تفكيك الماركسية (الجزء ألاول)


أمير خليل علي
2011 / 7 / 21 - 18:27     

تفكيك الماركسية (جزء أول)

ينشب حاليا حوار حار حول الماركسية على صفحات موقع الحوار المتمدن، تشارك فيه شخصيات بعضها يعترف بإنتماءه إلى الماركسية كنظرية وكعقيدة فكرية، وبعضها يعترف بوجود قدر لا بأس به من الوجاهة في الأفكار المثارة بالدرجة التي تستفزه على المشاركة في الحوار، دون أن يعني ذلك أنه ماركسي أو غير ماركسي .. بل ربما المسألة أقرب إلى الفضول الفكري النابع من تسليم مسبق بإضمحلال – حتى لا نقول – سقوط الأيديولوجيات.

وهكذا تدور رحى "صراع الذهنيات" بين هذين الطرفين بشكل ربما يدفع التاريخ "الفكري" للأمام ..

وأظن أننا حاليا في مرحلة متقدمة من هذا "الصراع الذهني" حول الماركسية في موقع الحوار المتمدن. فقد انتهينا من مرحلة الصراع حول درجة علمية الماركسية، حيث انقسم المتحاورون إلى من يؤيد علمية الماركسية ومن ينكر عنها العلمية ويعتبرها محض نظرية لاعلمية أو علمية زائفة وفق تصنيف بوبر على الأقل.

وكان الحل الذي قدمته هو حل "تأويلي جينالوجي" يقوم على تأويل معنى صفة "العلمية" في السياق الذي ظهرت في الماركسية . وهو حل نيتشوي أعترف بأنه لا يحسم المسألة بقدر ما يفتحها ويطرحها للحوار لكن من منظور مختلف.

لكن ربما كان هذا الحل نفسه هو غاية ما يتوخاه أي حوار .. وأقصد تعدد المنظورات في الطرح. وهو يصب في صالح تفكيك الطرح الأحادي الثنوي بين أبيض وأسود، مثل: علمي أو لاعلمي، كما في مفاتيح الكهرباء (أون – أوف) - وهو ما تجلى في كتابة أغلب المتحاورين للعبارة كما يلي: (علمية / لاعلمية) .. وكأننا هنا أمام صورة لمفتاح كهرباء.


وإنطلاقا من هذه المنظورية perspectivism، فقد توصلت خلال الحوارات حول الماركسية إلى النتيجة التالية:

عندما نكون بصدد تقييم علمية / لاعلمية الماركسية .. فنحن في سياق يختلف عن تقييمنا علمية / لاعلمية ميكانيكا نيوتن مثلا ..

لذا فلا أظن أن صفة "العلمية" في الأولى (الماركسية) تعني نفس الشيء (العلمية) عندما نكون بصدد الثانية (ميكانيكا نيوتن)

ما أعنيه هو أن نظريات ماركس تنتمي إلى العلوم الإنسانية لا الطبيعية. لذا من المستحيل إثبات "علميتها" أو "لاعلميتها" وفق نظرة ثنوية بمثل ما يحدث مع ميكانيكا نيوتن – بل ربما نقول أن ميكانيكا نيوتين نفسها ليست مستوفية لأحدث شروط العلمية التي هي دوما في تطور وفق ما تمخضت عنه ميكانيكا الكم المعاصرة

ولهذا فنظريات ماركس أو غيره في سياق العلوم الإنسانية ليست قابلة للوصف بالخطأ أو بالصواب "العلمي" أو حتى بصفة العلمية أو اللاعلمية .. بل فقط بالقرب أو البعد عن حقيقة إنسانية ما .. يفهمها التأويل

ولذا أيضا تكون أفكار ماركس قابلة فقط للتجاوز .. وليست قابلة للخطأ أو الصواب بالمعنى العلمي

أما جدل الإدانة والتجريم لماركس أو غيره .. فهو ديدن الذهنيات الدوغمائية التقديسية والتأثيمية لا العلمية

فالتصرف الوحيد العلمي المتاح للتعامل مع الماركسية هو البناء فوقها وتجاوزها وليس إدانتها أو تكفيرها

