غريزة البقاء والتوريث المعرفي


عباس يونس العنزي
2011 / 8 / 2 - 12:19     


في قول لبرودون أورده ماركس في بؤس الفلسفة جاء ما يلي ( ليس صحيحا أن نقول أن شيئا ما يظهر وان شيئا ما ينتج في الحضارة كما في الكون ، نرى أن كل شيء وضع في الوجود منذ الأبدية) وذلك مدعاة للتخلي عن كل محاولات التعرف التفصيلي على سير التطور البشري والكوني ، لكن نحن مجبرون وبقوة الأبدية ذاتها على عدم الانصياع لذلك .
لعل السؤال الأخطر الذي واجه نظرية قتل الأب الفرويدية هو كيف ولد الشعور بالإثم ومن ثم الإنتقال من المحرمات الى العقد الاجتماعي ؟ ولا شك أن الإجابة المتأنية على هذا السؤال ستقدم فهما جيدا للتاريخ والقديم منه بشكل خاص .
بدأً لا يمكن الجزم أن الوعي الانساني تمكن من تكوين القدرة على الشعور بالذنب في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الانسانية ، وهذا المبحث بحاجة لمعالجات عميقة من قبل علماء متخصصين بالإنسان والتاريخ الفعلي لتطور أعضائه ، لكن لابأس بإجراء مناقشات عامة تحاول تفسير كيفية نشوء ذلك الشعور .
الشعور بالذنب ( كونه موقف نفسي مرتبط بحدث ما ) هو أساس ما حصل لا حقا من أعراف واتفاقات جاءت بمحرمات وممنوعات كثيرة مما شكل الوضع الاجتماعي للمجتمع البدائي ما قبل الطبقي لكن هل كان الانسان وعلى حال القطيع قادرا على تأليب عواطفه بما يمكنه من تكوين شعور داخلي يؤنبه على فعل اقترفه ؟
يرى فرويد أن هناك أسباب لولادة التفاهم بين أفراد العشيرة البدائية الثائرة على سلطة الأب وذكر ( 1- نشوء صراعات بين الأخوة ادت في النهاية الى التأكد من عدم جدوى تلك الصراعات .
2 - تأثير ذكرى قتل الأب ونتائج صراعاتهم .
3 - تأثير الروابط العاطفية التي ربطت الاخوة فترة نفيهم ) .
هذه هي العناصر الثلاثة التي أدت الى نوع من التفاهم أو نوع من العقد الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي القائم على كبح الغرائز وإنشاء مؤسسات ذات طابع مقدس وتحريم الزواج الداخلي وحب المحارم .
إن أثر عملية قتل الأب والتعرض لمخاطر الموت في تلك المرحلة الابتدائية لتطور الدماغ البشري وعبر خوارزمية التوريث الفعالة التي امتلكها البشر قد وجدت طريقها الى البناء الهندسي - الحركي للدماغ وكذلك الى التركيب الجيني المسؤول عن نقل شكل الدماغ وبنائه الحركي للأجيال المتعاقبة ، وإذا أضيفت التجربة الشخصية للجميع وتداخلها في عملية بناء الدماغ فيمكننا بعد ذلك أن نخمن امكانية ولادة او تكون الشعور بالذنب او الأثم .
ولا يفوتنا ان نذكر أن عمر الإنسان البدائي بكامله إنما يمثل السنوات الثلاث الأولى من عمر االطفل في زمننا الحالي ، أي أن معظم الأحداث المتعلقة بالحياة والاستمرار هي في الحقيقة تجد طريقها الى خوارزمية التوريث لإنجاز تعديل وتطوير دماغي ، ومن المهم أن نبين بأن كل جيل هو متضمن بكامله في البناء العقلي للأجيال التالية وأن عملية النضوج دائمة ومستمرة ولا تنقطع أبدا .
إن ما يجب الإنتباه إليه كون كل شعور بالذنب أو أي موقف أخلاقي آخر يتكون بعد استساغة الفعل المعني زمنا سبق تكونه وإن متطلبات البقاء بالدرجة الكلية وهي التي دفعت لنشوء علاقات قائمة على التهديد والخوف من الموت حالت دون الاستمرار بارتكاب الفعل ، تلك العلاقات تنذر بتهديد البقاء الفردي للإنسان مما يعد حدثا خطيرا سيجد طريقه الى منظومة التوريث التي ستفعل في التركيب الهندسي - الحركي للدماغ ليتحول الخوف الى قيمة داخلية تمنع تكرار الفعل وتتبرأ مما حدث في الماضي بصيغة تمثيلية ( الوليمة الطوطمية مثلا ) أو بتثبيت الرضة بمعناها الفرويدي أي إعادة الحياة الواقعية للرضة من جديد .
