تحليل خطابي لحوار مرشح الرئاسة الإسلامي حازم أبوإسماعيل


أمير خليل علي
2011 / 8 / 10 - 19:12     

سنثير هنا بعض الملاحظات على حوار تم مع المرشح الإسلامي حازم أبوإسماعيل.

رابط الحوار هنا:
http://www.youtube.com/watch?v=zgpezYcRXqE&feature=player_embedded#at=733

وبخاصة بعد الدقيقة الثامنة من الحوار، بعد أن سأله أحد المتصلين بالبرنامج (الصحفي محمد فتحي) عن رأيه في قيام الحاكم بفرض الحجاب مثلا. وفيما يلي سأدون نص ما دار من حوار بين حازم أبوإسماعيل وبين المحاور. وأقسم هذا الحوار إلى أجزاء صغيرة. ثم أعلق على كل جزء بما تيسر. ثم أوضح مسار الخطاب الذي يطرحه أبوإسماعيل لنفهم إلى أين يؤدي (مآلات) هذا الخطاب.

سياق الحديث:

يدور حول قيام الحاكم بفرض الحجاب الإسلامي في مصر (بإفتراض وصول حازم أبوإسماعيل لسدة رئاسة مصر). فمن المهم هنا أن نفهم ما يتوقعه حازم أبوإسماعيل وما يتوقعه المستمعين له في هذا السياق.

جزء الحوار1:

المحاور:
المشكلة تكمن في تعدد الفتاوى والإجتهادات.

أبوإسماعيل:
نعم. طالما هناك نقاش بين أهل العلم، فلا توجد مشكلة. فكما أن لكل علم أهله – علم الإجتماع وعلم النفس. فإن علم الشرع أيضا له أهله. وربما عندما يدرس العلماء النصوص يصلون إلى أمور تبدو في الظاهر وكأنها ضد بعضها. والإسلام يقر هذا وذاك. لأن هذا من حيوية البحث العلمي. لكن في ناحية التطبيق. فطالما أن الموضوع محل رأيين. لا يصح إجبار الناس عليه. لأن ما عليه خلاف ليس مما هو معلوم من الدين بالضرورة.

التعليق:

من هذا الجزء يتضح ما يلي:
1-
أن الشريعة الإسلامية علم له أهل. ومثلها في ذلك مثل علم الإجتماع ومثل علم النفس.
وهذا يبشر بأن ما يقصده أبو إسماعيل هو قصر علم الشريعة على أهله فقط (وبخاصة أن أبوإسماعيل قد استبعد أثناء الحوار من أسماهم الصحافيين والعلمانيين من أهل الشرع – كما يفعل أغلب من يسمون أنفسهم بأهل الشرع).

3-
ما يتفق عليه أهل الشرع هو ما يتم فرضه على المجتمع. أما ما يختلفوا عليه فلا يتم فرضه. لأنه ما زال محل نقاش.
إذاً:
فإن ما يصدر من فتاوي من أهل الشرع هو ما سيتم فرضه على المجتمع.
أما ما يستجد من قضايا، فيمكن أن يظل محل اجتهادات حتى يتم حسم الأمر.

في رأيي الشخصي: نحن هنا أمام ما يشبه ولاية الفقيه (أهل الشرع) في إيران.
حيث يقوم مجلس من "أهل الشرع" بوضع ما يفرض ويلتزم به المجتمع

وهذا يبشر بأن حازم أبوإسماعيل (إذا ما تم إنتخابه) فإن أول ما سيفعله هو تحديد لجنة من "أهل" الشرع لتقوم بتحديد الفرائض التي سيتم فرضها على المجتمع بشكل فوري بدعوى أنها من "المعلوم من الدين بالضرورة". ثم تحديد ما عليه إختلاف ويمكن تركه كحريات للمجتمع - لكن طبعا حتى تقوم لجنة "أهل الشرع" بحسم هذه الأمور. فلو وجد "أهل" الشرع أن هذه الأمور يمكن أن تضر بالمجتمع، فربما تصدر فتاوى بوقفها ومنعها. وهكذا.


مسارات خطاب إبوإسماعيل حول "أهل علم" الشرع:

في حديثه عن مماثلة علم الشرع بعلم النفس وعلم الإجتماع، فإن ما يفوت على أبوإسماعيل في هذه المماثلة بين علم الشرع وعلم النفس أو الإجتماع هو ما يلي:

أن علم النفس وعلم الإجتماع هي علوم علمانية تقوم على الإجتهاد فيها. وليس فيها بالمرة ما هو "معلوم بالضرورة".

ولذا فمن الخطأ استخدام الإجتهادات من هذه العلوم (النفس، والإجتماع) بغرض فرضه على المجتمع، إلا داخل الأنظمة الإستبدادية مثل الشيوعية والماركسية مثلا.

فالفارق الذي يفوت أبوإسماعيل (أو يفوته علينا) هو ما يلي:

أن مسار وأهداف العلوم العادية العلمانية تختلف تماما عن مسار وأهداف العلوم الدينية.
لذا فالحديث عن "أهل العلم" في العلوم العلمانية يختلف تماما عن الحديث عن "أهل العلم" في العلوم الدينية.