أما التصرف الدوغمائي اللاعلمي الوحيد المتاح بصدد الماركسية فهو فقط إدانتها وتجريمها وتكفيرها دون فهمها أو بالأحرى نتيجة لتعمد إساءة فهمها .. لماذا؟؟ لأن الغرض الدوغمائي هنا هو الإدانة والتكفير لا الفهم ولا التنوير


ما الممارسة التفكيكية؟

مما سبق أعلاه، كان لابد أن ننطلق نحو تفكيك للماركسية نفسها وذلك بغرض إعادة الحيوية إليها. فالتفكيك deconstruction وفق رؤية دريدا هو أقرب إلى "إعادة البناء" re-construction وليس إلى "التقويض" والتهديم destruction


هكذا فنحن أمام رؤيتين للتفكيك: إحداهما تقويضية، بينما الأخرى تجديدية.

لكن الضبط العلمي هنا يستوجب مني أن استدرك النقطة التالية:

فمن الخطأ اختزال التفكيك في هدف يكمن فيما وراءه. لذا فالتوصيف الثاني الذي أقدمه لرؤيتين في التفكيك (تقويضية وتجديدية) هو من السطحية بمكان بحيث أني أكتبه فقط لأهداف التبسيط.

لكن لا أزعم أن نتيجة التفكيك الذي سأمارسه على الماركسية هي بالضرورة تصب في صالح الهدف التجديدي .. ولا هي بالضرورة تصب في صالح الهدف التهديمي.

ذلك أن الممارسة التفكيكية الصحيحة ترفض بحسم أي هدف غائي تيليولوجي يكمن خارجها أو يحركها باعتباره هدفها التي تتوقف عنده كمحطة وصول نهائية.

فلا هدف من التفكيك سوى ذاته. ولا ينبغي أن نعرف المسار الذي يتجه إليه التفكيك بشكل مسبق. بل ربما سنعرف عندما نتوقف عند نقطة ما.

لذا فإن التفكيك يقدم أسئلة مفتوحة ولا يقدم أجوبة نهائية. فما سنطرحه على الماركسية هي عدة أسئلة، تتطلب التفكير فيها بعدة أجوبة. وبناء على ذلك ربما .. فقط ربما .. نتمكن من دفع الطاقة الفكرية الكامنة في الماركسية إلى الأمام، خطوة إضافية.

ومن هذا المنطلق التفكيكي، فإن أول ضحية ستكون هي الإيمان الدوغمائي بالماركسية كعقيدة.


كيف يعارض الماركسيون تطوير الماركسية؟

لكل ما سبق، فليس من مصلحة أي دوغمائي أن يشارك في تفكيك الماركسية .. لأن هكذا مشاركة ربما تفجر "إيمانه" بالماركسية من الداخل.

فالممارسة التفكيكية لا تقوم بمعارضة الماركسية من خلال تركيب منظومة مخالفة للماركسية ومعارضتها بها. بل هي تقوم الممارسة التفكيكية على تفكيك أجزاء وفرضيات الماركسية، وتأملها وتمحيصها، ثم إعادة تركيبها بأشكال متعددة وووفق منظورات جديدة.

لذا فالاستراتجية التي نتوقع من الدوغمائي أن يمارسها لمعارضة الممارسة التفكيكية ستكون كما يلي:

- تهجم سياسي: يتهم فيه صاحب الممارسة التفكيكية بأنه خائن وعميل للبرجوازية والإمبريالية التي تستهدف إطفاء الماركسية بأفواهها، ولكن الله سيتم نوره على الماركسيين.
- تهجم ديني: يتهم صاحب الممارسة التفكيكية بأنه يمارس التجديف والتحريف على الماركسية. وهي تهمة دينية معروفة. وانتقالها إلى الماركسية هو دليل على وجود بعد تقديسي ديني دوغمائي في الماركسية.
- تهجم علمي: يتهم فيه صاحب الممارسة التفكيكية بأنه جاهل وحامل لوعي زائف. وبالتالي عاجز عن رؤية "الحقيقة" الماركسية.