أن ذلك هو تفسير لمفهوم الرضة التي يشير إليها فرويد في أكثر من مبحث ، يقول سيغموند فرويد ( الرضات هي الانطباعات التي يكتسبها الانسان منذ نعومة أظفاره ثم لا يلبث أن ينساها فيما بعد ) ويضيف فرويد ( إن العصاب لم يكتسب اكتسابا إنما تطور بتؤدة ) .
ويمكننا أن نعد قتل الأب الذي تكرر ولمدى زمني طويل قد شكل رضة نفسية لدى الإنسان البدائي ؛ حيث أن تطور أجيال هذا الإنسان قد اكتسبت وعرفت عمليا ومن خلال الأحداث الجسيمة التي صحبت عملية القتل وما بعده بأن ما حصل هو تهديد خطير للحياة وذلك كفيل بنقل هذا الاستنتاج الى جهاز التوريث الذي بدوره دفع الدماغ لتجاوز هذا الفعل وآثاره طبقا لما يقدمه سيغموند فرويد ( إن كامل حياة الإنسان البدائي العقلية تعادل نمو طفل الى السنة الثالثة أو الرابعة ) وهذه الرضات وفق هذا الفهم إنما تحدث أثرا بنيويا في جهاز التوريث ليتشكل الدماغ عبر الأجيال هندسيا - حركيا وهو يحمل الاستعداد الطبيعي الملائم لرد فعل تجاه تكرار الفعل الأصلي أو ذكراه حيث يكون رد الفعل ذاك هو ما يسميه فرويد بالعصاب ، وإذا شئنا التعميم فإن كل المواقف والمشاعر الإنسانية الأخلاقية هي عصابات ( أعصبة ) أو أنواع مختلفة للعصابات .
إن قتل الأب وما تلاه من صراعات وتحول الابناء الى آباء وتعرضهم لمصير الأب الكبير شكل فعلا خطيرا يتهدد الحياة مما دفع جهاز التوريث لنقل الاستعداد الرافض والمضاد لهذا التهديد والمتمثل ببناء موقف عقلي ( هو آلية عاطفية) يمتنع فيها الفرد من ارتكاب الجريمة القديمة وما يعنيه ذلك من اتفاقات اجتماعية ( أعراف أو قوانين) ترسم صيغة اجتماعية سلمية تكفل الحياة والحقوق للجميع وفق مبدأ المشاركة .
هنا نشير الى مفهوم ( الآلية العاطفية ) ونحاول أن نفصل المقصود به وكيفية تكونه حيث أن مسألة الشعور بالذنب تقع في إطاره حتما .
إن كل الآليات العاطفية تكونت بترابط كامل مع غريزة البقاء وأن ما يتوجب الانتباه له كون جميع الابناء في البدء يجلون آباءهم ويوقرونهم ويحبونهم فالاب هو الحامي وهو الذي يجلب متطلبات العيش وهو الذي يمنع الاولاد من أن يكونوا ضحايا للأعداء وبهذا يكون الاب في التكوين الدماغي موضع التعلق به ولنقل بتعبير آخر محبوب الابناء ، لكن تطور الافراد وتقدمهم بالعمر ونضوج غرائزهم جعلهم في موقع التنافس العملي مع الاب فاصطدمت مشاعر التعلق بالأب ( المشاعر الطفولية ) مع المتطلبات الجديدة للأشخاص وتولد صراع معقد يتضمن مشاعر ومواقف معقدة متضاربة ، ويجب ان لا ننسى أن العقل الأبوي يتضمن أيضا أبعاد التعلق بالأطفال وحمايتهم لكن تطور الاحداث وفق النسق الموضح نقل الأب الى محل معاد لأبنائه .
إن فرويد يقترح منطقة عقلية أسماها الـ ( هذا ) حيث ينتمي المكبوت إليها ويعمل وفق آلياتها ، في هذه المنطقة أيضا تضطرب وتصطرع الغرائز الجنسية البدائية ويبقى كل ما يدور فيها من تطورات وسيرورات لا شعوريا .
