شبحٌ جديدٌ يجول في سماء أوروبا، أو بعضها...


داود تلحمي
2011 / 7 / 20 - 20:29     

يستحضر العنوان، طبعاً، تلك الكلمات الأولى الشهيرة التي افتتح بها كارل ماركس وفريدريش إنغلز كراسهما الشهير "بيان الحزب الشيوعي"، والمعروف عادةً باسم "البيان الشيوعي"، الذي صدر قبل أكثر من قرن ونصف القرن في أوروبا.
في العام 1848، الذي صدر في مطلعه هذا الكراس- النداء، وكانت نسخته الأولى باللغة الألمانية لكنها طُبعت في العاصمة البريطانية لندن، كانت القارة الأوروبية على أبواب انفجارات واسعة، ستمتد من الشهر الثاني للعام الى مطلع العام التالي لتشمل العشرات من بلدان القارة الأوروبية، وحتى بعض بلدان أميركا اللاتينية. وهي كانت انفجارات شعبية ضد الأنظمة الإستبدادية، الملكية والإمبراطورية، ومن أجل حق تقرير المصير للشعوب غير المستقلة منها، والواقعة آنذاك تحت هيمنة هذه الإمبراطوريات القارية الكبرى.
ومعروف أن ماركس وإنغلز تحدثا في بداية كراسهما عن الشبح الذي يقصدانه، شبح "الشيوعية"، الذي، كما قالا، كان يقض مضاجع الحكام وأقطاب السياسة والنفوذ الرجعيين في القارة. وهما كانا يستخدمان بذلك على الأغلب لغة تعبوية للقطاعات المتسعة من العمال والأجراء في القارة، الى جانب اللغة التحليلية المقتضبة التي تناولا فيها تناقضات العالم الرأسمالي في تلك الحقبة، حقبة "الثورة الصناعية".

الشبح الجديد: التمرد على الظلم الإقتصادي و"الديمقراطية الشكلية" السائدة

أما الشبح الجديد الذي نتحدث عنه الآن في القارة الأوروبية فهو شبح يأتي في زمن آخر غير زمن أواسط القرن التاسع عشر، وبعد تطورات هائلة شهدها العالم في مختلف المجالات خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة. ولكنه، بدوره، شبح يثير انزعاج ومخاوف أصحاب القرار والنفوذ الحاليين في أوروبا وحلفائهم في قارات أخرى. وإن كانت الأمور ما زالت في بداياتها، وتكاد تكون محصورة في عدد محدود من البلدان الأوروبية، على الأقل حتى الآن.
إنه شبح التمرد على البنى وآليات العمل التقليدية لـ"الديمقراطيات" الأوروبية، على الصعد الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، والتي غالباً ما يتناوب على حكمها حزبان، أحدهما يميل الى اليمين والآخر الى يسار الوسط. علماً بأن العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، عقود ازدهار "الليبرالية الجديدة"، شهدت تضاؤلاً كبيراً للفروقات في السياسات العامة بين هذين التيارين، خاصة في الجانب الإقتصادي.
فسواء أكان النظام الحاكم من الصنف الأول، أي من اليمين أو يمين الوسط، كما هو الحال الآن في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا، والبرتغال بعد الإنتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في حزيران/يونيو الماضي، أو من الصنف الثاني، يسار الوسط، كما هو الحال في اليونان وإسبانيا، والبرتغال قبل الإنتخابات النيابية الأخيرة، فقد دفعت تفاعلات الأزمة الإقتصادية الرأسمالية العالمية كلا الصنفين من الحكومات، مع بعض الفروقات المحدودة، الى إجراءات تقشف وتقليص نفقات عامة مسّت بشكل رئيسي القطاعات الشعبية الأوسع، العمال والموظفين وأصحاب المشاريع والملكيات الصغيرة، والعاطلين عن العمل طبعاً، وأعدادهم في مجمل البلدان الأوروبية غير قليلة.