بالطبع تتدرج هذه التهجمات خطورة، وفق الترتيب أعلاه.

لكن النادر في الشتائم والتهجمات المتبادلة بين الماركسيين أن نسمع طرف يصف الآخر بأنه "دوغمائي" أو ماركسي "عقائدي" حرفي متحجر محنط. وتفسيري لهذه الندرة هو أن هذه الصفة ليست "سبة" أو تهمة في الماركسية - وتحديدا في الماركسية العربية - بل على العكس. ربما كانت هذه السمة مرغوبة و:انما هي المطلوب إثباته في الحوارات بين أغلب الماركسيين. ربما لأنها تتضمن نوع من الإنخراط في جماعة موهومة مؤمنة بالماركسية إلى درجة العقيدة. وهو الوهم الذي يمنح كثير من الماركسيين قدر ليس بسيط من الإحساس بالجماعية. ويعود ذلك إلى وجود إحساس نوستاليجي شديد القوة في الماركسية بأهمية وعلو وقدسية الجماعة – بل والحزب - ضدا على أهمية الفرد.

كذلك هناك تدرج في درجة حدة وتفشي هذه التهجمات من منطقة في العالم إلى منطقة أخرى.

فمثلا تنتشر التهجمات السياسية بحدة في الماركسية السوفيتية، حيث يوصف تروتسكي بأنه خائن وعميل للغرب.
بينما تنتشر التهجمات الدينية بحدة في الماركسية العربية.
أما التهجمات العلمية فربما لا نجدها إلا في الماركسية الغربية.

لا يعني ذلك أن كل سياق ينحصر في اتهامات دون غيرها. لكن هناك نمط سائد ومنتشر، أكثر من غيره في كل سياق. دون أن أعنى بذلك الحصرية.

وكان الدكتور حسين علوان حسين قد حاول تفنيد الحديث عن "دوغمائية" الماركسيين بقوله ما يلي:
"عليكم أن تثبتوا صحة تواجد كل واحدة من التهم أعلاه لدى كل الماركسيين بلغة الأرقام باستخدام معطيات علم الإحصاء"

انظر الرابط http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=266442

وهو اعتراض وجيه. لكنه ينسى مسألة بسيطة، وهي أن عدم توفر معلومات إحصائية دقيقة لا يؤكد سوى أن المسألة لم تثبت بعد .. دون أن يثبت أنها خاطئة أو غير موجودة. فمثلا فإن عجز العلماء قبل كوبرنيقوس عن إثبات دوران الأرض حول الشمس، لا يجب أن يستخدم كمسوغ للقول بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض. فمجال القدرة على الإثبات العلمي والإجرائي، لا علاقة له بوجود أو عدم وجود الحقيقة محل الإثبات.


لكن الهدف ليس بالمرة إثبات أو عدم إثبات دوغمائية الماركسيين.

فالهدف لا يتعلق بالأفراد بل هو بالأجدى يتعلق بالأفكار. ولكن لا بأس من كشف كيف يؤثر الأفراد المنتمين إلى هذه الأفكار سلبا على تطور الفكرة نفسها.


استكمال الألتوسيرية:

لقد سبق أن حاول ألتوسير إثبات حدوث تطور - بل وقطع - في مراحل تفكير ماركس .. بحيث أصبح لدينا ماركس مبكر مثالي .. وماركس متأخر واقعي ناضج.

ووفقا لرؤية ألتوسير، فإن ماركس المتأخر الناضج تخلي عن كثير من المفاهيم المثالية التي سقط فيها ماركس المبكر المثالي .. وكان الهدف بالطبع هو إثبات وجود تطور علمي في الماركسية

لكن ما غاب عن ألتوسير هو أن ماركس إنسان له عمر محدود .. ولا نعرف إلى أي الأفكار كان سيتوصل لو أنه عمره أمتد به إلى يومنا الحالي.