والملاحظة المهمة هي أن فرويد يقر بوجود منطقة تم توريثها طبيعيا وأمكن ( وهذا جوهري للغاية ) أن يضاف إليها بحكم التجربة الوجودية الصعبة حيث تتحول هذه التجربة الى جزء من المنظومة الدماغية الموروثة وتتفاعل معها كونها جزء أصيل منها ، وهذا ما أشرنا إليه في موضوع التطور والوراثة ، وبالتالي فإن التكوين الجديد الناشيء من القديم الموروث والجديد المكتسب والمتحول الى صيغة دماغية بنيوية سيتم توريثه الى الجيل المقبل .
إن فرويد يميز بين منطقة الـ (هذا ) اللاشعورية وجزء من منطقة الـ ( انا ) الماقبل شعورية فهناك فارق بين لا شعوري وبين ما قبل الشعور ، فالأول يتفاعل مع الغرائز وينتقل وراثيا ويتحكم بالاستجابات الغرائزية عبر منظومة عصبية متخصصة لا يسيطر عليها الشعور ولا يمكن استحضارها أو مناقشتها أو التحكم بها ، بينما ما قبل الشعور هو الأثر الذي تتركه التجربة الممثلة دماغيا على السلوك والمشاعر ويكون بالإمكان استحضارها أو مناقشتها أو التحكم بها وتؤلف ما يعرف بالشخصية .
إن فرويد يشير بوضوح ( إن الطبوغرافيا النفسية على النحو الذي وصفناها به لا ضلع لها بتشريح الدماغ ولا تمسه إلا من بعيد وفي نقطة واحدة محددة ) وهنا لنا اختلاف مع هذه النظرة إذ أن الطوبوغرافيا النفسية لها علاقة شديدة بتشريح الدماغ وصيغ عمله ( هنسيا وحركيا ) ووفق العرض الذي تضمنته الأفكار السابقة .
ولو أن الطوبوغرافيا النفسية لا تتصل بالتركيب الدماغي لما أمكن التطور مطلقا ولما تغيرت الاستعدادات العقلية من جيل الى جيل .وكذلك فإن التغيير الذي يحصل على ما سماها فرويد بمنطقة الـ ( هي ) وهي بالحقيقة جزء من التركيب الدماغي هو عكس لإستنتاجه السابق المشار إليه ولولا حصول تغيير بنيوي على الدماغ ( أي في منطقة الـ (هي ) لما أمكن لجهاز التوريث أن يساهم في عملية التطور التي جرت وتجري ) .
في صفحة 13 من موسى والتوحيد يفاجأنا فرويد بقوله أن الحياة النفسية للفرد تفعل فيها عوامل عدة منها :
1 - الإدراكات الحسية المتأتية من إثارات مؤلمة حسية ، لمسية ، بصرية ، وسمعية .
2 - السيرورات التفكرية في ما يماثلها في ال ( هذا ) .
3 - الانطباعات الناجمة عن الرضات المبكرة التي ترتد الى ال ( هذا )
4 - ( وهنا تأتي المفاجأة ) ما يحمله الفرد من عناصر نسالية وميراث قديم .
وفي هذه النقطة الأخيرة تساءل فرويد : مم يتألف هذا المحمول ؟ وماذا يتضمن ؟ وما براهين وجوده ؟
ويذكر أن الوراثة تتمثل في : أ - استعدادات وميول عامة يتمتع بها كل كائن حي
ب - القابلية التي تبين نوع أو نمط التطور
ج - الرد على بعض الانفعالات او الإثارات أو الانطباعات .
وكل ذلك يسميه فرويد العامل التكويني ، وهناك واحد من الاستعدادات والقابليات وهو ما يشير إليه فرويد بالقابلية على الاستبدال الرمزي لشيء آخر ويتساءل عن تعلم الاطفال هذه الظاهرة ؟ وطبعا هناك الكثير مما ينطبق علييه السؤال . إن فرويد يعتبر مسألة الاستعداد اللغوي حالة جلية من حالات الوراثة القديمة واستعداد تفكيري ماثل لوراثة استعداد غريزي ، ويشير الى أن بعض العقد ( كعقدة أوديب لدى طفل معصوب) تكون قابلة للفهم في الكثير من ردود الانفعال فيها إذا نظر إليها من زاوية موضوع الوراثة ( النسالة) .
