نقد الشيوعية باعتبارها تصور عقلي هيجيلي


أمير خليل علي
2011 / 7 / 27 - 13:03     


من الثابت تاريخيا، أن الحلم الشيوعي كان موجودا قبل ظهور الماركسية، بزمن طويل. فقد جاءت إرهاصات هذا الحلم (الشيوعي) في جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة ويوتوبيا توماس مور. ثم ظهرت بشكل أقوى قبيل ظهور ماركس مباشرة لدى توماسو كامبانيلا و اليعقوبيين أمثال بابيف ومارات، ثم سان سيمون وأوين وفورييه وكثيرين غيرهم، ممن سماهم فريدريك إنجلز بالاشتراكيين الطوباويين - طبعا ليتسنى له وصف ماركس بأنه اشتراكي علمي.

ماذا تعني كلمة "علمية" في الإشتراكية "العلمية"؟

ويؤكد إنجلز (ويوافقه جميع الماركسيين)، على أن جميع التصورات الإشتراكية السابقة على ماركس إنما هي "طوباوية" خيالية. وأن ماركس هو الوحيد الذي قدم تصور علمي للإشتراكية.

لكن دعونا نفكك معنى "العلمية" التي يقصدها إنجلز هنا.

إن كل تعنيه كلمة "علمية" في وصف الماركسية هو فقط تقديم تصوير أو سيناريو عقلي منطقي مقبول عن التحول من الرأسمالية إلى الإشتراكية إلى الشيوعية.


فالعلمية (عند الماركسيين) إنما تعني أن التصور الذي يقدمه ماركس (للإشتراكية) يتميز بأنه سيناريو مخطط ومقبول من ناحية التصور "العقلي" النظري.

دور هيجل:

فلنعد هنا إلى هيجل، ولنتذكر جميعا فحوى مقولة "هيجل" الهامة:

"كل ما هو واقعي فهو عقلي وكل ما هو عقلي فهو واقعي"

وهذه المقولة الخطيرة تعني:

• أن كل ما يمكن تصوره عقليا فهو بالتالي قابل لأن ينوجد واقعيا
• وأن كل ما ينوجد واقعيا، هو بالتأكيد قابل للتفسير العقلي.

من هنا تصور ماركس (ومن حوله) أن تحقيق الشيوعية يمكن أن يتم طالما تمكن من وضع "تصور عقلي" عنها.

وهذه يفسر بالضبط فحوى مقولة ماركس (التي حللناها في المقالة السابق): أن الفلاسفة أنشغلوا بفهم العالم، بينما المهمة المطلوبة هي تغيير العالم.

وما قصده ماركس هنا هو:

أنه لا يجب على الفلاسفة الإنشغال بمهمة التفسير العقلي الهيجيلي للواقع،
بل ينبغي عليهم

الإنشغال بمهمة التصور العقلي لواقع بديل عن الواقع الراهن

هذا بالضبط هو ما فهمه ماركس من مقولة هيجل أعلاه. فقد أيقن ماركس أنه لو استطاع تقديم "تصور عقلي" عن الإشتراكية، فإن ذلك يعني بالتأكيد أن هذا التصور العقلي، يمكن له أن يصير (وفق مقولة هيجل) أمرا واقعا بلا جدال.

وبهنا يصبح ماركس أكثر هيجيلية من هيجل نفسه.

لذا فإن أغلب من تعاملوا مع تصورات ماركس، نسوا أنها محض "تصورات عقلية"، وليست بالضرورة تصورات "واقعية" استشرافية للمستقبل. وذلك لأنهم جميعهم (وإلى الآن) ما زالوا واقعين تحت تأثير مقولة هيجل السحرية (إن كل ما هو عقلي فهو واقعي).


عصر نشأة الخيال العلمي:

لم يلتفت أحد إلى ظاهرة دالة نشأت في نفس عصر ماركس.

وأقصد بها بداية تبلور نمط جديد من الكتابة "التصورية" الجديدة التي تنطلق وتعتمد على ذات الفرضيات التي تبلورت في مقولة هيجل أعلاه التي تبناها ماركس. هذا النمط الجديد من الكتابة التصورية التخييلية هو نمط روايات الخيال العلمي.