ذلك أن الحديث عن "أهل علم" في العلوم العلمانية (النفس - الإجتماع – الرياضيات) إنما يقصد الوصول إلى أحدث مسار توصلت إليه هذه العلوم عند الخلف (لا السلف) ويهدف إلى استمرار تركيم المعرفة في هذه العلوم وكسر إحتكارها وكسر قصرها على طبقة محددة من المجتمع دون أخرى. فالهدف هنا هو نشر العلم بين مختلف طبقات المجتمع دون اقتصاره على طبقة بعينها.

بينما يختلف الأمر تماما في حالة الحديث عن "أهل العلم" في العلوم الدينية.

فالحديث عن "أهل علم" في حالة العلوم الدينية إنما يهدف دوما إلى العكس مما سبق تماما.

فالمقصود بأهل العلم في العلوم الدينية هو بالضبط إقامة طبقة "كهنوتية" داخل الدين تكون وحدها هي المعنية بإصدار الفتاوي والتشريعات للمجتمع، لا إستنادا إلى مصدر دنيوي علماني يمكن الرجوع عليه، كما في المجتمعات المعروفة، لكن على العكس يتم تأسيس الطبقة الكهنوتية بالإستناد إلى مصدر إلهي ونص إلهي لا يمكن الرجوع عليه. وبهذا تكون النتيجة المؤكدة هي احتكار الطبقة الكهنوتية لسلطة تفسير النص المقدس وسلطة الحديث بإسم الله وسلطة التشريع للمجتمع.

ذلك أن مشكلة العلوم الدينية أنها تقوم على النصوص الكتوبة باللغة العربية. بمعنى أنها متاحة للجميع. وهي ليست في تعقد الرياضيات أو علم الفضاء أو الكيمياء. لذا فإن السبيل الوحيد للحديث عن "أهل علم" في الشريعة، إنما يقوم على إصطناع أهل علم يوهموا غيرهم بأن لديهم ما هو أكثر من القدرة على قراءة وكتابة اللغة العربية مثل الشخص العادي. وهذا الوهم لابد أن يستند إلى سلطة كهنوية، بإعتباره السند الوحيد الذي يميز شخص يقرأ ويكتب عن شخص آخر يقرأ ويكتب نفس النصوص.

وهذه مسألة تحدث في كافة المجتمعات، وعلى مدار التاريخ. بمعنى أننا لا نتكلم في مسألة ليس لها سوابق تاريخية أو لم يثبت صحتها تاريخيا. بل على العكس. فإن قابلية "أهل العلم" في الدين للتحول إلى طبقة كهنوتية متسلطة تتحدث بإسم الله هي قابلية مؤكدة ومثبتة في كافة عصور التاريخ، ولا حاجة لمحاولة إثباتها، وكأننا نعيد إختراع العجلة.

الثابت هو أن الإسلام يرفض تماما السلطة الكهنوتية.

لكن علينا أن نفهم أن الأمور لا تنتهي عن هذا الرفض. فلابد أن نفرق بين الإسلام وبين "المتحدثين" بإسم الإسلام أو من يزعمون أنهم "أهل العلم" في الإسلام.

فالحديث عن "أهل علم" في الإسلام هو في الأغلب حديث عن أهل كهنوت في الإسلام. أما الحديث عن الإسلام فهو حديث عن دين يرفض سلطة الكهنوت. وهنا ينشأ الإلتباس.

فكيف نضمن ألا يتحول أهل "العلم" إلى أهل "كهنوت"؟ هل هناك ضمانات لذلك؟

بالطبع توجد في الإسلام ضمانات لذلك. لكن مرة أخرى فلنفرق بين الإسلام وبين "أهل" الإسلام.
فإن وضعنا هذه الضمانات الإسلامية في يد طبقة محددة وسميناهم أهل "العلم" في الإسلام، وجعلنا لهم احتكار سلطة تفسير نصوص الإسلام وحدهم. فمن يضمن لنا ألا يتجاوز "أهل العلم" في الإسلام كافة الضمانات التي يفرضها الإسلام؟

فهنا يمكن أن تكون الضمانات محل لإعادة التفسير بما يناسب مصلحة طبقة المفسرين. ويمكن أن يصبح محك الإسناد الذي يعتمد عليه الفقيه وعالم الدين لإثبات أحقية وأولوية وضرورة احتكار الفقهاء لسلطة تفسير النصوص، ليس روح الإسلام أو ما تقوله هذه الضمانات، بل تصبح اليد العليا هي روح المصلحة الفئوية الطبقية التي تحرك رجال الدين (الكهنوت) وتدفعهم لتأمين مواقعهم داخل منظومة الدولة، بأن تصير لهم سلطة هامة فيها. فمن له أن يتعفف عن مثل هذه السلطة وهذا الموقع وهذا المنصب؟

فالمسألة هنا لا تعتمد على وضع ضمانات لضمان فهم أن روح الدين الإسلامي تنفي الكهنوت، لكنها تعتمد على إمكانية قيام رجال الدين بإعادة تفسير الدين ليلائم مصالحه هم الفئوية ويأمن مواقعهم السياسية داخل الدولة. وهو بالضبط ما حدث ويحدث يوميا في إيران.

وهنا يصبح من السذاجة التامة أن نصدق النظريات التي يتلفظ بها رجل الدين بينما ننصرف عن تحليل تصرفات وسلوكيات رجل الدين. وبخاصة إن كان رجل الدين المعني هنا يرشح نفسه ليصبح رئيس جمهورية (كما يفعل أبوإسماعيل).

