وجهة نظر حول ما يجري في العالم العربي من موجات ثورية

معاد الجحري
2011 / 5 / 31 - 07:11     

1)في الموجات الثورية والمسلسل الثوري:
تتميز الظروف الراهنة ،ومنذ دجنبر 2010 ، بانطلاق مسلسل ثوري يجتاح أغلب بلدان العام العربي.يتم التعبير من طرف المحللين والصحافة وفي الشارع وعبر المظاهرات عن هذا الوضع في هذه الرقعة من العالم بتوصيفات عدة.للدقة يجب-في نظري- الحديث عن موجات ثورية على مستوى العالم العربي ومسلسل ثوري(أو سيرورة ثورية) على مستوى كل بلد أكثر من الثورة.لماذا؟لأن الثورة ليست مجرد لحظة بل هي نتاج سيرورة طويلة من الكفاحات تتمظهر على شكل قطيعة معينة. تترد هذه الموجات الثورية على مستوى وسط مادي أو رقعة جغرافية هي العالم العربي(وليس الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) بكل تنوعاته الدينية واللغوية والاثنية ليس ككيان مثالي مجرد أساسه اللغة والدين (رغم ما لهذين العاملين من أهمية) وإنما ككيان تاريخي تشكل وتبلور في سياق مسيرة نضالية طويلة وملموسة لشعوب هذه المنطقة ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية والرجعيات المحلية.
إن أي مسلسل ثوري لا يمكن أن يتطور بشكل خطي،فهذه النظرة لا وجود لها في التاريخ بل يعرف اندفاعات وانكسارات وإخفاقات وفترات من المد تليها فترات أخرى من الانهيار.ففي المغرب خفت هذا المسلسل بعدما ضاعت فرصة تاريخية هامة لتغيير النظام في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي بفعل مناورات النظام الذي كان يعاني من عزلة خانقة وبسبب مرض التوافق المهيمن على المعارضة التقليدية(الكتلة الديمقراطية) وتشتت قوى اليسار الجدري المنحدرة من الحركة الماركسية-اللينينية المغربية.إن حركة 20 فبراير تمثل علامة بارزة على انطلاق مد جديد بدأ يتصاعد ابتداء من 2005(الهزات الاجتماعية في كل من صفرو وايفني،الحسيمة ضد آثار الزلزال،نضالات في العديد من المناطق القروية ناهيك عن الطلبة والمعطلين والموظفين والعمال...).أما في مصر فيقول سمير أمين أن حركة 25 يناير تمثل عنوان انطلاق المد الثوري الجديد بعد الانهيار الطويل الذي تلا مدا ثوريا طويلا دام حوالي 40 سنة (من عشرينات إلى ستينات القرن الماضي).وفي تونس فوجئت قوى المعارضة فعلا بالانتفاضة(انتفاضة 17 دجنبر 2010)ولكن انتعاشة النضال الشعبي كانت واضحة لعل أبرزها إضرابات واسعة لعمال المناجم الحمامات.
تندرج هذه الموجات الثورية ضمن طموح شعوب العالم العربي في الديمقراطية والتحرر الوطني بمعنى التخلص على مستوى كل بلد من الطبقات السائدة ونظام الاستبداد الذي يستند إليها وفك الارتباط مع الامبريالية مكثفة مطالبها في المجال الاستراتجي(أي المجال السياسي)على قضية الديمقراطية السياسية بالمعنى الذي تبلور تاريخيا في بلدان المراكز الرأسمالية رابطة ذلك بالمطالب الاجتماعية.ورغم أن الحركة الجارية لا تركز من حيث المطالب على قضية الامبريالية بشكل صريح وواضح بما في ذلك في المغرب فان التغييرات الجارية معادية في الجوهر للامبريالية وهي تهدد مصالحها من حيث ضرب وكلائها المحليين ومن خلال إقامة الديمقراطية ومن خلال المطالب الاجتماعية.وكل هذا يوفر الشروط للتقدم على مسار التحرر الوطني وتخليص هذه البلدان من التبعية للامبريالية وقاعدتها الأمامية في المنطقة الكيان الصهيوني"إسرائيل".هذا ما يفسر حرص القوى الامبريالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية على التدخل في كل صغيرة وكبيرة مخافة أن تنفلت الأمور من يدها وهذا ما يفسر لماذا عبرت قمة الثمانية المنعقدة في فرنسا يومي 25 و26 ماي 2011 على تخصيص مبلغ 40 مليار دولار لدعم حركات التغيير في العالم العربي.واضح أن الامبريالية ترغب في حصر الأمور عند مستوى إجراءات شكلية في المجال السياسي وفي إطار أنظمة كومبرادورية وهو سيناريو لا يعدو عن كونه يعمل على تأجيل الأزمات في انتظار تفجرها بشكل أعمق وأعنف لأن الديمقراطية البرجوازية (ديمقراطية الإنابة أو التوكيل) مأزومة أصلا في بلدان المراكز الرأسمالية فما بالك في بلدان العالم الثالث الذي سيظل بكل تأكيد منطقة العواصف.تطرح الموجات الثورية الجارية إشكالية علاقة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي من زاوية أخرى.فحركات التغيير مست كل من ليبيا وسوريا وهي الأنظمة الاستبدادية التي كانت تصنف ضمن الأنظمة الوطنية المناهضة للامبريالية.الواقع أن هذه الأنظمة التي ملأت الدنيا ضجيجا وهتافا حول عدائها للاستعمار وللامبريالية و"إسرائيل" لاهي حققت التحرر الوطني ولا هي تقدمت في إرساء أسس الديمقراطية في بلدانها وأبدت ضروبا من الهمجية والقمع لم نشهدها في أي بلد من بلدان العالم العربي لحد الآن.وإذا كنا هنا نرفض بكل وضوح التدخل الامبريالي في ليبيا فإننا نختلف مع الموقف الذي توحد عليه اليسار في أمريكا اللاتينية والذي يستند ضمنا أو صراحة إلى اعتقاد مفاده أن النظام الليبي معاد للامبريالية واصفا السفاح ألقذافي بالصديق والأخ وغيرها أما موقف حزب الله الداعم للنظام السوري الدموي فيدعو للشفقة وقد اهتزت معه استقامة ونزاهة زعيمه نصر الله.
