الفلسفة كعلم


الاخضر القرمطي
2011 / 8 / 25 - 23:56     

هذا النص هو تعريب لمقدمة كتاب "ما بعد هيغل-إعادة بناء نقدية للنسق الافلاطوني المُحدَث"
– الفيلسوف البرازيلي كارلوس سيرنه- ليما CARLOS CIRNE-LIMA (1936-.....)
.
رابط الكتاب:
www.cirnelima.org/Beyond-book.doc

الفلسفة كعلم
تعريب: الاخضر القرمطي
لقد تواصل البشر البدائيون، أسلافنا القدماء، عبر الهمهمة. إن ابتكار اللغة الملفوظة كالتي نتكلم بها اليوم قد احتاج الى آلاف السنين من التطوّر. لم تعد الهمهمة تعني شيئًا اليوم. ومن الهمهمات ظهرت الكلمات. ولكن الكلمة المعزولة، سواء كانت فعلاً أو اسمًا، هي امرٌ مضللٌ بالخالص وعادةً لا تُخبِر الشيء الكثير (وفي العادة لا تُخبِرنا شيئًا). سابقًا، قال أرسطو أن كلمة "يركض" لا معنى لها إن لم يُقَال من الذي يركض. تنبزغ الكلمات من الهمهمة، تنشأ الجمَل من جمع وتركيب كلمات. الجُمَل هي أساس اللغة التي نستعمل. وتشكّلُ مجموعة جملٍ فقرةً أو خطابًا.هذه المجموعة من الجُمَلِ، إن لُفِظت بأسلوب واضحٍ، في وحدةٍ كليةٍ تميل الى ان تشمل مجموعة من الموضوعات، تُسمّى "نظامًا محددًا"؛ وإن أبدى إحكامًا علميًا، يُسمّى "علمًا محددًا". منذ العصور القديمة، فإن النسق الذي يقصدُ أن يشمُل علميًا الكون بأكمله سُمّيَ فلسفة. لهذا السبب، على الفيلسوف/ة أن يُدمِج/تُدمِج نتائج العلوم في تفكيره/ها.
تمتلك كل العلوم، بما في الفلسفة، منحىً تصاعديًا وتنازليًا. أطلق أفلاطون على هذه الحركات ،في مسار العلوم، الصاعدة anábasis و الهابطة katábasis. تقود الحركات الصاعدة العالم من تعدد الوقائع الخام الى نظريةٍ، لكونها أبسط وأكثر شموليةً، توحّد تعدد الوقائع ضمن وحدةٍ. هذا النقطة هي على قدر من الأهمية وهي تستحق شرحًا يُنصِف أهميتها.
حين كنتُ طالبًا شابًا في جامعة ميونخ (في الفلسفة)، كان عليّ طبقًا للقوانين المفروضة في ذلك الحين، أن أنال أرصدة عديدة في علمٍ شاق. إخترتُ البيولوجيا (علوم الاحياء) التي كان لها أن تكون قصاصيَ الإضافي. لم اكن كثير الاهتمام بالبيولوجيا، وبإرتجالية وفظاظة نموذجيتن للعديد من الشباب، أخبرت أستاذي انني اردت واجبًا محددًا يمكن أن انجزه في المنزل، في مكتبي، من دون اي عمل ميداني قد يعيق مطالعتي الفلسفية.ضحك استاذ المادة على وقاحتي وطلب منّي شراء حوض للسمك ونوعٍ معيّن من الاسماك الصغيرة تحمل أسماءً لاتينية طويلة. كان على الحوض أن يوضع على مكتبي، وكانت مهمتي ان اراقب الأسماك وأدوّن كل ما أراه مناسبًا. كان عليّ، كل شهرٍ، ان أذهب عند الاستاذ وأريه نتائج مشاهداتي. عند نهاية الشهر الأول، أحضرت للاستاذ دفترًا مليء بملاحظات حول ما فعلته الاسماك في يومٍ محدد، عند ساعة محددة وحين دقيقة محددة.