ثورة بلا ميدان


فنزويلا الاشتراكية
2011 / 8 / 14 - 18:49     

غالباً ما توجه نصائح للسوريين الثائرين بوجه النظام الأسدي، ومع النصيحة لوم بأنهم غير قادرين أو ليسوا بواعين لأهمية امتلاكهم لساحة اعتصام وتظاهر دائمة، ضاربين المثل بالثورة المصرية التي كتب لها النصر تلقائياً بمجرد سيطرتها على ميدان التحرير يوم 28 يناير (كانون الثاني)، لكن التاريخ القريب جداً في تونس لا يعطي أي سبب حقيقي لهكذا اعتقاد بحتمية الميدان الاعتصامي ناهيك عن أننا بمجرد ما نفكر باختلاف المجتمعات وحتى المجتمعات الأهلية في البلد نفسه، ندرك مباشرة أن الحتمية تتلاشى بتقليد النماذج، فحتي في مصر نفسها لم يكن هنالك سوى ساحة اعتصام دائم واحدة في القطر كله.

قبل أشهر تجمعت حشود غفيرة من أهل حمص الغاضبين في ساحة الساعة الموجودة في قلب المدينة الثالثة في سوريا من حيث عدد سكانها، ولم يكتب للاعتصام أن يرى فجر اليوم التالي، فتدخلت ميليشيات النظام بإطلاق أعيرتها النارية مباشرة على الجموع التي لم تحمل حتى حجارة أو عصي ولم تجهز متاريس حرصاً على مبدأ السلمية القائم في معظم أنحاء سوريا على أنه يرتبط بشكل وثيق بالابتعاد عن تخريب أي شيء، حتى الرصيف محمي من اقتلاع حجارته.

ذات الشيء حصل قبل فترة من الاعتصام الحمصي في عاصمة الثورة درعا فرفعت على جدران إحدى الساحات صور لشهداء حوران وجعلت الساحة رمزاً للاحتفال بنيل الحرية في درعا وكذا الأمر في عدة مناطق من المحافظة الجنوبية كما كان في ساحة الحرية في مدينة جاسم.

اقتحمت درعا بالدبابات وحصل ما حصل، وما من داع لذكر كافة المراكز الأساسية للمتظاهرين السوريين التي لم تقتحمها مجموعات بلطجية بالحجارة والسكاكين، بل قوات عسكرية بمدرعاتها الهجومية تتبعها ميليشيات الشبيحة بسلاحها غير المرخص حتى من النظام نفسه.

من عايش أحد النظامين البعثيين سواء في دمشق أو بغداد غالباً ما جاء في خاطره عندما رأى دبابات الجيش المصري تحيط بميدان التحرير في القاهرة بأنها تحضر لكمين لا يتوقف عند حد أخذ الحياد أمام هجمات ما سمي بالبلطجية على المعتصمين السلميين، بل تجهز نفسها لتقصف وتسحق المعتصمين دفعة واحدة في إحدى الليالي التي يقل فيها عددهم ويسهل قتلهم. ولم يختلف الأمر كثيراً قبل ذلك عندما تحرك الجيش التونسي لفرض سيطرته على عاصمة البلاد، فحضر الشك ولو بأقل نسبة لدى كل سوري وعراقي بأن الجيش سيقوم بعمل غادر بطريقة أو بأخرى، فالجيش في الديكتاتوريات العربية لا يحمي النظام ببساطة، ولا يستميت بالدفاع عن نظام فيقتل ويدمر أبناء بلده فحسب، بل هو جاهز لفعل الأسوء للدفاع عن زعيم النظام فقط، أو هكذا هو الأمر في دولة الحكم الفردي المطلق.

في إحدى أيام الجمعة منذ بدء الثورة السورية التي حملت اسم الجمعة العظيمة، كاد الأفضل أن يتحقق، اندفعت الجموع من دوما في ريف دمشق لتلتقي بجموع أخرى من حرستا وزملكا لتسير عدة كيلومترات باتجاه العاصمة مزودة بالمزيد من الثائرين من مناطق جوبر وعربين وعندما شارفوا على بلوغ ساحة العباسيين الشهيرة قابلهم الأمن بسلاح قاتل صوب إلى صدورهم فحصد ماحصد من الشهداء واعتقل ما تيسر له من الجرحى والمصابين.

تكرر الأمر في الجمعة التي تلتها فتقدم أبطال منطقة عربين حتى بلغ الثوار نقطة باتوا معها على مرمى حجر من الساحة ليبدأ بعدها إطلاق الرصاص رشاً دون أي رحمة لتسقط المزيد من الأجساد الطاهرة. وخشية أن يتكرر الأمر ويتحول إلى عادة، دخلت القوات العسكرية لتحاصر دوما بالكامل لتخضع المنطقة المتمردة التي جاءت بفكرة الزحف باتجاه قلب دمشق ونشرت المدرعات العسكرية في مناطق مفصلية لتمنع أي حشد مستقبلي في حال عجزت خطوط الدفاع الأولى المؤلفة من قوى الأمن والشبيحة والبعثيين وزعرانهم عن رد المتظاهرين، فتكون رشاشات المدرعات ومدافعها لهم بالمرصاد.

ولو مضينا بسيناريو مفترض للقول بأن شبان تلك المناطق بلغوا الساحة وتجمعوا فيها فلن تستسلم السلطة أو تدعي الرغبة بحمايتهم أو تتجاهلهم ولن تقوم بإقامة ساحة مواجهة في هذه الحالة على مبدأ شارع بشارع في ساحة الأمويين مثلاً، ستأتي بمسلحين يطلقون النار على كل ما هو حي في الساحة فإن عجزوا عن ردهم جميعاً جاءتهم بالدبابات وأخرجتهم أمواتاً أو جرحى أو أسرى.

لا بد من استيعاب مسألة بالغة الأهمية، من يمسك بزمام الأمور في دمشق ثلة ممن لا يردعهم أي رادع، ولا أعني روادع ذاتية أخلاقية وماشابه، فهذه نسيتهم قبل أن ينسوها، بل لا توجد مؤسسات حقيقية في الوطن السوري لتوقف أحد ممن يمتلك النفوذ عن فعل ما يحلو له، فالمحاسبة انقرضت، والرقابة انعدمت، وللسيف عابد القرش وحده الحق في القول والفعل وتصوير نفسه فوق جثامين ضحاياه الأبرياء.

عندما ينجح السوريون ببلوغ ساحة في دمشق ليهتفوا منها ضد النظام المستبد بالبلاد والعباد، وتغيب القوى المسلحة بكل أشكالها عن الصورة، فلن يكون الاعتصام أو التجمع فيها إعلان عن بدء نهاية النظام بل سيكون إعلاناً احتفالياً بسوريا الجديدة، سوريا التي لا يذل فيها سوري ويذبح فقط لأنه مختلف.