وبعد هذا يستمر فرويد ليقول ( إن وراثة الانسان لاتشتمل على محض استعدادت وقابليات بل أيضا مضامين تفاكرية - ideative - أي لها صفة الأفكار وبقايا ذاكرية خلفتها الأجيال السابقة ، وعلى هذا النحو تكون أهمية الوراثة القديمة ودلالاتها على حد سواء قد تعاظمت تعاظما مرموقا ) ويضيف ( لو أخذنا بنظر الاعتبار بأن بقايا وآثار ذاكرية تستمر وتدوم في وراثتنا القديمة لضيقنا الهوة التي حفرتها الكبرياء الانسانية بين البشر والحيوان )
يعود فرويد ليسأل السؤال الخطير ( في أية شروط تتسرب مثل هذه الذكرى الى الميراث القديم ؟ ) ويجيب بالنقاط التالية : 1 - حين يكون الحدث على قدر من الاهمية .
2- حين يتكرر الحدث بكثرة وتواتر .
3- أو يكون معا مهم ومتواتر .
وثمة سؤال مهم آخر يثيره فرويد ( متى وفي أية ظروف تكون تلك الذكرى فعالة وتنتقل ولو بشكل مشوه ومحرف من اللاشعور الى الشعور؟ )
ومن الأجدى مناقشة تلك الشروط و الظروف للإحاطة بدقتها في مجمل التصور الذي مر .
والشرط الأول المنصوص عليه هو أهمية الحدث العظيمة بالنسبة للإنسان مما يكسب ذلك الحدث القدرة على التسرب الى الذكريات الخطيرة والمؤثرة ، وهنا تغدو مسألة المقياس المحدد للأهمية غاية في الأولوية للتمكن من فهم آلية التسرب ، فما الذي يعنيه أن حدثا ما هو بالغ الأهمية وقادر على النفاذ والتأثير في المستقبل التكويني للإنسان بينما تبقى بقية الأحداث لا تملك تلك القدرة والتأثير ؟
إن ما يمكن قوله هو ان كل الاحداث على تعقدها أو بساطتها لها تأثير معين في تشكيل المستقبل الانساني وأن ثمة نقطة محددة يكون الاقتراب منها أو الابتعاد هو المحدد للأهمية والقيمة .
هذا الاستنتاج ينطبق تماما على التشكل النفسي او البناء النفسي والعقلي للإنسان الفرد كما بينه فرويد جليا في تحليله للنفس الانسانية ودور الرضات في التكوين النفسي ، فالأحداث ذات الطابع الاستثنائي هي التي تؤلف الاسباب الفعلية لنشوء العصاب الذي هو في الحقيقة يؤلف المنظومة النفسية للإنسان ، لكن مسألة التأثر الآني ومن ثم الاستجابة لذلك المؤثر على مستوى التوريث ليس مقتصرا على العنصر البشري أو حتى على الكائنات العليا إنما يمكن ملاحظة انتقال الاستجابة ورراثيا حتى عند الكائنات البسيطة وحيدة الخلية ، وفي ملاحظات طبية تأكد أن الفايروسات والبكتريا تطور قابلياتها في مقاومة أنواع من المضادات والمبيدات وبما ينتج عندها مقاومة ناجحة للتأثيرات المستجدة ، وإن عنى ذلك شيئا فهو أن بإمكان الخلية الواحدة ( سواء كان الكائن وحيد الخلية أو متعددها ) أن توجد آلية أو منظومة هي المسؤولة عن تحديد كيفية التغيير والتطوير ومن ثم إحداثه على مستوى أجيال وعبر النظام التوريثي المعروف .
ومما يدعم هذا الرأي أن المتغيرات والتطورات التي حدثت للإنسان أو للكائنات الأخرى إنما تمت على مستوى أعضاء دون غيرها أو أحيانا أجزاء من أعضاء مما يعني أن التطوير أو التغيير الذي يجري هو تطوير موضعي وليس صادر من منظومة عامة في الكائن ، وطبعا هذا لا ينفي وجود علاقة تبادلية جدلية بين الخلية الواحدة والتشكيل الخلوي الذي تنتمي إليه بحلقاته المتعددة بل أن تأثر خلية واحدة بمؤثر ما ومباشرتها التغير لابد أن يتم بموجب سلسلة من الرسائل بين جميع الخلايا القريبة والبعيدة وحسب عمق وحجم التأثر والتغير الذي سيصيب الخلايا تباعا .