لذا لم يتسائل ألتوسير عن: ما هي الأفكار التي كان ماركس سيتخلى عنها لو أمتد به العمر ليعيش معنا الآن. ذلك أن ماركس كان دائم التفكير والتطوير .. ولم يكن دوغمائي مشغول بالدفاع العقائدي عن أفكاره. بل من الثابت تاريخيا أن ماركس نفسه قد اعترف ذات مرة بأنه ليس ماركسي. (أنظر الرابط http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=221656)



من الماركسية العقائدية إلى الماركسية العلمية:

إذاً، فلو أخذنا الماركسية باعتبارها رسالة نبوية سماوية قدمها ماركس لنا باعتبارنا مجموعة أتباع مريدين متلقين لا دور لنا فيها سوى الحفظ والصلاة والسلام على روح صاحبها .. فلا أظن أن هذا يليق بروح المنهج العلمي الماركسي .. بل هو أليق بروح العقائد الدوغمائية المقدسة

لكن الماركسية العلمية أجدى بالتطوير والتجديد .. وإلا كان تحجرها وووقوفها عند نسختها الأولى – أو حتى نسختها الإنجلزية (من إنجلز) - هو بمثابة فيتشية نصوصية وفكرية وعقائدية هي أجدى بأتباع الأديان منها بأتباع منهج فكري يفترض فيه أنه علمي

ولهذا السبب .. فلا أظن أن هناك أي إحراج أو خوف أو خجل من الاعتراف بوجود مشكلات تستدعي الحل وإعادة النظر في الماركسية .. إن اتفقنا على أنها علم قابل للتطوير والإضافة وليس دين يعتبر كل تعديل عليه محض تحريف وتجديف

ولهذا أظن يجب أن ننطلق من أن الماركسية أكبر من ماركس بمعنى أنها أكبر من نصوص ماركس .. وذلك بنفس الطريقة التي نعتبر بها العلم أكبر من أرشميدس وأكبر من نيوتن وأكبر من أينشتاين .. ودون هذه ا لرؤية العلمية للماركسية .. فلا أمل في منهج ماركسي معاصر .. بل أجدى بالماركسية العقائدية المحنطة أن تحتل مكانها في متحف العقائد البالية.

هكذا فإن تطوير الماركسية يستدعي التعامل معها على أنها بمثابة نظرية علمية يؤخذ منها ويرد .. وعليه يجب أن تخضع للتمحيص الجذري بهدف إزالة كل ما يعلق بها من أفكار وفرضيات غير علمية .. وفق المنهجية التي دشنها ألتوسير في التعامل مع نصوص ماركس.

لكن لا يجب تقديس منهج ألتوسير نفسه .. بل يجب تطبيقه .. فمشكلة منهج ألتوسير أنه اعتبر الماركسية قد اكتملت مع اكتمال حياة ماركس .. ولذلك فكان من الطبيعي أن يغلب أفكار ماركس المتأخر على أفكار ماركس المبكر .. وهذه النظرة الألتوسيرية بها قدر من التحيز لأنها تنطلق من فرضية أن الماركسية لابد أن تكتمل في حياة ماركس نفسه. وبذلك فإن أخر ما كتبه ماركس سيعد وفق هذه ا لنظرة هو أنضج ما كتبه ماركس مقارنة بالكتابات المبكرة.

وواضح أن هذه النظرة الألتوسيرية إنما تعمل على تنطلق من فرضية الهوية الشخصية لماركس الشخص باعتباره عالم يطور أدواته المفاهيمية والفكرية بإمتداد مراحله العمرية.

مشكلة هذه النظرة أنها تحصر الماركسية في شخصية ماركس وفي عمره كشخص وبالتالي في زمنه كظروف شخصية .. وفي هذا في حد ذاته ابتذال للماركسية واعتراف بأنها محض رؤية فلسفية أنتجها شخص واحد هو ماركس وفق ظروفه وشخصيته.

أما لو ردنا تحويل الماركسية إلى علم .. فيجب الخروج من هذه الفرضية المحدودة لنتعامل مع الماركسية وكأنما نوسعها لتصبح علما سوسيولوجيا للمجتمع .. وليس فقط فقط للمجتمع الذي عاش فيه ماركس .. بل للمجتمع البشري بشكل عام.

