر دعم الأنظمة السياسية الاستبدادية غير الغربية، التي تنتهك حقوق الإنسان، وتمنع ممارسة الحريات الديموقراطية، وتقمع القوى التنموية الإنتاجية، وتقيد حرية الفكر، بحجة خصوصيتها الثقافية. إذ ينبغي ألا ننسى أن الحداثة تشكل الأساس الثقافي للديموقراطية، وحقوق الفرد، والمجتمع المدني، وفكرة التقدم التاريخي، وفكرة تنمية قوى الإنتاج وإقامة مجتمع الرفاه، وفكرة المساواة الطبيعية بين الأفراد. من ثم، فإن قصر الحداثة على الغرب وتراثه معناه قصر هذه الأفكار والحقوق النبيلة عليه أيضا، وكأن المسيحيين الشرقيين والمسلمين والهندوس والبوذيين والطاويين والأفارقة يقعون، بحكم خصوصياتهم المزعومة، خارج دائرة الحرية والديموقراطية والتقدم والرفاه والتنمية، وكأن هذه الأفكار والنظم النبيلة بمثابة وبال على الشعوب غير الغربية لأنها تناقض خصوصياتهم الثقافية في الجوهر. وفي مقابل هذا الاعتقاد العنصري الخطير، فإننا نؤكد على فكرة أن كل كيان عظيم أنتجته حضارة عظيمة عظيم بفضل كونيته وشموله الإنساني، لا بفضل خصوصيته. وينطبق ذلك على الحضارات العظيمة جميعاً، سواء كنا نتحدث عن مبتكري فن الكتابة وفن العمارة وفن الملاحة في الحضارات القديمة في مصر والهلال الخصيب، أو عن الفلسفة الإغريقية، عن سقراط وأفلاطون وأرسطو، أو عن المسيح ورسله، أو عن الرسول العربي وخلفائه، أو عن فلاسفة العرب وعلمائهم، عن الحسن بن الهيثم والبيروني وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، أو عن ليوناردو دافنشي وغاليليو وبيتهوفن وهيغل وماركس وآينشتاين وداروين في الحضارة الغربية الحديثة. كل أولئك أضحوا ملك البشرية برمتها لأنهم أفلحوا في الخروج من قمقم خصوصياتهم المحلية، وفي تقديم ما يتخطى حدود مكانهم وزمانهم، وما ينفع الناس أنى كانوا. فالكلام عن الخصوصية يخفي وراءه عصبية ضيقة، قبلية أنانية احتكارية، يسعى أصحابها إلى احتكار منجزات معينة وحرمان الآخرين من الحصول عليها والاستفادة منها. إنها عنصرية مقنعة.

كذلك، فإن النخبة الثقافية الغربية المسيطرة تنزع إلى اعتبار الثقافة والفكر نظاماً روحياً مغلقاً ومعزولاً عن أرضيته. بل إنها تنزع إلى اعتبار هذه الأرضية مجرد امتداد وتجسيد للنظام الفكري الثقافي. وعليه، فإنها تنزع إلى اعتبار الحداثة تطوراً حتميا أو شبه حتمي للثقافة التقليدية الأوروبية (الإغريقية – الرومانية – المسيحية). فكأن تناقضات الثقافة التقليدية الأوروبية قادت بجدل محكم هيغلي الطابع إلى الحداثة، وكأن الثقافة عضوية تامة تنمو بفعل تناقضاتها الداخلية حتى لحظة موتها وانحلالها. إنها عودة واضحة إلى شبنغلر وفكرة العقل الأوروبي، تلك الفكرة الاستشراقية التي عاثت في الأرض الفساد، أوروبيا وعالميا (على الصعيد العربي نراها تؤدي دوراً محوريا لدى محمد عابد الجابري). إن النخبة الثقافية الغربية المسيطرة تتحدث عن الحداثة وبروزها من قلب المسيحية الغربية من دون أي إشارة إلى أثر الحضارات الأخرى (مثلاُ العربية الإسلامية) وإلى التطورات الاقتصادية الكبرى التي صاحبت بروزها. وبصورة خاصة، تخلو كتاباتها من الإشارة إلى بروز نمط إنتاج جديد في أوروبا الغربية في مطلع الحقبة الحديثة، هو نمط الإنتاج الرأسمالي. فهي تحاول أن تفهم ظاهرة الحداثة وتنقدها بمعزل عن الرأسمالية وتطورها. وإذا صدف وجاء بعض كتابها على ذكر الرأسمالية، فإنهم يذكرونها بصفتها تجسيداً للحداثة، أي تعبيراً عن روحها، على غرار ما تصوره ماكس فيبر (الرأسمالية تجسيد للأخلاقية البروتستانتية). بذلك، يظل أولئك ضمن الدائرة المثالية المغلقة.

