قراءة في مفهوم الثورة ...


باسم سليمان
2011 / 8 / 7 - 15:46     

لم تعد قصص الثورات، التي طالما خبرناها في كتب التاريخ وقد تفرَّدت المناهج التعليمية السورية في تدريسها من بين معظم باقي الدول العربية، تلقى ذاك الوهج الذي اختزلته الأذهان عبر عقود خلت؛ حيث افتقدت الصورة المشرقة لمعنى الثورة إلى الكثير من معانيها الوجدانية، والتي احتوت في طياتها العديد من المشاهد والحكايات الآسرة والجاذبة حول نشاط وأفعال وقيم وأفكار وأحاديث لطالما قرأناها في قصص الثورات، وبات مصطلح الثورة يطلق على عوائنه دون أن يستوفي المعايير التي خبرناها في التاريخ.
إنَّ الثورة في المحصلة تعني الوقوف في مواجهة من يسلب الحرية، والكفاح من أجل استعادتها؛ أي أنَّ هناك هدف سام يتمثّل في تحقيق حرية المجتمعات. وتحصيل الحرية هو، بطبيعة الحال، فعل إنساني راق، لايمكن أن يلتقي، بأيّ حال من الأحوال، مع أيّ فعل آخر مناف للقيم الإنسانية؛ مثل عدم الاعتراف بالآخر المختلف، ورفض الحوار معه، واستخدام العنف بذريعة الكفاح من أجل تحقيق قيمة الحرية.
ولاشك في أنَّ الحديث عن ثورات في مواجهة استعمار خارجي، يختلف عنه لدى الحديث عن ثورات في مواجهة واقع سياسي واقتصادي في مجتمع ما يراد تغييره، من أجل الوصول إلى واقع جديد يحقق فيه أفراد المجتمع مبدأ العدالة الاجتماعية، ويتيح مشاركة الجميع في بناء المجتمع ورسم مستقبله. ومن الطبيعي القول إنَّ أدوات الثورة ولغتها وثقافتها تتغيَّر، عندما يتصل الأمر بتغيير واقع المجتمعات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يعد مقبولاً أن يكون العنف وسيلة تستخدم من أجل تحقيق أهداف سياسية لتغيير الواقع؛ لأنَّ العنف عندها سوف يستخدم ضدّ الآخر الشريك في المجتمع، والذي له حقّ الاختلاف في الطريقة والمنهج، الذي يرى أنه يجب اتباعه من أجل تغيير الواقع. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فإنَّ الثورة هنا لا يمكن أن تكون ضدّ الآخر المختلف، بل يجب أن تصبح ثورة المختلفين معاً ضد الواقع؛ ما يعني أنه ينبغي على جميع أفراد المجتمع، المختلفين بانتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية والثقافية، أن يتحاوروا من أجل الوصول إلى نقاط توافق مشتركة لرسم مستقبل الوطن والمجتمع. وبالتالي، على جميع الأطراف أن تتنازل عن عصبياتها الفكرية والأيديولوجية والثقافية، من أجل عبور مرحلة راهنة قائمة إلى مرحلة أخرى تلبّي التطلعات، التي يتوافق عليها الجميع. ولايمكن، في حال من الأحوال، أن يكون المستقبل مرهوناً برؤية فريق دون الآخر. ولن يتحقق الاستئثار برسم ملامح الواقع المجتمعي للوطن، من قبل فئة دون أخرى، إلا عبر الاستقواء أو استخدام العنف والضغط والقوة؛ ما لايمكن أن يستوي ويستقيم ويوصلنا إلى نتائج مجدية، بل سيعيدنا إلى المربع الأول، حيث ستزداد سلبية الواقع، الذي نعمل أساساً على تغييره، من أجل الارتقاء بالحالة المعيشية لجميع أفراد المجتمع على شتى الصعد. وفي المحصلة، ليس هناك وسيلة لكسر تلك الحلقة المفرغة، التي سوف تعصف بالمجتمع، دون الوصول إلى النتيجة المرجوة بتغيير الواقع تغييراً جذرياً، إلا عبر الحوار الوطني الشامل، الذي ينبغي ألا توضع فيه شروط على أطرافه قبل أن يبدأ، ليصبح الحوار المنصة التي تُطرح فيها وعبرها نقاط الاختلاف؛ حيث يجري الوصول إلى صيغة تتلاقى فيها تلك الأطراف حول نقاط تفاهم مشتركة تشكّل صيغة تفاهم وطنية جامعة، لا يجري فيها إملاءات ولا إقصاءات ولا استئثار، ولا يشعر فيها أيّ طرف من الأطراف أنه مُغيّب. ومن الطبيعي والمنطقي الإقرار بأنه ليس ثمة صيغة تفاهم وطني، ترتقي إلى سويّة ثورة على واقع من أجل المجتمع ولمصلحته، يمكنها أن تلبّي كل آمال وطموحات جميع الأطراف؛ فطبيعة المشاركة تقتضي إنجاز معادلة تتحقق فيها جزئياً إرادة كلّ الأطراف، ولا يكون فيها تغييب كلي لإرادة أيّ من الأطراف.
وفي سياق قراءة في مفهوم الثورة على واقع سياسي واجتماعي قائم في المجتمع، لابدَّ من الإشارة إلى أنَّ من أهم المساحات التي ينبغي أن تشكل ساحة لهذا التغيير هي العقول، حيث الثورة الثقافية التي ينبغي أن يجري من خلالها التغيير في طريقة وأسلوب التواصل مع الآخر، عبر الاعتراف به والإقرار بشراكته مهما اتسعت مساحات الاختلاف وتباينت الرؤى بين الأطراف، ما دامت الغاية في المحصلة هي تحقيق مصلحة المجتمع. كما ينبغي أن ينتفي أيّ نشاط أو فعل يجري فيه الاستعانة بأدوات غير وطنية مهما تباينت أشكالها ومعانيها ومفاهيمها، من أجل تحصين موقع أحد الأطراف في مواجهة طرف آخر؛ لأنَّ ذلك، بالإضافة إلى كونه فعلاً منافياً للقيم الوطنية، سوف لن يكون مجدياً في تحقيق الغاية المنشودة بإسهام جميع الإرادات في رسم مستقبل المجتمع.. ولا سبيل لتحقيق إسهام إرادات جميع الأطراف في صيغة تغيير وطنية شاملة إلا عبر انخراط تلك الأطراف في الحوار الوطني الشامل وإسهامها في الحراك السياسي الذي انطلقت عجلته اسهاما فعالا ومجديا دون اي تلكؤ كي لايفوت
أي من الأطراف فرصة المشاركة في عملية البناء الذي كلما اتسعت رقعة المشاركة فيه كلما واكبت صورة مستقبل الوطن تطلعات المجتمع .