ويمكننا ملاحظة تلك العلاقات التي تربط الخلايا المتعددة في كائن ما بمراقبتنا لعملية الانقسام الأولى التي تجري بعد الاخصاب الذي هو تاثير بيئي عنيف وقوي مما يرغم الخلية على الاستتجابة بانقسام أولي ثم انقسامات متوالية طبقا للخوارزمية الوراثية المخزونة ، لكن التلاعب بهذا الانقسام ووفق الملاحظات الدقيقة التي سجلها العلماء المختصون تظهر أن الخلية الأولى التي انقسمت الى خليتين إذا ما رفعنا أحدها فسوف تباشر الانقسام مرة أخرى وكانها لم تنقسم سابقا وهذا يؤشر على أن عملية الانقسام تجري وفق رسائل بين الخليتين المتجاورتين وليس بموجب الخريطة الجينية فقط ، وطبعا إذا استمرت تلك الخلايا المعزولة بانقسامها الطبيعي فسوف تنتج كائنا متكاملا غير معاق ، وفي هذا المثال دليل على ان تنفيذ الجدول او الخوارمية الجينية إنما يجري آخذا بنظر الاعتبار الرسائل المتبادلة بين الخلايا المتجاورة .
ولكي لا نسترسل في هذا الموضوع الذي سيكون مادة بحث مستقل نعود الى كيفية انتقال الحدث المهم وراثيا ويمكننا القول أن الخلايا الأساسية التي تتأثر بذلك الحدث حتما هي الخلايا الدماغية وخلايا الذاكرة فيها على وجه الخصوص ، وقبل ذلك فإن هناك احداث كبيرة وعظيمة يكون تأثيرها شاملا على كل الخلايا التي تتأثر سواء مباشرة أو غير مباشرة ويكون الجهاز العصبي االمرتبط بمختلف أنواع الوعي الدور الكبير لتنبيه كل الخلايا على الخطر أو الحدث الجوهري وحثها للعمل على التغير والتطور تبعا لذلك .
ومن السهولة ان نستنتج أن ذلك الحدث الجوهري إنما يتصل بتهديد مباشر على الحياة والبقاء وذلك مما يدفع كل الخلايا للتحرك طبقا لموقعها ووظيفتها وشكل الحركة الممكنة لها في محاولة لتجنب ذلك التهديد والتعامل معه من أجل ضمان البقاء والاستمرار في الحياة ، وبذلك يمكننا أن نقرر أن نقطة المقياس في تحديد أهمية حدث ما هي مسالة البقاء على قيد الحياة فبمقدار ما يبتعد الحدث عن هذه النقطة تكون أهميته قليلة ولا تتلقى الخلايا الرسائل الحاثة على التغير وبمقدار ما يكون الحدث قريبا من هذه النقطة فإن استجابة خلايا الجسم كافة ستكون فعالة وحيوية.
إن نظام التوريث لدى الانسان فعال جدا وحساس للغاية تجاه مسألة البقاء على خلاف ما لدى بقية الكائنات وهذا هو السبب الجوهري في ارتقاء الانسان وتميزه عن بقية الكائنات .