إبتسم الاستاذ بلطافةٍ وقال :" عليك ان تتعلم كيف تنظر! كيف تنظر!". حصل الامر عينه في الاشهر اللاحقة، وكانت نصيحته هي ذاتها:"تعلمّ كيف تنظر!". ذات مساءٍ، بينما كنت متورطًا بنصوص قديمة لمؤلفين قروسطيين، سقط مصباحي الكهربائي، ومن دون تفكيرٍ التقطته ووضعته فوق مكتبي، ولكن ومن ناحية أخرى، في الجهة المعاكسة لموقعه الأول. عندما غيّرت موقع المصباح، تحركت كل الاسماك كما لو انها خائفة، وانتقلت الى تشكيلٍ جديد، متجهةً بإتجاه مكان الضوء. رأيت هذا، وأصبحت مرتابًا للأمر. وضعت المصباح في موقعه القديم. عادت الاسماك الى تشكيلتها السابقة، مثل سرب طائرات مقاتلة، عائدة الى حيث زاوية سقوط الضوء. أثار ذلك فضولي العلمي وبدأت بتغيير موضع المصباح وفقًا لزوايا السّدسية [آلة لقياس أرتفاع الاجرام السماوية من سفينة او طائرة متحركة]. والاسماك تتحرك وفقًا لذلك. ومن ثمَ أخذت دفتر الملاحظات الذي كان قد اصبح ثخينًا وممتلئًا بالملاحظات عن الايام، الساعات، الدقائق والمواقع..ألخ، ودوّنت جملةً واحدةً :" إتخذت الاسماك شكلاً لطائراتٍ مقاتلةٍ، متجةً دومًا نحو الموضع حيث يسقط شعاع الضوء". أخذت دفتر ملاحظاتي الى استاذ البيولوجيا وأخبرني، مع ابتسامةٍ:" الآن، تعلّمتَ كيف لك ان تنظر، ورأيتَ الوحدةَ في التعدد". لم أنسىَ قط هذا "المبحث العلمي" الأول، والبيولوجي، كما لم انسى ابدًا الدرس الذي تلقيته من المعلم القديم. كان اسمه كونراد لورنز، وبعد فترة قصيرة-وبالتاكيد ليس بفضلي-مُنِح جائزة نوبل.
في الحركة الصاعدة، يبدأ العالِمُ من تعددية الظاهرات والأشياء ليصل الى الوحدةِ في النظرية؛ هذا بالتحديد ما تعنيه النظرية (فالكلمة اليونانية theorein معناها أن "تنظر بشكل حسن"). بينما نتسلق هرمَ النظريات يُصبِح هذا الأخير كليًا ومجردًا أكثر فأكثر، ونصل أخيرًا الى القمة: الى المبادىء الأولية للفلسفة. إن هذه الأخيرة هي النظرية التي ترى كل شيء وفقًا لوحدةِ مبادئها الأولى. إنها العلم الذي يوّحد كل العلوم.
إن الدرب الذي يتصاعد هو النصف الأول من العلم؛ إنه كذلك ضروريٌ للرجوع نزولاً. وفقًا لنظريتي حول السمك في الحوض المائي، ومعرفة موقع الضوء، يُمكن للمرء أن يستنتج كيف أمكن للسمك أن تصنع تشكيلاً، ونحو اي إتجاه تتجه. هذه هي الحركة الهابطة، إشتقاقٌ لحالةٍ خاصةٍ من نظرية كليةٍ.
إن كل علمٍ، ومنذ البداية، يعمل على هذا المنوال، صعودًا ونزولاً. تبدأ الحركة الصاعدة من التعددية اللامنظمة للأشياء، وتحاول أن تعثر على مبدأ للإنتظام في هذه الأخيرة. وبالرغم من ان مبدأ الانتظام هو مبدأ وحيد، ولكنه يفسّر الاشياء المتعددة، وهذه التي كانت تبدو كثرةً فوضوية غير منتظمة، تظهرُ كتعددية منتظمة، أو بالأحرى، كانتظامٍ لعناصرٍ متعددةٍ تشكلّها. هذه الحركة الصاعدة، يقوم بها كل علم، وهذا ما يُمكن أن نعرّفه مؤقتًا بأنه عمل العلم كبحثٍ وإكتشافٍ لمبدأ الانتظام الذي يسمَحُ بفهم وبشرح تعددية الموجودات. هذا الطريق صعودًا يبدأ من التعددية ويتحرك قدمًا نحو الوحدة، يبدأ من الخاص [المفرد الجزئي] ويتجه نحو الكلّي.