فالصراع هنا هو بين أمرين متعارضين:

- بين "النزاهة" الأخلاقية الشخصية لرجل الدين ودرجة فهمه للدين الإسلامي الذي تنكر سلطة الكهنوت
- وبين "المصلحة" الفئوية والطبقية لرجل الدين، التي تدفعه بإتجاه ترقية مكانته وسلطته السياسية داخل منظومة الدولة.

فما هي النتيجة المتوقعة من صراع كهذا بين النزاهة الشخصية وبين المصلحة الفئوية والطبقية؟

هل تكون اليد العليا هي للنزاهة الشخصية فيمتنع رجل الدين عن استغلال موقعه الإحتكاري لتفسير النصوص الدينية بحيث يقدم لنا تفسيرات ربما تضعف مصالحه الشخصية؟
أم تكون اليد العليا هي للمصلحة الفئوية والطبقية لرجل الدين بإعتباره إنسان لديه طموحات مشروعة سياسيا في التسلق والوصول إلى تأمين مصالحه الطبقية والفئوية وفق المتاح سياسيا في الدولة المعاصرة؟


جزء الحوار2:

المحاور:
لكن من أفتى بعدم جواز الخروج على الحاكم أثناء الثورة (المصرية) كان يظن بأن هذا "معلوم من الدين بالضرورة".

أبوإسماعيل:
لا لا لا لا. هو اجتهد في النصوص، فقاده إجتهاده لهذا. كما اجتهدت أنا فوجدت العكس. هذه اجتهادات، ويمكن الإختلاف فيها. لكن هناك أمور أساسية لا يوجد فيها أي خلاف.

التعليق:

هنا (في هذا الجزء) يفرق أبوإسماعيل بين اثنين:

- بين الاجتهاد في الأمور المختلف عليها
- وبين المعلوم من الدين بالضرورة

وهذه التفرقة مهمة جدا. لأنها تفتح باب الإجتهاد في الأمور المختلف عليها. لكنها أيضا تغلق باب الإجتهاد أو حتى النقاش في الأمور "المعلومة من الدين بالضرورة".

مسار خطاب إبوإسماعيل حول الاجتهاد:

لكن لو عدنا إلى حديث أبوإسماعيل عن "أهل علم الشرع" أعلاه والمقصود بهم الفقهاء في الشريعة الإسلامية، فسوف نعرف أن الإجتهاد يمكن أن يصير مقصورا على "أهل علم الشرع" وحدهم أيضا. فليس من حق أحد غير "أهل علم الشرع" أن يجتهد أو يقدم اجتهادا ينظر إليه بعين الإعتبار والإحترام إلا هؤلاء.

وهنا يكون باب الإجتهاد مقصور ومحتكر أيضا على "أهل علم الشرع" أما كل من يمكن وصفه بأنه صحافي أو علماني أو باحث حر أو ناقد أو أي شيء آخر، فلن يكون من حقه بالمرة أن يجتهد حتى في "الأمور المختلف عليها". بل عليه أن يسكت ويلتزم فقط "بالمعلوم من الدين بالضرورة" حتى يطلع عليه "أهل علم الشرع" بالإجتهادات حول "الأمور المختلف عليها.

هكذا تترسخ "ولاية الفقيه" داخل الإسلام السني على يد حازم أبوإسماعيل برئاسته لجمهورية مصر العربية.

جزء الحوار 3:

المحاور: أنت تجزم بأنه لا يمكن أن يوجد خلاف في الأمور الأساسية في الإسلام.

أبوإسماعيل:
لا يوجد عليها أي أختلاف أساسا. بمعنى أني أيضا لا أتوقع بالمرة أن يوجد عليها أي خلاف (حتى في المستقبل) .. وهذه الأمور الأساسية هي فقط وحدها (هي ما يجب أن) تمثل إلزام على كافة الناس. أما الباقي، فهي مساحة حرية. وهي مساحة (ثم يستنشق الهواء) مساحة استنشاق هواء واسعة .. حريات شخصية.

المحاور: لكن البعض سيقول. أنك طالما بدأت تتحكم في طريقة ملبسي .. فماذا يتبقى بعد ..

أبوإسماعيل (يقاطعه): هل أنا الذي بدأت أتحكم؟؟ هذا رب العالمين هو من قال.


التعليق:

من المؤكد هنا أن أبوإسماعيل يعتبر نفسه "متحدث رسمي بإسم رب العالمين". فهو ينكر أن يكون هذا رأيه الشخصي (فريضة الحجاب)، بل يؤكد أن الله (رب العالمين) هو نفسه الذي يفرض هنا وهو الذي يتحدث، وليس أبوإسماعيل.

مسارات خطاب إبوإسماعيل حول الحديث بإسم رب العالمين:

من الواضح هنا أن أبوإسماعيل يقبل أن يعتبر نفسه يتحدث بإسم رب العالمين. أي أنه يعتبر حديثه عن "المعلوم من الدين بالضرورة" (وهو هنا فريضة الحجاب - وليس الصلاة أو الصوم مثلا) .. يعتبر حديثه هذا هو حديث بالنيابة عن "رب العالمين".