وإذا كانت الأزمة الإقتصادية التي انطلقت من الولايات المتحدة في العامين 2007- 2008 قد انعكست على مجمل البلدان الأوروبية، وغير الأوروبية، بما فيها بلداننا العربية، فإنها ضربت بشكل خاص تلك البلدان ذات الإقتصادات الهشة، والتي كانت تعتمد على القروض الخارجية وتراكم الديون، بحيث كادت تصل الى حافة الإفلاس، أي عدم القدرة على سداد أقساط الديون وفوائدها. وهو ما اقترب منه بلد مثل اليونان، العضو في الإتحاد الأوروبي وفي منطقة عملة اليورو، كما يقترب منه عدد من البلدان الأخرى، مثل البرتغال وإيرلندا. في حين تفاقم وضع بلد أكبر حجماً مثل إسبانيا، فاتخذت حكومته، المنتمية الى يسار الوسط، سلسلة من إجراءات التقشف وضغط النفقات الإجتماعية، فاقمت من البطالة، العالية جداً أصلاً في البلد، والأعلى في منطقة اليورو - أكثر من 21 بالمئة من اليد العاملة، والضعف تقريباً بالنسبة للقطاعات الشابة -، وهددت بمزيد من التراجعات في الوضع المعيشي للقطاعات الأضعف من المجتمع، العاطلين عن العمل والمتقاعدين والشبان الباحثين عن العمل في بدايات حياتهم المهنية وقطاعات إجتماعية أخرى. وشهدت بلدان أخرى إجراءات تقشف شبيهة، ربما أقل حدةً، من بينها بلدان كبيران مثل بريطانيا وإيطاليا.
فيما عمدت العديد من البلدان الأوروبية عامةً الى إجراءات تسرّع من تطبيق وصفات "الليبرالية الجديدة"، من نمط توسيع نطاق خصخصة القطاع العام، وتخفيض خدمات الصحة والتعليم وضمانات الشيخوخة، وتأخير سن التقاعد، وحتى المس بمخصصات التقاعد والبطالة وتعويضات المرض والعلاجات الطبية. وهو ما يعني التراجع عن العديد من المكاسب الإجتماعية التي كانت قد حققتها هذه القطاعات الشعبية منذ الثلاثينيات الماضية، ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية بشكل أوسع. هذا، في وقت يدرك فيه كل مطّلع ومتابع أن الأزمة الإقتصادية الحالية تسببت بها ممارسات نابعة من نهج "الليبرالية الجديدة" وتنامي دور القطاع المالي- المصرفي والمضاربات المتجاوزة للحدود، وغالباً حتى للقوانين السائدة في كل بلد معني. أي ان الذين تسببوا بالأزمة لا يدفعون الثمن، بل يلقونه على القطاعات الأكثر تضرراً منها ومن مجمل سياسات "الليبرالية الجديدة"، وينتهزون الفرصة للتسريع في تطبيق "علاجات الصدمة" التي توصي بها هذه السياسات. وهو ما يجعل رد فعل "الغاضبين" و"الحانقين" أمراً مفهوماً.
***
لكن ما سنتحدث عنه هنا ليس هذه الجوانب الإقتصادية، التي سبق وتناولنا بعض مظاهرها في مقال سابق، وإنما ظواهر التمرد الجديدة، التي أخذت حجماً واسعاً في بلد مثل إسبانيا، حيث عمد الشبان، ومن ثم قطاعات أخرى من السكان، منذ أواسط شهر أيار/مايو الماضي، الى احتلال عدد من الساحات العامة في العاصمة مدريد وفي عشرات من المدن الأخرى من البلد، ونصب الخيام للإقامة فيها.
وهو ما أوحى بالتأثر بما جرى في مدن تونس ومصر منذ أواخر العام المنصرم وأوائل العام الحالي، وخاصة نموذج ميدان التحرير الشهير في القاهرة، الذي كانت أجهزة التلفزيون تنقل صور شبانه وجماهيره المحتشدة على نطاق واسع في أنحاء العالم، مما جعل هذا الميدان حالياً من بين أشهر الميادين في العالم. فعلى سبيل المثال،عَنْون موقع مجلة "در شبيغل" الألمانية على شبكة الإنترنت مقالته عن إنتفاضة إسبانيا، في 19/5 الماضي، كالتالي: "ميدان التحرير في مدريد: الجيل الضائع لإسبانيا يجد صوته". وكلمة "التحرير" منقولة كما هي، أي بلفظها العربي، وليس بترجمة معنى الكلمة.

"بوابة الشمس"... ميدان التحرير في أوروبا!

والميدان الذي بدأت منه الحركة في عاصمة إسبانيا في 15/5 الماضي يحمل اسم "بويرتا دِل سول"، أي "بوابة الشمس". وهو أصبح عنواناً أيضاً لسلسلة من التحركات في مدن إسبانية أخرى، ومن ثمّ في بلدان أوروبية أخرى.