وتنزع النخبة الثقافية الغربية المسيطرة إلى تقسيم تاريخ الحداثة، نشوءاً وازدهاراً وانحلالاً، إلى الأقسام الآتية. هناك أولاً الحداثة الأولى Protomodernity. ويمثلها مكيافيلي وبيكون وهوبز وديكارت ولوك. وأساسها الفعلي الثورة التجارية والثورة العلمية الكبرى (غاليليو، كبلر، نيوتن). وفي منتصف القرن الثامن عشر، وقعت انعطافة كبرى في مسيرة الحداثة على يد جان جاك روسو وإيمانويل كانط، ووصلت هذه الانعطافة مداها في هيغل. وتنزع هذه النخبة إلى اعتبار هيغل قمة الحداثة، متفقة في ذلك مع ماركس وإنغلز. وترى أن الحداثة بدأت تتحلل وتتآكل داخليا، أي بفعل تناقضاتها الداخلية، بعد هيغل (قمتها) تحديداً. وتميل هذه النخبة إلى الاعتقاد بأن الحداثة اليوم أضحت مجرد أنقاض متناثرة، وأن الغرب اليوم يمر في مرحلة ما بعد الحداثة، وهي مرحلة انتقالية بين الحداثة وبين حضارة جديدة مختلفة من الصعب تبين ملامحها اليوم. وهي ترى أن الحداثة سحبت البساط من تحت أقدام ذاتها واكتشفت أوهامها وتهافتها الداخلي ومن ثم حتمية انهيارها في فكر نيتشه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم في فكر مارتن هيدغر في القرن العشرين. فالنقد الداخلي الحارق الذي وجهه نيتشه وهيدغر إلى عقيدة التنوير، جوهر الحداثة، كان بمثابة الإدراك الذاتي للحداثة بوصفها مشروعاً فاشلاً انتحاريا، ومن ثم شكل معول انهيارها وتفككها. وعليه، فإن الفكر الغربي السائد ما بعد هيدغر هو فكر ما بعد الحداثة، فكر الحداثة المشظاة الذي يسعى إلى تفكيك مخلفات الحداثة وما تبقى من أنقاضها من أجل إفساح المجال أمام البديل الجديد الذي لما يبزغ فجره. وتميل النخبة الثقافية الغربية المسيطرة إلى اعتبار بذور المرحلة القادمة في الفكر الغربي (البديل الجديد) كامنة في نيتشه وهيدغر، الأمر الذي يجعلها اليوم تصب جهودها على دراسة نيتشه وهيدغر بحثا عن خلاصها.