هنا يسقط بوإسماعيل في "تأليه الذات" .. لأنه يعتبر تفسيره (الشخصي المتشدد) لآيتين في القرآن (حول ملابس أمهات المؤمنين) هي ليست مجرد تفسير شخصي (ولا قصدت به الآيتين أمهات المؤمنين فقط) .. بل هي بمثابة كشف للحجاب بين ما يقصده الله من آياته وبين ما يقوله لسان أبوإسماعيل كشخص.

فالمسألة هنا ليست مجرد تفسير شخصي بل المسألة (من وجهة نظر أبوإسماعيل) هي أن الله "رب العالمين" نفسه يتحدث من خلال لسان أبوإسماعيل.

وهنا نرى أول الخطوات على طريق ترسيخ سلطة الكهنوت بالإيهام بأن الكهنوت هو وحده المتحدث الرسمي بإسم الله. فليس ما يقوله مجرد تفسيرات شخصية لنصوص دينية، بل هي بالضبط ما يقوله "رب العالمين" نفسه.

جزء الحوار 4:

المحاور:
لكن لو أن الله ترك لي الحرية الشخصية في (الملبس)…

أبوإسماعيل (يقاطعه):
أين هذا؟؟ قل لي أين تجد أن الله ترك لك الحرية الشخصية هنا … فلم يقل أحد بهذا أبدا .. طبعا إلا الناس الذين لا علاقة لهم بالعلم الشرعي.


التعليق:

نجد هنا لدى أبوإسماعيل تصور حاسم يفصل الناس إلى صنفين بخصوص حرية الملبس (وفرض الحجاب):

- ناس لهم علاقة بالعلم الشرعي.
- ناس ليس لهم علاقة بالعلم الشرعي.

ويرى أبوإسماعيل أنه يجب أن تكون اليد العليا لأهل "العلم" الشرعي، بينما لا يجب الإستماع للناس الذين ليس لهم علاقة بالعلم الشرعي.

وهذا تأكيد آخر، على أن الدولة التي يتصورها أبوإسماعيل هي دولة ولاية الفقيه من الناس الذين "لهم علاقة بالعلم الشرعي", والذين سيفرضون هم على بقية الناس من الذين "ليس لهم علاقة بالعلم الشرعي" ما يرونه معلوما من الدين بالضرورة.


جزء الحوار 5:

المحاور:
لكن الله قال: لا إكراه في الدين

أبوإسماعيل (يقاطعه):
في العقيدة نعم. أي. لا تفرض الإسلام على أحد بالعافية

المحاور:
هل مراد الله من كلمة الدين هنا هي فقط العقيدة؟ مثل قوله اليوم أكملت لكم دينكم؟ فهل يتحدث عن العقيدة فقط؟

أبوإسماعيل (يقاطعه):
نعم. كيف؟. لأن هنا المسألة مثل: لا إكراه في دخول الكلية الحربية. فمن يريد أن يدخل الكلية الحربية فليدخل. أما من لا يريد أن يدخل فليس عليه أن يدخل. لكن إذا دخلت الكلية الحربية .. إذن لازم تلبس لبس الكلية الحربية .. ولازم تلتزم بتوقيتات الكلية الحربية .. ولا زم تتمرن تمرينا .. ولازم تسمع كلام الريس القائد


التعليق:

يشبه أبوإسماعيل هنا الدين بأنه مثل الكلية الحربية. وهو ما يشير إلى تصوره هو عن المجتمع المسلم، حيث يشي ذلك بأنه يرى المجتمع المسلم أشبه بالكلية الحربية في الإلتزام بملبس موحد والخضوع لتعليمات القائد.

لكن ما يفوت أبوإسماعيل هنا أن هناك فرق شاسع بين حرية الدخول أو الخروج من الكلية الحربية وبين حرية الدخول والخروج من وإلى الأديان.

فالأديان ليست مجرد مبان أو كليات شبابية أو مهنية نختار الدخول فيها أو الخروج منها مثلما في الكليات الحربية أو كليات الطب.

بل الناس في عصرنا الحالي هم بالفعل داخل أديانهم حتى من قبل أن يولدوا. وليست المسألة أنهم يختاروا الدخول والخروج من الأديان بمحض إرادتهم.
بل المستغرب أن أبوإسماعيل يتكلم بهذه البساطة والتسطيح عن الدخول في الأديان، وكأنما لا يفهم أن الدين ليس مجرد مبنى أو كلية، بل هو ثقافة وتربية يتعلمها كل طفل قبل حتى أن يتعلم كيف يختار أي شيء في حياته.

هنا نحن أمام محاولة لتسطيح الأمور ومحاولة لإقامة تماثلات ومقدمات مغلوطة أساسا بهدف تمرير وتبرير نتائج واستنتاجات هكذا دون منطق سليم ودون مراعاة أو احترام لعقول المشاهدين.


جزء الحوار 6:

المحاور:
لكن هنا مشكلة .. فهل أقول لمن تريد ألا تلتزم بالحجاب مثلا أنها لابد أن تغير العقيدة مثلا (أي أن تغير دينها)

أبو إسماعيل:
بالضبط كده. برافوا عليك.