مع العلم بأن اليونان، الذي يشهد أزمة طاحنة من المديونية، جعلته عملياً رهينة بأيدي صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، وكلها هيئات غير منتخبة، وبالتالي غير خاضعة لرقابة المواطنين اليونانيين وغير اليونانيين، كان قد شهد منذ زهاء العامين سلسلة متواصلة من التحركات الشعبية، العمالية والشبابية خاصة، المعبرة عن الإستياء من تدهور الوضع المعيشي، وخاصة للقطاعات الشابة. ووضع اليونان الجديد، المكبّل بقيود مفروضة عليه من الهيئات الثلاث الخارجية المذكورة، جعل بعض المحللين يتحدثون عن رهن استقلال هذا البلد وتفريغ الممارسات الديمقراطية فيه بالتالي من مضمونها، بما في ذلك العمليات الإنتخابية. والنموذج اليوناني مطروحٌ للتمدد والتطبيق على بلدان أخرى غارقة في الديون، مثل البرتغال وإيرلندا، وربما بلدان أخرى.
فاضطرار اليونان وبلدان أخرى للإقتراض من المؤسسات التمويلية المشار اليها، ومن المصارف الكبرى التي تتعامل معها هذه المؤسسات، وفي حالة اليونان هي في معظمها مصارف ألمانية وفرنسية، يجعل هذه المؤسسات التمويلية هي التي تحدد وتوجه السياسات الإقتصادية والإجتماعية في هذه البلدان، وبالتالي مجمل سياساتها، حتى الخارجية، الى حد كبير. والبديل الذي يجري التلويح به لهذا الإرتهان هو الإفلاس والإنهيار، وربما حتى الإخراج من "نعيم" اليورو. وهذا الإحتمال الأخير ليس مطروحاً الآن، ولكن يجري التداول به، حتى في وسائل الإعلام في بلد مثل ألمانيا.
الشبح الجديد هو، إذاً، شبح التمرد على هذه "الديمقراطية" الشكلية، التي باتت مفرغة بشكل شبه تام من مضمونها. ولذلك أطلق المتمردون الإسبان على أنفسهم تعبير "لوس إنديغنادوس"، أي "الغاضبين" أو "الحانقين". وبعض شعاراتهم بات يدعو الى "ديمقراطية حقيقية اليوم"، ديمقراطية تشاركية يكونون جزءً منها، غير تلك التي يعيشون في ظلها، وعلى هامشها وهامش الحياة في بلدانهم، ويعتبرونها تعمل ضدهم ولصالح أصحاب الثروات والمؤسسات المالية الكبرى في البلد، وخارجه.
ولذلك باتت هناك في بعض هذه البلدان نسبٌ متزايدة من الذين لم يعودوا يقتنعون بجدوى العمليات الإنتخابية، ويعمدون بالتالي، بأعداد متزايدة، الى مقاطعتها.
ففي البرتغال، مثلاً، شهدت إنتخابات الجمعية التأسيسية في العام 1975، بعد عام على الإطاحة بالنظام الفاشي الإستبدادي، الذي سيطر على البلد منذ عشرينيات القرن الماضي، نسبة مشاركة عالية تجاوزت الـ 90 بالمئة ممن يحق لهم التصويت. وبلغت النسبة في العام التالي 1976 في انتخاب أول برلمان منبثق عن الدستور الجديد المقرّ شعبياً حوالي 84 بالمئة. وكذلك الأمر في العام 1980.
لكن نسب المشاركة لم تنفك بعد ذلك عن التراجع. فنزلت تحت الـ 70 بالمئة منذ مطلع التسعينيات، وتحت الـ 60 بالمئة منذ العام 2009، أي مع بدء الأزمة الإقتصادية العالمية. وفي الإنتخابات الأخيرة، التي جرت في شهر حزيران/يونيو الماضي، والتي خسر فيها يسار الوسط لصالح اليمين، بلغت نسبة المشاركة 58 بالمئة. والنسب في الإنتخابات الرئاسية وانتخابات البرلمان الأوروبي هي أقل من هذه النسب، أحياناً بقدر كبير. حيث بلغت نسبة المشاركين في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في الشهر الأول من العام الحالي 2011 أقل من 50 بالمئة. وكانت نسبة المشاركين من البرتغاليين في انتخابات البرلمان الأوروبي في العام 2009 أقل من 40 بالمئة.