فروايات الخيال العملي تقوم على وضع سيناريوهات وتصورات تخييلية عقلية (لا واقعية) عن المستقبل وعن عوالم أخرى مختلفة بديلة عن العالم الواقعي الراهن. وهذا يتفق بالضبط مع تأويل مقولة هيجل التي تبناها ماركس بطريقته الخاصة، ثم تبناها كاتبو الخيال العلمي بطريقتهم الخاص.

ومن المدهش أن تتزامن نشأة الخيال العلمي مع نفس زمن وصول الهيجيلية إلى قمتها وبداية ظهور الماركسية.
ففي نفس هذا الزمن كتب كل من ماري شيللي وجول فيرن ولويس ستيفنسون وبرام ستوكر رواياتهم الخيالية العلمية.
وفي نفس تاريخ ولادة ماركس وإنجلز بدايات القرن التاسع عشر ولد جيل جديد بكامله من كتاب قصص الخيال العلمي التي تميزت عن ما سبقها بأن المحتوي "العقلي" فيها أكبر من المحتوى الإسطوري، بشكل يتفق مع مقولة هيجل، ومع محاولات ماركس

وقد نشرت في عصر ماركس وإنجلز عديد من قصص الخيال العلمي الجديدة، مثل:

فرانكشتاين لمارس شيللي عام 1817
حول العالم في ثمانين لجول فيرن يوم عام 1872
دكتور جيكل ومستر هايد لستيفنسون عام ‏1886‏
دراكولا لبرام ستوكر عام 1890
آلة الزمن لويلز 1895

يعني هذا أن القرن التاسع عشر كان بحق عصر تطوير روايات الخيال العملي، تتفق مع التصور الهيجيلي "العقلي" (حيث العقلي يصير واقعا).

وتميزت رويات الخيال العلمي العقلي الهيجيلي تلك بأنها قطعت مع ما قبلها.

فقد سبقها بالطبع روايات خيال علمي أخرى، مثل رواية دانيال ديفو "روبنسون كروز" عام 1719، وروايات جوناثان سويفت عن "رحلات جاليفر" 1726، والتي نشرت في القرن السابق على ماركس، والتي اختلفت عن الروايات المنشورة في عصر ماركس، بأنها تقدم تصورات عن عوالم "إنحطاطية" تقع في "ماضي" المرحلة الرأسمالية.

بينما تميزت روايات الخيال العلمي الجديدة (في عصر ماركس)، بأنها تقدم عوالم "تقدمية" تقع في "مستقبل" العصر الراهن (لهؤلاء الكتاب).

فقد تميز القرن الذي عاش فيه ماركس بأنه العصر الذي قفزت فيه رويات الخيال العلمي من محاولة "فهم" الماضي، لتنتقل إلى محاولة تصور "المستقبل". أي أن أسلوب روايات الخيال العلمي الجديدة في عصر ماركس تميز بأنه قفز من "الرجعية الماضوية" نحو "التقدمية المستقبلية".

وبذلك تغير معنى كلمة "العلمي" في مجمل الثقافة الأوروبية. بحيث صار "العلمي" يعني "العقلي". وهذه مسألة محسومة ومعروفة في الفكر الأوروبي منذ "ديكارت" وسبينوزا وكانط. حيث يعني "العلمي" عند جميع هؤلاء "العقلي".

لكن "هيجل" كان هو أول من أوصل هذا التصور إلى قمته القصوى في مقولته: أن "العقلي هو واقعي"، وليس فقط "علمي".

وهنا أصبح "العقلي" لدى هيجل وفي مجمل الفلسفة الألمانية هو بالضبط: علمي = عقلي = واقعي.

وفي هذه المعالدة الهيجيلة يصبح:

علمي = عقلي = واقعي

(حيث المقصود هنا بالواقعي ليس الواقعي الراهن الحالي، بل هو الواقعي البديل أو المؤجل أو القابل للتحقق في المستقبل طالما أنه مستوف شرط العقلية).

الاستنتاج:

ونتيجة لكل ما سبق، يمكننا بكل عقلانية وتاريخانية أن ندرج التصورات الماركسية حول سيناريو تحقق الإشتراكية والشيوعية في المستقبل ضمن كوكبة سيناريوهات قصص الخيال العلمي.