المحاور (يبتسم):
لكن ألا تجد هنا قدر من الصعوبة؟؟

أبوإسماعيل:
أي صعوبة؟؟ هذا هو الإسلام؟؟ هل هذه السيدة تريد أن تكون مسلمة (ومنفلتة) .. أقصد لا تخضع لكلام الله. أريدهم فقط أن يقولوا .. أن تفصح (عن هذا الطلب). هل تعلم حضرتك: لو أنهم شرفاء (في المصارحة وما يريدون)؟ أنا لا أطلب من أمثال هؤلاء سوى شيء واحد فقط: أن يكون شريفا.


التعليق:

هنا يقترب أبوإسماعيل دون خجل ودون وجل من تكفير غير المحجبات .. بل يوافق المحاور (برافوا. بالضبط كده) على أن يدعوهن لترك الإسلام.

وهذا بالطبع حكم تكفيري متسرع. لكنه يدخل ضمن الممارسات التكفيرية المعهودة من المتشددين.


جزء الحوار 7:

المحاور:
أنا لا أقصد. أنا فقط أنقل لك ما يقال.

أبوإسماعيل:
أنا فاهم والله. وأنا مبسوط من الأسئلة والمشاغبة وسعيد جدا بها.
المحاور يبتسم.

ثم يخرج أبوإسماعيل عن مسار الحوار إلى موضع مختلف تماما ليحكي عن موقف هلامي جرى له

ثم يعود ليقول:
المهم. فهي المسألة ببساطة. أنا مسلمة. ربنا قال لي أعملي كذا. لكن أنا أريد بقا أني ألاقي (أجد) طريقة أخرج بها من الوسط (المنتصف بين هذين)، بحيث أظل مسلمة، ولكن لا أخضع لكلام ربنا. وفعلا هناك طريقة، وهي: العصيان. أنها تصبح عاصية. لا مشكلة في ذلك. واحدة مسلمة وعاصية. ماشي. مش لازم تكفر. مثل مسلم ولا يصلي. يصبح عاصي. لا مشكلة


التعليق:

هنا يتراجع أبوإسماعيل ببساطة عن حكمه التكفيري أعلاه. ويخفض الدرجة من التكفير إلى المعصية. وهو يفعل هذا دون أن يشعر بأنه يتوجب عليه تصحيح ما قاله منذ ثواني في تكفير غير المحجبات. بل لا يلتفت للأمر أساسا.

وهنا نبدأ في فهم طريقة أبوإسماعيل في الحوار.

فهو يبدأ بإصدار أحكام تكفيرية ومتشددة، كما حدث أعلاه (تكفير غير المحجبات). فكان هذا هو أول رد فعل له.
ولكنه عندما يشعر بأنه ليس الآن في سياق تمكن يسمح له بإصدار هذا الحكم بالتكفير (والذي خرج منه بكل تلقائية في البداية) .. فإنه ينتقل إلى تخفيف هذا الحكم من التكفير إلى "التفسيق" .. وبهذا يكون قد قلل من حدة خطابه. طبعا لأنه ما زال مجرد مرشح للرئاسة، وهو يعلم أن الناس تزن خطابه الآن، فلا مشكلة في أن يهدئ من روعهم.
لكن الثابت خلال هذه الثواني البسيطة من الحوار هو:

- أن حكم التكفير كان أول ما خطر على بال حازم أبوإسماعيل.
- أن تخفيف "التكفير" إلى "التفسيق"، قد أتى لحازم أبوإسماعيل كخطوة ثانية ربما تهدف إلى تهدئة روع الناخبين الذين يريد أصواتهم لينجح في إنتخابات الرئاسة.

إذاً، فهل من الصعب علينا أن نتوقع ما هي الأحكام الأولى التلقائية التي سيتوصل إليها حازم أبوإسماعيل عندما يكون على سدة الرئاسة في مصر، ولا يصبح مسئولا أمام الناخبين الذين وضعوه في منصبه؟

وحتى لو توصل إلى أحكام تنفي أحاكمه الأولى التلقائية المتشددة، وتوصل إلى أحكام ثانية أخف منها، فهل سيلفت النظر إلى ذلك؟ هل سيقر بأنه أخطأ في أحكامه الأولى التلقائية المتشددة؟؟

لكن يبقى أن تنزيل العقوبة (على غير المحجبات) قد حدث من التكفير إلى "التفسيق" أو أنهن عاصيات. ويبقى أن نعرف ما هي حقوق السيدات العاصيات في إسلام حازم أبوإسماعيل. هل لهن حقوق مواطنة كاملة أم لا؟ وما معنى أنهن "عاصيات"؟؟ كيف ستتصرف الدولة مع العاصيات؟؟

واضح أن خطاب حازم أبوإسماعيل يقيم حد فاصل بين مواطن صالح وبين موطن عاصي.

لذا يتبقى لنا أن نفهم كيف سيعامل (كرئيس) المواطنين العاصيين. هل مثلما يحدث معهم في إيران أيضا؟


جزء الحوار 8:

المحاور:
أنا أتكلم عن فكرة: أن يقوم الحاكم بفرض أداء الفريضة الدينية على المواطنين.

أبوإسماعيل:
ما المشكلة. أنت حضرتك أهو كمثال. أنت صاحب قناة التحرير (الفضائية) مثلا. هل تسمح لأحد بأن يعمل في قناة التحرير، وأن يتمتع في نفس الوقت بحريته الشخصية، بحيث لا يلتزم بالقواعد وتوقيتات الحضور مثلا.

المحاور:
نحن نطبق الديمقراطية في القناة.