ومع ذلك، لا الفلسفة أو العلم يرضيان أنفسهما بالطريق الصاعد. هناك سببان رئيسيان لهذا الأمر. الاول هو: كيف يمكنني التأكد من أنني في صعودي لم أرتكب اية اخطاء او هفوات؟ والثاني هو: لقد تقدمنا من تعددية الاشياء الى مبدأ الانتظام، ولكن هل من الضروري أن نخطو ايضًا الخطوة المعاكسة،بمعنى ان نشرح تعددية الاشياء المرتكزة على وحدة مبدأ الانتظام، والتي هي واحدة وهي نفسها في الفلسفة؟ إن الطريقَ نزولاً الذي يشكّل النص الثاني من الفلسفة ومن العلوم، يمتلك فهمًا أفضلَ لما هو وحيد [فريد]، لأنه يراه من فوق أفق الكلّي.
يبدأ الفيزيائي من تعددية الكواكب والتفاح المتساقط، ويكتشف قانون الجاذبية: يُختزَل المتعدد الى الواحد. لكنه لا يقف عند هذا الحد، وبالاعتماد على قانون الجاذبية، يحاول الفيزيائي ان يفهم كل الحركات التي تحصل في النظام الشمسي، لا بل حتى في الكون. لن يكن بمقدوره ان يستدلّ و يحسُبَ كل الوقائع المفردة، ولكن القوة الاستكشافية لقانون الجاذبية تبدو عظيمةً وشمولية لدرجة أن عددًا هائلاً من الظاهر ينال فيها شرحًا كافيًا، وذلك يُثبّت بشكل قبْـلي القانون الذي اكتشف نيوتن. ذاك هو الطريق الهابط.
أمضى اينشتاين، الذي قام بأعظم الاكتشافات في الفيزياء، المدة المتبقية من حياته يبحث عن "صيغة[علميةٍ] للعالم [للكون]" تستند على إعتقاده ان بإمكانه، مبدئيًا، ان يستنتج رياضيًا كل ما حصل في الماضي وما سيحصل في المستقبل. إن البحث على "صيغةٍ للعالم" هي طريقٌ صاعدٌ.واستنتاج كل ما قد حصل وسيحصل في الكون-وهذا مستحيل- كان سيكون طريقًا هابطًا.
بشكلٍ مماثل، فإن الفلسفة، منذ بدايتها، قد أخذت الطريقين، صعودًا وهبوطًا. وضع كل الفلاسفة الإغريق، وبالاخص افلاطون، فلسفةً باستعمال [المسارين] الهابط والصاعد.وهذه البنية المثلّثة للمسار الذي يصعد وللمسار الذي يهبط، ومن بعد هبوطه عليه ان يصعد ثانيةً لأن هناك دومًا شيئًا يراوغ الفهم، إن هذه البنية قد أصبحت والحالة هذه شعارًا للفلسفة.
في ما يخص النظرية العامة للعلم، كما نوقشت سابقًا، لا يوجد خلافٌ بين الفلاسفة، او بين العلماء. إن التعارضَ، التعارض الكبير بين كلتي المجموعتين يتوقف على معرفة إن كان هناك إكتمالٌ في البناء المثلّثي للمعرفة العلمية. إن أينشتاين، على النحو المذكور أعلاه، اعتقد انه اذا كان بالامكان ايجاد "صيغة للعالم" سيكون بمقدوره أن يستنتج منها، عبر حساب رياضي دقيق، كل الاحداث الماضية والمستقبلية في الكون. إعتقد أن كل من عرف المبدأ الأول سيكون قادرًا على ان يستخلص منه كل شيءٍ آخرَ يحصل في الكون. بما أن اينشتاين لم يكن بمقدوره العثور على "صيغة للعالم"، في الطريق الصاعد، فمن الجلي انه لم يكن يتسطيع ان يستنبط كل الموضوعات في الكون. وحتى اليوم، يوجد فيزيائيون يرون انه متى وُجِدت هذه الصيغة، فإن كل شيئٍ آخر يُمكن أن يُعرَف عن طريق الاستنباط؛ ولكن المعضلة تكمن في ان شيئًا من قبيل هذه "الصيغة للعالم" لم ُيكتشَف بعد.