ان الدماغ واسلوب عمله هو صفة وراثية تماثل تماما أية صفة من الصفاات الأخرى التي امتاز بها الانسان أو أي كائن آخر ، وإذا كان البناء العام لأجزاء الدماغ المختلفة وقوانينه الاساسية مشتركة بين جميع الناس فإن هناك تفاصيل كثيرة جدا ستكون مختلفة بين فرد وآخر وهذا مفهوم حتى من مجرد التعامل البسيط مع أفراد عديدين حيث سيتبين وجود فروق جوهرية في مسائل محددة تتمثل بطريقة الاستجابة والتفكير ورد الفعل ، وهذا أيضا يعني أن مجموعة بشرية مهددة ببيئة ذات سمات وصفات خاصة وتشترك بالتالي بنفس التهديدات الاساسية للحياة سيكون لها منحى تطوري بنيوي مشترك في قوانينه العامة مع اختلافات تفصيلية بين التشكيلات الاجتماعية والفردية ، وإذا سلمنا كما حاولنا البرهنة فيما مضى أن التهديدات والاحداث الكبرى تؤثر على تركيب الدماغ لينتقل ذلك التغير والتطور نساليا الى الأجيال اللاحقة ويدفعها الى شكل سلوكي ومعرفي خاص يرتبط بالصلة الجدلية مع الاحداث المعاشة نكون إذن قد ردمنا الفجوات التي أشار إليها فرويد وأصبح واضحا لدينا أن الصورة العامة هي كما يلي : جميع الكائنات تمتلك على مستوى بدايتها الأولى أي أنموذجها الخليوي الأول قدرة محددة على استدخال التجربة ونقلها وراثيا مما يعدل من استجاباتها للتهديدات التي تواجهها ، لكن الاصل الانساني هو الذي امتلك أعلى قدرة في هذا المجال مما أتاح له التغير والتطور بخط متسارع مفترق عن بقية الكائنات ، ونظريا فإن كل الكائنات ستصل الى المستوى الانساني الحالي ولكن بعد مرور زمن طويل قد تمتد ملايين السنين وتجارب قريبة من نقطة التهديد بالفناء. وامتياز الاصل االانساني بقدرته الاستدخالية الفريدة جعل الانسان أو نماذجه الأولى ذات قدرة على نقل تجاربها في التهديد المتبادل بين الأب والابناء مما دفع نحو تأليف الديانة الطوطمية وفق نسقها المبين فيما سبق .
إن الاستنتاج المهم من التقديم الذي مر هو أن الاحداث التي تتصل بشكل مباشر بمسالة البقاء أي التهديدات الخطيرة بالمواصفات المذكورة آنفا سوف تترك تأثيرا كبيرا على مستقبل التكوين الوراثي ، والتكرار يولد الاعتياد وحيث يعتاد الانسان والمجتمع على ظاهرة أو حدث ما فسوف يصنفه كحدث سيء أو إيجابي طبقا لطريقة التاثير والتأثر وقربه من نقطة القياس ( أي موضوع البقاء) .
أن التجربة الانسانية تكون متفاجأة دوما بظاهرة معينة متكررة لو لا أن استيعابا أو استدخالا وراثيا جعل منها أمرا مفهوما ومحدد التأثير وبضوء ذلك يتم تطوير القابليات الجسدية والعقلية للتعامل الناجح مع هذه الظاهرة المتكررة وشكل التعامل وطبيعته يتخذ بعدا فرديا واجتماعيا بنفس الوقت وبما يضمن توظيف الظاهرة لخدمة الاهداف الاجتماعية والفردية .
لقد أشار فرويد الى مسالة القدرات اللغوية عند الانسان باعتبارها نموذج لانتقال المعرفة نساليا ، وتوخيا للدقة فإن العقل البشري يحاول بالفعل نقل تجربته الفردية بكاملها - حتى صيغ العواطف والتركيب السايكلوجي - وراثيا لكن ذلك غير متاح لحد الآن وهو في سياق النقطة المركزية المتحكمة بالانسان وبما عداه وهي محاولة بلوغ الخلود الفردي . إن توريث ضمانات استمرار النوع وتطوره تشتمل على محاولات تحقيق الخلود الفردي - مثل القدرات اللغوية والملكات التفاكرية - ومسار التطور الانساني يتجه نحو توريث كامل المعرفة المكتسبة بحيث يغدو الانسان خالدا عبر أجياله وهذه واحدة من محاولات الخلود الفردي وما عداها فإن الوعي والمعرفة البشريتين تتطوران علميا نحو إيجاد بدائل أو حلول سريعة لهذه المعضلة الجوهرية وفي كل الاحوال فمسألة إيجاد الحل خاضعة للزمن .
إن الاستعداد اللغوي عند الانسان متمثل تشريحيا في منطقة محددة من الدماغ وهي تشتمل كما يشخص فرويد "رموز" توصل بين الوعي والموضوع كاشياء ومفردات لكنها غير متخصصة بلغة بعينها إنما يتم اكتساب اللغة عبر تنشيط تلك المنطقة الدماغية وملأها بالمفردات وعبر المعايشة الاجتماعية ، إن تمثيل المعلومات في أجهزة الحاسوب تتم بلغة الحاسوب أي بالأرقام الثنائية ووفق نظام تشغيل وادارة متخصص واستظهار المعلومات للمتعامل بالحاسوب يتم وفق اللغة المشتركة بينهما وقد تكون لغة أي قوم وتتم الترجمة بينهما عبر ( compiler ) منسق .