أبوإسماعيل (ساخرا):
ديمقراطية. طيب ..

ثم يتوجه أبوإسماعيل للمصور ويقول:
لو سمحت إطفي الكاميرا وأذهب (روح) خلاص. فلن نعمل ولن نصور. فصاحب القناة يقول أن لديكم ديمقراطية. هيا أقطعوا البث. وأطفئوا الإضاءة.

المحاور (ضاحكا):
اللي عايز يروح .. يروح. لكن ابقى أنت معي


التعليق:

يتضح من هذا الجزء من الحوار أن فهم حازم أبو إسماعيل للديمقراطية .. هو أنها نوع من الفوضى غير الملتزمة (قال للمصور إطفي الكاميرا وروح .. واللي عاوز يروح يروح).

وهو بهذا يعبر عن فهمه هو للديمقراطية على أنها مجرد فوضى

الغريب أنه استخدم هذا المثال الخاطئ (في فهم الديمقراطية) ليعود إلى الجدال (من خلال دحض المثال الذي ابتكره) حول الفرق بين الفوضى والديمقراطية من خلال الإيحاء بأن الديمقراطية هي الفوضى وبالتالي تصبح غير مطلوبة للمجتمع. وينسى أنه هو صاحب المثال وأنه هو من أبتكر المثال. فهو يصور الديمقراطية بطريقة خاطئة ليقول حولها ما يقول.

وهذا نوع من ممارسة "الفهلوة" في الحوار للوصول إلى نتائج محددة سلفا من خلال مقدمات وفرضيات وأمثلة خاطئة.


جزء الحوار 9:

حازم أبوإسماعيل:
شفت (أرأيت). لقد اختار الموظف (في القناة) أن يأتي إلى هنا بمزاجه. (لذا لابد أن يلتزم بما يفرضه عليه هذا الإختيار). مثل هذا أن يقول لك أحدهم: أنا مسلم. لكن لا أريد أن أخضع لشرع الله. وهنا نقول له ماشي لكنك ستكون بذلك عاصي. وعندها ستأتي إلى المجتمع لتفسد هدأته وطهره. وبهذا تكون هنا ترتكب جريمة (اسمع بقا كده) اجتماعية. فأنت بهذا خرجت من حياتك الشخصية إلى أنك أصبحت ترتكب جريمة إجتماعية. لكن هنا (بقا) ماذا يقول الإسلام. أنت تريد ألا تصلي. وأنت تريد أن تكفر. ماشي. أعمل ما تريده (مع نفسك). لكن عندما تخرج للمجتمع فعليك أن تلتزم بالأعراف الإجتماعية. بحيث لا تتحول أنت إلى سبب لتشجيع الإنحراف. مثلا إذا وجدت شخص تشرب الخمر، فإنه سيفعل مثلك اقتداء بك. ومثل هذا عندما يفطر أحدهم في نهار رمضان أو عندما ينادى لصلاة الجمعة بينما هو لا يصلي. فهذا يشيع المعاصي.

تفكيك طريقة حوار إبوإسماعيل:

هنا يتحدث أبوإسماعيل عن "خطر" الفاسق" أو "العاصي" على المجتمع. فهو ينظر للمسألة من إطار ديني فقط. حتى إن جميع الأمثلة التي يتي بها هي دينية سلفية تماما، من مثل: شرب الخمر – عدم إرتداء الحجاب – عدم وجود لحية.

ولا يوجد مثال واحد إلا وله هذا المغزى السلفي الذي يعود إلى الزمن العتيق. وتكاد لا توجد أي أمثلة على حالات أو تصرفات سياسية يستشهد بها في حديثه.

بل أن أغلب حديثه هو عن الخمر والميسر والزنا واللحى. وهذه أمور بعيدة تماما عن الحياة السياسية التي من المفترض أنه يرشح نفسه ليتسنم قمتها. فهو لا يرشح نفسه لرئاسة مسجد. بل يرشح نفسه لرئاسة دولة. إلا أن كافة استشهاداته هي دينية سلفية غير معاصرة بالمرة. فما السبب؟

السبب هو أن هذه الأمثلة هي من المادة الخام التي يمتلئ بها عقل أبوإسماعيل الوعظي. فهو يعمل في مجال الوعظ الديني وليس في مجال السياسية. لذا فإن الأمثلة التي يضربها هي أمثلة وعظية مستقرة. وهي تتميز لذلك بأنها متفق عليها ويسهل تحويرها واستغلالها للحصول على تأييد السامعين. فكما يسأل هو: هل تجد أحدا يقول لك أن الزنا حرام؟
هذه أسئلة سهلة تطل برأسها من الماضي السحيق الذي يسهل الإتفاق معه، وهي تغلق تماما عقل المشاهد أو المحاور أو الناقد، لأنها أمثلة تنتمي إلى عهد الطفولة السلفي، لا إلى عهد النضج المعاصر.


من الواضح أن حازم أبوإسماعيل لديه طريقة في الحوار تنتقل من التلقائية بإصدار الأحكام الدينية (الغير سياسية) على الجميع، ثم يعود بعد ذلك إلى تخفيف هذه الأحكام إلى التفسيق والاتهام بالعصيان ومن خلال الحديث عن الحرية.