توجد مجموعةٌ ثانيةٌ من الفيزيائيين الّذين يعتقدون انه حتى لو امتلك احدٌ ما "صيغةً للعالم"، فمن المستحيل استنباط كل ماضي ومستقبل الكون منها. وهذا يبدو مستحيلاً منذ برهن غودل Goedel على لاإكتمالية الأنظمة: حتى لو امتلك المرء كل المُقدِّمات، سيبقى النظام غير مكتملٍ.نجد في الفلسفة الأمر عينه. لا يدّعي أحدٌ ان المسار الصاعد دائم الاكتمال، حتى في الفيزياء يبدو ذلك مستحيلاً. ولكن بعد العثور على المبدأ الاول، اي "صيغة العالم"، هل من الممكن التحرك هبوطًا بمنحى يسمح باستنباط كل شيءٍ حصل وسيحصل في الكون؟
منذ عهد الإغريق، ألّحت روحٌ آثمةٌ على الفلاسفة ليدّعوا أنه متى عُرِف المبدأ الأول، يُمكن استنباط كل شيءٍ آخر بطريقة منطقية صارمة. وقد دافع عدد من المؤلفين، بما فيهم افلاطون، عن هذه النظرية، على الرغم من انهم خففوا من معيار الصرامة المنطقية في الاستنباط. يعتزم النظام الفلسفي الافلاطوني المحدث- بالرغم من غياب الادعاء الصريح بذلك- تفسير (اي بمعنى استنباط) الكون بأكمله. نعلم اليوم، بفضل غودل والفيزياء الكوانتية بالدرجة الاولى، أن ذلك مستحيل. إن المساران الهابط والصاعد كلاهما غير مكتملين. ومع ذلك، لا يحول هذا الامر دون صياغة نظرياتٍ في حقول مختلفة من المعرفة وحتى دون الوصول الى المبدأ الاول او المبادىء الاولى للكون، ودون وضع توقعات دقيقة للغاية عن المسار الهابط.
متعقبًا المثال الفلسفي الذي رسمه فيخته في كتابه "حول أفهوم مبدأ العلم"، يُعتَبر هيغل واحدًا من المؤلفين الّذين اعتزموا اكتشاف المبادىء الأولى واستنباط الكون بأكلمه منها. إن كامل نتاج هيغل هو محاولة ضخمة في إجتياز المسار الهابط، بطريقة صارمة ومكتملة. في هذه النقطة، هيغل هو تلميذ فيخته المجتهد.
ومع ذلك، اعتاد فيخته على إعادة كتابة مؤلفه (مبدأ العلم) كل سنتين او ثلاث، بحدّته المنطقية، و دائمًا ما كان يكتشف خطأً في محاولته السابقة. فرضت مصدقيته الفكرية عليه البدء من جديد. وهكذا، لدينا عدة استهلالات لهذا المؤلَف، كفقراتٍ طويلة ام قصيرة كانت، ولكن ايّا منها لم تكن مكتملة، او على الاقل تقود الى استنتاجات نهائية ترضيه.
وضع هيغل ديالكتيكًا تصاعديًا، بالتكافؤ مع المفكرين الافلاطونيين المحدثين الكبار. ولا يفوقه مقامًا الا ما قام به افلاطون. يُعتبر مؤلَف هيغل "فينومينولوجيا الروح"، والذي يحوي مساره الصاعد، تحفةً فلسفية في كل العصور، وسيبقى كذلك. بدأ هيغل بالمتعدد، بالحوادث المُحتمَلة للحياة اليومية، بهدف الوصول، بعد رحلة طويلةٍ متعبة، الى المبادىء الأولى، ما يسمّيه المعرفة المطلقة. وهيغل على بيّنة واضحة من حقيقة أن "فينومينولوجيا الروح" لم تكتمل. ويعلم ايضًا-كما نعلم نحن- انه ليس على الديالكتيك الصاعد ان يكون مكتملاً للوصول الى المبادىء الأولى. وأفلاطون كان يعرف هذا في السابق.
تكمن مشكلة هيغل في الديالكتيك الهابط، في المسار الذي يبدأ من الوحدة ويعود الى تعددية الوقائع. على هذا المسار، يتردد هيغل ويناقض نفسه أكثر من مرة. أحيانًا يدافع عن الاستنباط التام، المكتمل، والنهائي لكل الاشياء من المبدأ الأول، والذي هو، بنظره، الفكر المحض. في احيانٍ أخرى، ينفي الاكتمالية إمّا لأنها مستحيلة بالاساس، او لأنها مستحيلة بالنسبة للروح المتناه الذي يخطّ النسق.
________________________________________