ولكن بأي معنى تتحدث هذه النخبة عن الحداثة وتصفها وتفصل معناها؟

بصورة عامة، فإنها تربط الحداثة بالأهداف والإنجازات الآتية:
(1) إزالة السحر عن العالم (الإنسان والطبيعة)، أي تفكيك الهالة الأسطورية السحرية التي أحاط بها إنسان ما قبل الحداثة العالم الطبيعي والإنساني. وهذه الفكرة بصدد الحداثة مستمدة أساساً من ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني الكبير. ونرى تركيزاً كبيراً عليها لدى ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، قطبي مدرسة فرانكفورت، في كتابهما المعروف “جدل التنوير”. وتميل النخبة الثقافية الغربية المسيطرة إلى التحسر على العالم المسحور الذي جرّدته الحداثة من سحره، مع إدراكها باستحالة العودة إليه. ويخفي هذا التحسر نوعاً من إنكار وجود عالم موضوعي واعتبار الصور الخيالية التي تنشئها الجماعات البشرية عن العالم الموضوعي حقيقية وفعلية وواقعية، بغض النظر عن بعدها عن العالم الموضوعي الذي يكشف العلم عن بناه وملامحه. فهي تتحسر عليه لا بصفته صورة خيالية عن العالم، وإنما بصفته عالماً حقيقيا فعليا وواقعيا، باعتبار العالم الموضوعي وهما، وباعتبار الصور الثقافية الخيالية عنه هي الواقع الوحيد لدى الإنسان.
(2) إقامة الأخلاقية Morality على أسس عقلانية إنسانية داخلية، أي اعتبارها ظاهرة إنسانية محضاً لا تعبر عن بنية الوجود، وإنما عن الجوهر المتعالي المستقل للإنسان.
(3) وحدة الإنسانية واشتراكها في جوهر عقلي أخلاقي واحد. ويعتبر مثقفو البرجوازية الغربية اليوم هذه الفكرة مستمدة من التراث الأوروبي الكلاسيكي (الإغريقي المسيحي)، وبالتحديد من التراث المسيحي. وهم يميلون إلى نفيه وإلى التركيز على الخصوصيات الحضارية الثابتة.
(4) التأكيد على قيمة العلم والعقلانية العلمية واعتبار العلم الشكل الأعلى للمعرفة. وهناك نزعة معادية للعلم واضحة وجلية لدى مثقفي البرجوازية الغربية اليوم. فهم يحاولون تجريد المنهجية العلمية من تميزها المعرفي ومن تميز ارتباطها بالعلم الموضوعي، ومساواتها بالمنهجيات ما قبل العلمية التي كان يعتقد أنها تنتج المعرفة. وبالطبع، فإنهم لا يستطيعون نفي العلم أو إلغاءه، حيث إن الحضارة الحديثة التي تعيلهم برمتها تقف على أكتاف العلم وتقوم على أساسه. لذلك نراهم يسعون إلى الحد من هيبة العلم والتشكيك في مصداقيته ونفيه بصفته أساساً وأنموذجا للفكر والحياة.
(5) التأكيد على قيمة الفرد وحريته الجوهرية. ومع أن التيارين الرئيسيين في الحداثة، أعني الماركسية والليبرالية، يختلفان فيما بينهما على تحديد شرائط حرية الفرد وحدودها، إلا أنهما يلتقيان في اعتبار الفرد الحر غاية الحياة والمجتمع. أما مفكرو البرجوازية الغربية في نهاية القرن العشرين، فإنهم يرفضون مسوغات هذه الفكرة ويعتبرون الفكرة ذاتها مجرد خيار غربي عبر منذ البداية عن خصوصية الحضارة الغربية، وأن تعميمها على الحضارات الأخرى قد لا يكون ممكناً ولا مستحباً. ولئن كان الغرب متورطاً فيها، فلا ضرورة لتوريط الحضارات الأخرى فيها. بل إن الغرب نفسه مطالب بتخطيها في سياق تصفية الحداثة ومشروع التنوير. إنه حنين واضح إلى الفاشية والاستبداد.
(6) التأكيد على فكرة التقدم في التاريخ. وهنا أيضاً تتفق الماركسية والليبرالية، وإن كانتا تختلفان في آليات التقدم وغاياته. أما مفكرو ما بعد الحداثة، مفكرو برجوازية نهاية القرن العشرين، فهم يرفضون فكرة التقدم جملة وتفصيلاً، ولا يفتأون يتحدثون عن نهاية التصورات الشاملة للتاريخ Metanarratives، حيث ترد هذه الفكرة جلية في جاك دريدا، وفاطيموVattimo، وليوتارد، ورورتي. وهم ينفون أن يكون لحركة التاريخ اتجاهات محددة، تصاعدية أو غيرها. بذلك فهم يعتبرون فكرة التقدم في التاريخ الوهم الأكبر الذي أفرزته عقيدة التنوير.
(7) العقلانية العلمية المستمدة من المنهجية العلمية والحرية الفردية. ويميل مفكرو ما بعد الحداثة إلى اعتبار هذه العقلانية، التي دشنها الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، تعبيراً عن سادية الإنسان الحديث صوب الطبيعة المادية والطبيعة البشرية كلتيهما. فهي ترتكز إلى تحقيق شرخ بين العقل والطبيعة. وهي تجعل من العقل شرطيا مستبداً وظيفته استنطاق الطبيعة وتعذيبها، ومن ثم تجعل من الطبيعة موضوعاً لسادية العقل المستبد. إن جوهر العقلانية البيكونية في نظرهم هو استبداد العقل مقرونا باستعباد الطبيعة.

هذه بعض الأركان الرئيسية للحداثة وبعض الاعتراضات الرئيسية عليها في نظر مفكري ما بعد الحداثة، مفكري برجوازية نهاية القرن العشرين. ولنا وقفة مطولة مع هذه الأفكار في مقالات لاحقة.