ومن هذا لمنطلق فإن ما يجب القيام به مع الماركسية ليس أقل من تجريدها لتصبح علما قابلا للتطور .. وليس حصرها في صاحبها لتصبح عقيدة أو محض رؤية شخصية انتهت بنهاية صاحبها وزمانه.


تصنيف مشكلات الماركسية:


ربما تكون الخطوة ا لأولى هي تصنيف المشكلات التي تتطلب حلا علميا في الماركسية بهدف تطويرها ..
فما هي مشكلات الماركسية التي تحتاج لحلحلة؟

فلنفصل أولا بين ثلاثة عناصر في النظرية الماركسية:

1- الأدوات التحليلية . وهي في أغلبها أدوات قابلة للتطوير والتحسين في إطار العلم السوسيولوجي، بحيث تلائم المجتمعات الأخرى وتتخلصث من تحيزها المعرفي تجاه المجتمع الذي عاش فيه ماركس.
2- الأحكام الأخلاقية والقيمية. وأغلبها مرتبط بالخيارات الأخلاقية والقيمية لشخص ماركس. وربما عليها خلاف من شخص لآخر وفق تغيير الموقف الأخلاقي والقيمي
3- التنبؤات والتوقعات الرؤيوية. وهي في أغلبها مرتبطة بطموحات الوضع السياسي والأيديولوجي الذي عاش فيه ماركس.

فهذه العناصر الثلاثة تستدعي تناول ومعالجة مختلفة. فمن الواضح أن الأدوات التحليلية الماركسية هي الأقرب إلى العالمية والكونية نظرا لأنها الأقرب إلى التطوير العلمي. أما العناصر المتعلقة بالأحكام الأخلاقية و التنبؤات والتوقعات، فهي محكومة بالوضع الشخصاني لماركس نفسه.

لذا فإن تطوير الماركسية يجب أن يستهدف ثلاث خطوات على الأقل:

1- تطوير عناصر الأدوات التحليلية الموجودة في البند الأول
2- تفكيك الأحكام الأخلاقية والقيمية الموجودة في عناصر البند رقم 3
3- التخلص من المثالية والعقائدية المتعلقة بأغلب العناصر الموجودة في البند رقم 3 والتي لا تتفق مع العلم


كذلك علينا أن نحدد ما الذي استعارته الماركسية من النظريات السابقة عليها، بل وما الذي تبنته من الإضافات من اللاحقين عليها أمثال انجلز ولينين وستالين. وليس بهدف القص والاستبعاد. لكن بهدف تحديد درجة الاتساق والممكنات التطورية الموجودة في الماركسية والتي تفتحها على التطوير والتغيير المستمر دون التحجر والتحنط في نسخة قديمة.


الجرح الماركسي التاريخي:

إنطلاقا من التصنيف السابق لمشكلات الماركسية، أتوقع أن نجد أغلب المشكلات في الجانب المتعلق بالتنبؤات والفرضيات التي تعتمد على القبول العقائدي والإيماني في الماركسية، والتي استمرت فاعلة في الماركسية نتيجة لقوة الدفع الدوغمائية والإيمانية التي طالت الماركسية وبخاصة في فترتها السوفيتية، والتحدي العالمي الذي جوبهت به وقتها.

فلابد أن نعترف بأن تعرض الماركسية خلال هذه الفترة التاريخية إلى الهجوم الكاسح عليها من أغلب دول العالم الغربي قد أدى بها إلى انتهاج استراتيجية دفاعية دقعتها إلى التحصن والتشبث بفرضيات وأفكار ربما كانت أقرب إلى الإحساس بالخطر والتهديد. وأن هذه الوضعية التاريخية تركت على الماركسية بصمات وندوب وجروح خطيرة، ربما لم تشى منها إلى الأن لتتمكن من استعادة عافيتها المنهجية والفكرية.


قياس المسألة الأولى:
الشيوعية كحلم طوباوي وكخطة طريق:


لعل إحدى المسائل التي سنقوم بتفكيكها هي مسألة الشيوعية. فهذه المسألة تنتمي – وفقا تصنيفنا أعلاه – إلى البند الثالث وهو: التنبؤات والتوقعات الرؤيوية.

