من تحت -دلفة- القذافي إلى تحت -مزراب- واشنطن


ماري ناصيف
2011 / 9 / 10 - 15:19     

ليبيا تعيش كابوس التفتيت بتصعيد الحرب الأهلية

في الرابع عشر من كانون الثاني 2011، استفاقت الإدارة الأميركية ومعها الرئاسة الفرنسية على ضربة موجعة، وغير متوقعة، طالتهما في الصميم... إنتصرت ثورة الفقراء في تونس وأطاحت زين العابدين بن علي. فكان لسقوط الدكتاتور التونسي وقعاً مدوياً اهتزت له أرض العرب كلها، من المحيط إلى الخليج. بل أن هذا السقوط المدوي أعطى دفعاً جديداً لثوار أرض الكنانة الذين ما لبثوا أن دفعوا، في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، بحليف واشنطن غير المبارك إلى الهروب باتجاه قصره في شرم الشيخ، بينما كانت المظاهرات المليونية تملأ شوارع القاهرة وميدان التحرير فيها، بل وتعم كل المدن المصرية مطالبة بدستور جديد وبقوانين جديدة في المجالين السياسي (قانون جديد للانتخاب) والاقتصادي (إلغاء القوانين النيوليبرالية).

استفاقت الإدارة الأميركية، إذاً، ومعها الدول الرأسمالية الأوروبية، لتجد أن كل أساطيلها وقواعدها العسكرية، بما فيها إسرائيل، والجيوش العربية الحليفة لها لم تعد تشكل الحماية المطلوبة لمصالحها الاقتصادية، والنفط والغاز في القمة منها؛ ذلك أن نجاح المرحلة الأولى من ثورتي مصر وتونس ـ أي إسقاط الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تحكم البلدين بيد من حديد ـ قد أسهم في إعطاء دفع جديد للانتفاضة الشعبية في اليمن وفي اطلاق تحركات شعبية واسعة في العديد من البلدان العربية الأخرى، بدءاً بالبحرين والعراق والأردن ولبنان وصولا الى كل دول المغرب العربي.

من هنا، كان لا بد للإدارة الأميركية من التفتيش عن مواقع للرد على الانتصارات التي حققتها الشعوب العربية، مستفيدة في سبيل ذلك من الأسباب نفسها التي أسهمت في جعل هذه الانتصارات ممكنة، أي الأسباب المتعلقة بالطموح الشعبي لإزالة أنظمة حكم قمعية جثمت طويلا على صدر شعوبها وإحلال أنظمة ديمقراطية محلها، دون أن ننسى ما خلفته الأزمة الاقتصادية للرأسمالية العالمية التي انفجرت في العام 2008 من ويلات على الطبقة العاملة والفئات الشعبية العربية، نتيجة تبعية البرجوازية العربية لتلك الرأسمالية وتنفيذها للتوجهات النيوليبرالية المتوحشة التي ضربت القطاعات الإنتاجية وزادت من حدة الفساد والسرقة والإثراء غير المشروع... الخ.

من هذا المنظار، نظرنا ولا نزال لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 الصادر في 19 آذار 2011، كونه يضفي صفة الشرعية الدولية على التدخل الامبريالي في الشؤون الداخلية لليبيا ويعطي منفذي القرار، أي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بعداً "إنسانياً" مسانداً لطموح الشعب الليبي في الخلاص من نظام القذافي الذي استخدم لغة القمع ضد كل أطياف المعارضة وأهدر المليارات من أموال ليبيا على صفقات سلاح من أوروبا، وفرنسا بالتحديد (قدرت نسبة العمولة فيها بعدة ملايين يورو). هذا، دون أن نغفل ذكر التنازلات التي قدمت مجاناً منذ العام 2004 لواشنطن ولندن وباريس، بما فيها تلك المتعلقة بالتنسيق بين الاستخبارات الليبية والسي. أي. آي. وبإبرام الاتفاقات القاضية بإعطاء الشركات البريطانية والأميركية حق التنقيب عن النفط في مناطق جديدة داخل ليبيا.

إن ما يجري اليوم في ليبيا لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي جرى في العام 2003 في العراق. فتحت يافطة تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، شاركت قوات حلف شمال الأطلسي في تأجيج الحرب الأهلية التي تدور رحاها في ليبيا، إن عبر الغارات الجوية أم، خاصة، عبر الوجود العسكري المباشر الذي استخدم في بداياته غطاء المساعدات "الإنسانية" للمدنيين الليبيين الذين هجرتهم الحرب. أما في الهجمات الأخيرة، فقامت الطائرات الأميركية المقاتلة والتي بدون طيار، كما تقول جريدة "لو كانار انشينيه" الفرنسية الواسعة الاطلاع، بقصف أكثر من 70 موقعاً على الأرض خلال يومي 22 و23 آب الماضي؛ كما أرسلت واشنطن 8500 ضابط ميداني وجندي، بمن فيهم مجموعات من القوات الخاصة والمستشارين، بينما كان دور فرنسا وبريطانيا دوراً مكملاً... أما قطر، فعُهد إليها تدريب المقاتلين الذين حددت مهمتهم بالاستيلاء على الأرض المحررة، بما يضع الأوراق الاساسية في يد أصدقاء الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي ويمنع قيام سلطة وطنية يمكن لها ان تقول "لا" للوجود العسكري الأميركي ـ الأطلسي على الأرض الليبية. أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الحرب قد أدت، حتى الآن، الى سقوط آلاف وآلاف القتلى والجرحى والى اهدار مليارات الدولارات.

والآت أعظم.

فالحرب الامبريالية على ليبيا لم تنته بعد. بل يمكن القول إن مرحلتها الأولى هي التي انتهت، تقريباً، وأن ما ينتظر الشعب الليبي في المستقبل القريب هو مخطط يهدف الى تفتيت وطنه بالاستفادة ـ كما يقول أحد الدبلوماسيين الغربيين ـ من تعدد القبائل والاثنيات فيه... فكما استفادت واشنطن من جرائم صدام حسين ضد الأكراد وضد أهل الجنوب (بحجة العلاقة مع إيران) لتقسيم العراق، وكما استفادت من القمع "الشمالي" في السودان لتقسيمه على أسس دينية واثنية، كذلك تعد العدة اليوم، بعد الانتهاء من القذافي الذي مهد لها الطريق، لإطلاق العنان لحرب قبلّية مدمرة ستكون المرحلة المتقدمة على طريق إنفاذ خطة تنظيمية جديدة لوضع اليد على كامل منطقة شمال أفريقيا ووسطها، وما تختزنه من ثروات، أهمها النفط والغاز والمعادن الثمينة، عدا عن الأراضي الصالحة للزراعة والخزانات المائية الجوفية.