وهو بهذا يبدأ بالتسرع في إصدار الحكم الديني الأول المتشدد (بتكفير الآخر المختلف) .. ثم يعود بعد ذلك خلال ثوان ليخفف الحكم المتشدد من التكفير إلى التفسيق .. ثم يخوض في الحديث عن المجتمع المعاصر .. والكلية الحربية وشرب الخمر وما إلى ذلك.

فهنا نجد ثلاث حركات في حوار أبوإسماعيل:

- حركة تبدأ وتنطلق من من الماضي السلفي السحيق أولا. وهي تلك التي يصدر منها أحاكمه المتشددة

- ثم حركة مراجعة تخفيفية لا تلغي (ولا تنسخ) الحكم المتشدد. ولكنها تبدو وكأنها تتعايش بسلام مع الحكم المتشدد. بدليل أنه لا يعتذر عن خطأ أو تسرع شاب الحكم المتشدد الأول .. بل ينتقل من التشدد إلى التخفيف بشكل سلسل دون أن يلفت الأنظار - بل ربما هو نفسه لا يدري أنه قام بإنتقال من هذا إلى ذاك.

- ثم حالة ثالثة نجده يتحدث فيها عن الحرية بمعناه السلفي المتمثل في الإنعزال عن المجتمع. فيصبح للمواطن الحرية في فعل ما يشاء طالما كان خارج إطار المجتمع. أي أنه له أن يقوم بأي شيء طالما كان في السر. وهو ما يعزل المواطن "الفاسق" عن المجتمع ويمنعه من "إفساد" طهر المجتمع.

وبهذا فإن حازم أبوإسماعيل يجيد ويبرع في الإنتقال والتسلل الزئبقي بين هذه الحالات الثلاث المختلفة بالتدرج من الأولى إلى الثانية إلى الثالثة.

وهو خلال هذا التدرج والتسلل والإنسراب تراه يجذب إليه الفئات الثلاثة معا وكأنما يخاطبهم معا ويحشدهم أصواتهم من خلال إتباع استراتيجية التسلل الثلاثي هذه.

فالحالات الثلاث التي ينتقل منها أبوإسماعيل بكل تلقائية زئبقية وسلاسة وبراعة هي:

- حالة التشدد السلفي الأولى التلقائية التي تعتريه، وهي تجذب إليه المتشددين. لكن نوعية محددة من المتشددين وهم أؤلئك الطامحين إلى منصب سياسي في الدولة.
- حالة التخفف من "التكفير" إلى "التفسيق"، التي تأتيه تالياً، وهي تجذب إليه من يرغبون في الإلتزام الديني، لكن يقصرون عنه، وبالتالي يشعرون بقدر من الذنب النفسي نتيجة لهذا التقصير.
- حالة السلفية الإنعزالية المهاجرة، والتي تأتيه ثالثاً، وفيها يجذب إليه من يرغبون في العزلة عن المجتمع. ومن يرغبون في الإحتفاظ بالشكليات في التعامل مع الخارج، بينما يحتفظون بلأنفسهم بالفساد في الداخل. وبهذا فهم أقرب إلى الإنفصام النفسي بين الخارج وبين الداخل. فهم يرون أنهم مذنبون في الداخل، ولكنهم يريدون الظهور بمظهر المحافظين على المظاهر الدينية في الخارج.

وأنا هنا أحلل وأصف طريقة واستراتيجية حازم أبوإسماعيل دون أن أقصد أنه ربما يكون متعمدا لإتباع هذه الطريقة. بل ربما تكون هذه الطريقة تأتيه دون تعمد، لكن من خلال خبرته الطويلة في العمل الوعظي والدعوي، بحيث تأصلت لديه دون أن يعيها أو يكتسبها متعمدا.

قد يقول معترض أن تصويري لاجتذاب أبوإسماعيل للفئة الأولى من المتشدددين ربما يكون قاصرا أو غير مفصل كما في اجتذابه للفئتين التاليتين. وهنا أظن أن ما يعوض ذلك هو احتفاظ أبوإسماعيل بلحية تكاد تكون الأطول بين كافة المرشحين. وهو سبب كاف لبعض المتشددين للإنجذاب إليه.

الدائرة الزئبقية:

من خلال الإنتقال الجدالي الزئبقي الدائري الذي يمارسه حازم أبوإسماعيل بين الحالات الثلاث أعلاه يتمكن من قفل الدائرة الخطابية، بشكل يروق لفئات مختلفة من الناخبين.

وتكمن خطورة الدائرة الزئبقية لدى حازم أبوإسماعيل في أنها تنطلي على جمهور من محبي الإستماع للجدل والثرثرة ممن لا يمكنهم تمييز أو استحساس وجود تناقض أو تضارب لدى المتحدث الواحد عند إنتقاله بين ثلاث مراحل مختلفة وغير متجانسة، طالما كانت الأمثلة المضروبة لهم هي من قبيل التنويم الجدالي الوعظي العتيق.

فطالما تكلم حول شرب الخمر مثلا، فهذه حكمه معروف وينتمي لعصر مححد، لذا فإنه لا توجد أي مشكلة في تنزيلها على الواقع الحالي ثم استخراج استنتاجات متناقضة منها بحيث ينتمي بعضها للدين والآخر للسياسة والثالث للعزلة والحرية الشخصية. فلا تناقض هنا بالمرة لدى العقليات العاجزة عن فهم الإنفصالات بين مجالات الدين والسياسة. فهم يرون الإتصالات الموهومة فقط ثم يعجزون عن رؤية أي إنفصالات. بحيث أي الأحكام التي يطلقها أو يستحضرها أبوإسماعيل من أمثلته العتيقة لابد أن تصبح صحيحة في كافة المجالات (سياسية ودينية) لأن صحتها تتأسس على أساس مطلق دون أن يحكمها سياق محدد. فهي أمثلة طفولية لا يمكن معارضتها.