وهذا يعني أنها ليست أداة تحليلية. فلا يصح علميا قياس الحاضر على المستقبل. وإلا كنا في إطار قلب (عكس) لأخطر أنواع القياسات الدينية الفقهية. فحتى في القياس الديني الفقهي، فإنما يتم قياس الغائب على الشاهد.

أنظر الرابط http://www.eiiit.org/resources/eiiit/eiiit/eiiit_article_read.asp?articleID=328&catID=16&adad=40


أما في التنبؤ بحدوث الشيوعية، فيحدث العكس، حيث يتم توقع قدوم الغائب (الشيوعية)، إنطلاقا من دراسة الشاهد (أي النظام الرأسمالي المعاصر). وفي هذا عكس حنى لقواعد القياس الديني الفقهي.

وكأن الأستاذ فؤاد النمري قد صرح ذات مرة بأن توقع الشيوعية يشبه توقع الجنين في بطن الأم. لكنه نسى أن يميز لنا الفرق بين الإنتفاخ العادي الناتج ربما عن سوء الهضم وبين الحمل. فمن الواضح مثلا أن المحاولة السوفيتية وصلت على الأقل إلى ما يشبه الحمل الكاذب - بمعنى أن الشيوعية لم تحدث فيها.

وبهذا فإن انتفاخات (أو أزمات) الرأسمالية لن تقود بالضرورة إلى الشيوعية – بل حتى لو كانت لدينا خطة لهذا المسار (تحقيق الشيوعية) فربما تفشل، (كما رأينا في الحالة السوفيتية).


تفكيك الحلم الشيوعي:

رغم أنه لا غضاضة من الاعتراف بأن الحلم الشيوعي هو حلم إيجابي في جوهره، بما يعبر عن مشاعر إنسانية مثل رفض استغلال الإنسان للإنسان والتغلب على الحاجة والفقر.

إلا أن التقييم العلمي لهذه الحلم الشيوعي يجب أن يفرق ويميز بحسم بين ثلاث معايير ممكنة الإنطباع عليه:

- المعيار الأخلاقي القيمي للمرغوب
- المعيار العلمي السوسيولوجي للعقلاني
- المعيار الواقعي للممكن


فلا يجب الخلط بين الأخلاقي وبين العلمي وبين الواقعي. بل يتوجب فصل هذه المعايير حتى نفهم على أي الأسس نتخذ القرارات بصددها.
فهناك أدبيات كثيرة تؤكد على ضرورة الفصل بين الأحكام العلمية وبين الأحكام الأخلاقية والقيمية قدر الاستطاعة.

وهذا لا يعني رفضنا لمعيار الاستحسان والاستهجان الأخلاقي. بل يعني فقط أننا لا نريد أن نجعل من الاستحسان والاستهجان الأخلاقي معيارا علميا. بل أن يبقى الاستحسان والاستهجان الأخلاقي بمثابة معيار أخلاقي كما هو. ويجب أن يظل منفصلا عن المعيار العلمي.

والمعايير الثلاثة تختار ما يلي:
- المعيار الأخلاقي يختار المرغوب والمستحسن ويرفض المستهجن – والماركسية معنية برفض الاستغلال ورفض الاغتراب.
- المعيار العلمي يختار العقلاني ويرفض اللاعقلاني - ووفقا للماركسية، فإن المثالية تعد أيضا غير علمية
- المعيار الواقعي يختار الممكن ويرفض المستحيل –ووفقا للرؤية المادية الجدلية فإن التاريخ قابل لأن يصنعه البشر وفق الظروف المتاحة

معايرة الفكرة الشيوعية:

إذا فلو أننا قمنا بمعايرة الفكرة الشيوعية لوجدنا أنها تحصل على عدة درجات كما يلي وفق معايير ثلاثة:

- المعيار الأخلاقي بنسبة كبيرة – لأن الماركسية معنية بإزالة الاستغلال
- المعيار العلمي بنسبة ضئيلة – نظرا لأن الماركسية ترفض المثالية وترفض الغائية التيليولوجية في التاريخ
- المعيار الواقعي بنسبة ضئيلة جدا - نظرا لعدم واقعية الشيوعية، بل وفشل محاولات تحقيقها في الواقع. بل إن الرأسمالية أظهرت قدرة على تطوير نفسها.