إن هناك تمثيل لغوي دماغي ونظام يسيطر عليه مؤشر فيها التجربة اللغوية المعلوماتية السابقة والمنقولة وراثيا وهي غير اللغة التي يتفاهم بها أفراد المجتمع .
إن المنطقة اللغوية بالدماغ الانساني متطورة عن بقية الحيوانات وهذا التطور ناتج عن فعالية نظام التوريث على مستوى الخلية الواحدة مثلما أشرنا ويتم نقل معلوماتها الى مناطق الوعي والذاكرة من خلال التعامل مع الواقع الخارجي بأشيائه وأفراده .
إن ما نشير إليه من مهارة لغوية يمكن أن يعمم على بقية المهارات الحركية أو المعرفية وهذا هو المدخل الصحيح لفهم مسألة توريث المعلومات والتجارب القوية ، إن أي مهارة مكتسبة نمت في حقيقتها عبر تسلسل تطوري بطيء وواقع تحت مؤثر من نوع يتصل ببقاء الفرد ووفق شروط فرويد آنفة الذكر .
ولو دققنا بمسألة النظر وتمييز الألوان وتحسس ترددات معينة دون أخرى لأمكننا القول أن الأمر بالنسبة للفصين البصريين مهارة معلوماتية بالأصل مرتبة بشكل دماغي يمكن استظهار مضامينها في مناطق الوعي والمذاكرة عبر التجربة الممتدة منذ الولادة حتى نضوج الادراكات ، أما محتويات هذه المهارة فهي بالتأكيد ناتجة عن تجربة سابقة نقلت وراثيا وبني الفصان البصريان رويدا رويدا بحيث ترسبت بهما بشكل من الاشكال غير الواضحة حاليا معلومات بصرية ( موضوعية ) يمكن للوعي من فهمها إذا ما ظهرت واقعيا واستحثت تمثيلها المجمد بالفص البصري .
إن النظر هو قابلية التعامل مع الضوء المنعكس عن الاشياء وبدون الضوء فإن الفصين البصريين سيضطران لتطوير مسارات أخرى تكفل نجاح التعامل مع الواقع الموضوعي على أن ذلك التطوير لن يكون سريعا وبديهيا إنما ستمر ذات التجربة التاريخية السابقة مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات بين البداية والاصلاح .
ويمكننا الاشارة الى أية مهارة متعلقة بالحواس أو بالاستجابات الحركية او المعرفية - الاستنتاجية حيث أن برامج ادارة هذه الحواس والمعلومات التي تتضمنها كتبت عبر زمن طويل جدا وبتجربة متوالية منقولة عبر الاجيال ولو لا ذلك لما أمكنها الظهور أو لتخلفت عما عليه الآن ونعيد التأكيد على اختلاف القابليات التوريثية بين مختلف الأحياء .
ويجب التأكيد على ان منظومة الابصار عند البشر أرقى وأدق وأكثر أمانة من تلك المنظومة التي تمتلكها معظم الكائنات ، ومن العبث التحدث عن مهارة عقلية وتطورها بمعزل عن التركيب الدماغي المعني وتطوره فالقابليات ليست معلومات ومواهب وضعت او طورت في دماغ مكتمل إنما تركيب الدماغ في جزئه المختص بمهارة ما هو تمثيل لتأثر فعال على مستوى أجيال وأجيال ينفع موضوع البقاء ويتجنب الهلاك الفردي .
إن الاستنتاج الأهم هو أن حيز النظر او الإبصار ( الترددات القابلة للتمثل عقليا ) وجدت بارتباط كلي مع متطلبات البقاء والاستمرار كما أن العالم كما نبصره وندركه إنما تمثل بأفضل ما يمكن لأغراض البقاء والاستمرار الفردي .
وفيما يتعلق بالنظر تحديدا نلاحظ الاختلافات في مواصفات الابصار بين مختلف الكائنات المبصرة وصولا الى الحيوانات العمياء التي لم تطور حاسة خاصة بالابصار لعد حاجتها لها في نضالها للبقاء .
عباس يونس العنزي
[email protected]