وهنا يعتمد حازم أبوإسماعيل على آذانهم المستمعين الطربية بأكثر مما يعتمد على عقولهم النقدية.

يراوح حازم أبوإسماعيل في خطابه بين التشدد وبين اللطف .. فهو له مظهر متدين لكنه يتكلم عن الحرية والثورة على الحاكم (طبعا لأنه ليس بعد في موقع ا لحاكم) .. وهو يراوح بين التحرر الليبرالي وبين الإحتساب الفقهي بشكل مستمر زئبقي ودائري دون أن يستقر على أحدهما دون الآخر. بل كلما حاصره المحاور عند أحدها إنتقل على الفور إلى الآخر .. لكن بعد أن يكون قد أفرغ حمولته في الأولى ليتمكن من تحميل حمولة مختلفة في الثانية .. وهكذا.

هذا المزيج المداور الزئبقي الذي يبدو في ذات الوقت غير زئبقي وحاسم (فهل هناك رجل دين متشدد يمكن أن يكون زئبقي ومداور. مستحيل طبعا؟ هكذا يظنون)

هذا النموذج الدوراني يمكن أن يتمتع بقابلية كبيرة لدى جمهور محدد من المصريين .. الذين يتطلعون إلى الحرية بمعناها الغربي الليبرالي .. ولكنهم في نفس الوقت يتطلعون أيضا إلى التدين بمعناه السلفي.

وهنا تنشأ لديهم إزدواجية متوافقة مع إزداوجية أبوإسماعيل ..
فهم قلقون. يتجاذبهم الماضي والمستقبل دوما – لكن مع نزوع أكبر نحو الماضي الهوياتي. إلا أنهم يريدون أيضا المستقبل العصري – لكن بشكل أقل.

هذا الجمهور يتميز بنوع من إزدواج الشخصية والعجز عن حسم انفصام الشخصية "المتدينة الليبرالية" في ذات الوقت.

حازم أبوإسماعيل يلبس بذلة غربية ويتكلم في الشريعة ويكفر غير المحجبات .. ويربي لحيته ولكنه أيضا ذو بشرة لامعة ربما بفعل كريم غربي (ليتميز بقوة عن بقية المتدينين الذين يستنكرون مثل هذه اللمعة)


الإختبار النهائي:

لكن في النهاية يمكن فهم إلى أين يسير خطاب حازم أبوإسماعيل. وذلك من خلال اختبار بسيط:

استمع لأي حديث من أحاديث حازم أبوإسماعيل.

ثم حاول أن تحدد بالضبط رأيه النهائي في أي أمر مما أثير في الحوار (حجاب – صلاة – خمر – تصنيع – علاقات مع إسرائيل وأمريكا).

في النهاية أظن أنه بمقدوري أن أتحدى أي شخص أطلع على أراء حازم أبو إسماعيل في أي شأن، أن يقرر بالضبط ما هو حكمه المحدد في أي شيء أو أي أمر.

في الغالب لن تجد له بالمرة أي رأي نهائي محدد حول أي أمر. لماذا؟

لأن خطابه يقوم على دوران زئبقي يقدم "خلطبيطة عبثية" من الحرية الممزوجة بالسلفية .. والدولة الممزوجة بالتدين.

وهنا أنا لا أعني أنه لا يقول شيئا .. بل أقول أنه يدور ويلف وينتقل بسلاسة بين الحالات الثلاث التي شرحتها أعلاه، بحيث يخرج المتبع بإحساس عبثي كما لو كان لم يحصل على رأي واضح .. بل فقط رأي مراوغ كالزئبق يصعب الإمساك به وتحديده في موقع، بحيث أن ما نحصل عليه في النهاية لا يمكن إعتباره خطاب في الإسلام السياسي، بل خطاب في الإسلام المراوغ – لأنه يقوم على المراوغة أكثر ما يقوم على السياسة.

لكن من يعلم ربما كانت المراوغة دليل على تحسس الإسلام السياسي من وجود فئات وطبقات مختلفة تتوخى خطاب جديد. لكن هذا الخطاب الجديد ينبغي ألا يعمل فقط في نطاق الشكليات والمراوغة، بل عليه أن يجري تعديلات وتغييرات جذرية في داخل لبه، وليس فقط في أسلوبه في الحوار.

فالتغيير المطلوب في الإسلام السياسي لا يجب أن يقتصر عل المراوغة التي ربما يعجز صاحبها نفسه عن فهم ما يقول فتجده يسقط في تناقضات شكلية مع إبقائه على نفس المشكلات الجوهرية التي تعاني منها كافة الخطابات الدينية في اللب. بل يجب أن يكون التغيير الذي يطال الخطاب السياسي الديني من العمق بحيث يتمتع بالصراحة والوضوح وليس بالمراوغة والزئبقية التي تصل به إلى درجة التفكك والتضارب الداخلي.