وهكذا فمن المواضح أن الدرجات الأعلىالتي تحققها الشيوعية إنما توجد على معيار الأخلاق. بينما تتدنى الدرجات التي تحصل عليها المسألة الشيوعية وفق المعيار العلمي، ووفق المعيار الواقعي.

ومن الواضح أنني طورت هذه المعايير لتتلائم بشكل مناسب مع الماركسية، لذا فلا مجال للإدعاء بأن هذه المعايير متحيزة. لأنه لو وجد فيها تحيز فهو لصالح الماركسية العلمية، وليس ضدها.

وإذا قمنا بعمل تدريج للمعايير، فستتضح المسألة أكثر.

فسأفترض أن لكل معيار عشر درجات تتوزع على المسألة التي نقيسها به.

وبذلك تحصل الشيوعية على (10) درجات في المعيار الأخلاقي
بينما تحصل على (3) درجات في المعيار العلمي
بينما تحصل على (2) درجتين في المعيار الواقعي.

إذاً، تكون نتيجة المعايرة العلمية الشمولية للمسألة الشيوعية = 15 درجة من مجموع إجمالي (30) ثلاثين درجة

وهذه النتيجة لها دلالة خطيرة.

ذلك أنه بتقدم التاريخ يحدث ما يلي:

- تتأكد قدرة الرأسمالية شيئا فشيئا على تطوير وتجديد نفسها (أنظر كتاب الماركسي المصري فؤاد مرسي: الرأسمالية تجدد نفسها). وهو ما يدفع باتجاه تقليل درجات معيار الواقعية
- يتأكد فشل النموذج السوفيتي. وهو ما يدفع باتجاه مزيد من تقليص درجات معيار العلمية
- تتقلص أعداد طبقة البروليتاريا ويحدث حراك صاعد لها إلى الطبقة الوسطى لتفقد الشيوعية بذلك حاملها الأساسي (البروليتاريا) مقابل زيادة قوة أحد مناهضيها الأساسيين (الطبقة الوسطى)

إذن فالتاريخ يدفع بإتجاه سلب مزيد من الدرجات من المسألة الشيوعية. ولذلك فإن درجة (15) التي حصلت عليها الشيوعية هي التي تبرر وجودنا في مرحلة (البين بين)، والتي يصعب علينا فيها اتخاذ قرار نهائي بصدد الشيوعية.

لكن قس درجة (15) هذه بما كانت تحصل عليه الشيوعية في زمن ماركس. وما قبل الثورة البلشفية 1917، وستجد أن الدفع التاريخي يسير باتجاه مزيد من تقليص الدرجات الممنوحة للشيوعية.

بل إننا لو اقتصرنا على المعيار العلمي والمعيار الواقعي وحده، لقمنا بسلب (10) درجات كاملة من المسألة الشيوعية. لتصبح فقط حاصلة على درجات معيارين، يبلغ إجماليهما معا (20). وتصبح الشيوعية حاصلة فقط على (5) خمس درجات من عشرين درجة. وهو ما يعد دليل قاطع على فشلها – إذا ما نزعنا عنها المعيار الأخلاقي.

الاستنتاج:

مما سبق نستنتج أن الفكرة الشيوعية تستند بشكل كبير على المعيار الأخلاقي. وبشكل ضئيل على المعيار العلمي وبشكل أكثر ضئالة على المعيار الواقعي.

إذا، فقد أصبح من الممكن اتخاذ قرار باعتبار الفكرة الشيوعية مستندة إلى قرار أخلاقي بأكثر مما هي مستندة إلى قرار علمي أو واقعي.

ومن هنا نتحرك نحو مزيد من التجريد والتنقيح والتصحيح للماركسية.

وفيما سيلي من مقالات سنقوم بعمل قياسيات جديدة لبقية عناصر الماركسية، لنقيس أيها علمي وأيها واقعي، وأيها محض أخلاقي.