فبين حماسة السنة الأولى بعد "ثورة القرنفل" الشهيرة في العام 1974 التي فتحت الآفاق مبدئياً أمام بناء مجتمع حر وعادل ومتطور، كما حررت البلد من عبء الحروب الإستعمارية التي كانت مستمرة في عدد من بلدان إفريقيا التي كانت ما زالت مستعمرة قبل هذه الثورة، كما من مجمل المستعمرات الأخرى... وبين فتور الناخبين في الأعوام الأخيرة، نلمس كيف تغيرت النظرة في هذا البلد، الجار لإسبانيا، تجاه هذه "الديمقراطية" المأمولة، بالصورة التي انتهت إليها.
ويمكن تلمس مثل هذه الظاهرة في أكثر من بلد أوروبي. وكما سبق وذكرنا، فإن اليونان تشهد اضطرابات داخلية، اجتماعية واقتصادية، بشكل شبه متواصل، على الأقل منذ عامين. وهو يشهد منذ العام 2009 نمواً سلبياً (أي إنخفاضاَ) في ناتجه المحلي الإجمالي، علماً بان الشروط القاسية المفروضة عليه من المؤسسات التمويلية لإنقاذه من الإفلاس تفتح الباب أمام مرحلة طويلة من التراجع الإقتصادي، ومن الأزمات الإجتماعية، التي لا أفق لحلها على أيدي الأحزاب التقليدية المتناوبة على الحكم منذ ثلاثة عقود ونيف، برأي "الغاضبين". فالحركة الإشتراكية لعموم اليونان (باسوك) التي جاءت الى السلطة لتحل محل حزب "الديمقراطية الجديدة" اليميني بعد انتخابات العام 2009 لم تتمكن من تفادي الرضوخ لوصفات "الليبرالية الجديدة" التقشفية التي فرضتها المؤسسات التمويلية الدولية التي أشرنا إليها. لا بل هي التي تدفع بقوة اليوم لتنفيذها بدون تأخير.
ومهما كانت مآلات هذه الأزمات، غير المرشّحة للتجاوز في زمن قريب، فإن أوروبا، أو على الأقل بعض بلدانها، تشهد تفاعلات غير مألوفة خلال العقود الأخيرة، ويمكن أن نرى احتمال حدوث تطورات مهمة، من الصعب التنبؤ بها منذ الآن.
وحتى وإن كان "الحانقون" في إسبانيا قد غادروا الساحات الكبيرة، وتوزعوا على عدد من الأحياء والمناطق الأفقر والأكثر حيوية، فإن شيئاً ما جديداً سيخرج من كل هذا، خاصة مع استمرار نشاطاتهم الجماعية والتشاورية بشكل منتظم. وربما سيحتاج الأمر الى سنوات حتى تتبلور الصورة، ويتحقق تغيير حقيقي في هذه البلدان ومجمل بلدان القارة، خاصةً وان صيغة "الإتحاد الأوروبي" وقيود منطقة اليورو، التي تتحكم بها الدول الأقوى إقتصادياً، وخاصة ألمانيا والى حد أقل فرنسا، كما وارتباط مجمل صيغة الإتحاد بالمراكز الكبرى الأخرى في عالم رأسمالية اليوم، وخاصة المركز الأميركي الشمالي، كلها عوامل تجعل عملية التغيير أصعب مما كانت عليه في مراحل تاريخية سابقة.
ولكن، منذ الآن، بدأ بعض أوروبيي الأطراف يشعرون بأن هناك قواسم مشتركة بينهم وبين مناطق أخرى في العالم، مناطق "الجنوب"، التي يشهد بعضها تحولات مهمة، ومنها أميركا اللاتينية، وبشكل أولي هذه المنطقة العربية التي لا زالت التحولات فيها في بداياتها.
وفي كل الأحوال، لا بد من متابعة مستمرة لما يجري، ويمكن أن يجري، في هذه القارة التي انطلق منها الفكر الثوري الإجتماعي الأكثر تأثيراً على العالم بمجمله في القرنين الماضيين، والتي، وإن استفادت قطاعاتها الشعبية لفترة من الزمن من فتات نهب مستعمرات "الجنوب"، ومن أشكال الإستغلال الجديدة التي تم ابتداعها في مراحل "الإستعمار الجديد" منذ أواسط القرن العشرين، إلا ان نهم شرائحها الثرية وطغمها المالية بات يهدد حتى تلك القطاعات الشعبية في بلدان "المركز" الرأسمالي نفسه.