القوى الفاعلة في اتجاه التغيير المشار إليه هي في الواقع كل الطبقات الشعبية(من الفئات الوسطى إلى الطبقة العاملة) استطاعت أن تجر معها حتى بعض العناصر من البرجوازية المتضررة من الأنظمة(بشكل جد محدود لحد الساعة في المغرب،التحاق جزء من الجيش وأطر الحزب الحاكم في اليمن وكذلك الأمر وان بدرجة أقل في سوريا،التحاق جزء من الجيش ومسؤولين في الدولة بالمعارضة في ليبيا...).ويلعب الشباب في الصراع الدائر دورا رياديا،هذا الدور يجد تفسيره موضوعيا في كون الشباب من أبناء الطبقات الشعبية هو الأكثر تضررا من العولمة الرأسمالية والسياسات الليبرالية المتوحشة وانعكاساتها الاجتماعية (وعلى رأسها البطالة) وهو الأكثر رفضا للظلم والفساد والاستبداد(وله بالتالي تطلعات تقدمية واضحة) وهو الأكثر تعلما وامتلاكا للمهارات التقنية بما في ذلك تقنيات التواصل الحديثة (يصل عدد مستعملي الفايسبوك في المغرب حوالي 3 ملاين مواطن(ة) من بينهم حوالي 400 ألف مسيس(ة) مقابل حوالي مليون مسيس(ة) في مصر)الشيء الذي مكنه من تجاوز سيطرة الدولة على وسائل الإعلام وتخطي الخطوط الحمراء التي ترسمها الايدولوجيا الرجعية المتحكمة في كل أنماط التعليم(لنتذكر خطاب الحسن الثاني بعد انتفاضة 1965 حيث قال "من الأفضل أن تكونوا كلكم أميون") وهو(أي الشباب) نما في محيط أو أحضان اليسار،وقد انفلتت طلائعه المناضلة نسبيا من سياسات التدجين التي تنهجها الأنظمة السائدة لذا فسقف مطالبه كاتجاه عام يتجاوز سقف مطالب القوى السياسية المشاركة(هذا واضح في المغرب كما هو في مصر وفي اليمن أيضا).وهذا ما يشرعن ويفسر الازدواجية التنظيمية لحركة 20 فبراير في المغرب حيث تتفاعل كل من "حركة شباب 20 فبراير" مع "مجالس الدعم للحركة" التي تضم القوى السياسية والنقابية والجمعوية المتفقة على مطالب الحركة.ولكن هذه الازدواجية ليست مبدءا ولا قدرا محتوما إذ الأشكال التنظيمية قابلة للتطور مع تطور الحركة نفسها.
2)في الثورة:
من أهم انجازات الأحداث الجارية على الصعيد السياسي والفكري أنها أعادت الاعتبار لمفهوم الثورة وأن الثورات هي قاطرات التاريخ.فبعد سقوط جدار برلين وفشل تجارب البناء الاشتراكي البيروقراطي والهجوم المضاد الرجعي للامبريالية وأبواقها تم الترويج بقوة لأطروحة البقاء للإصلاح كأقصى ما يمكن الطموح إليه مما سبب في بلادنا في تدويخ عدد غير يسير من مناضلي الحركة الماركسية-اللينينية المغربية تشهد عليه التطاحنات التي عرفتها ما يسمى بعملية التجميع في بداية تسعينات القرن الماضي.فالأحداث الجارية أكدت أن السيرورات النضالية للشعوب لا يمكن أن تؤطر بمنطق التراكم الكمي إلى ما لا نهاية بل لا بد لها أن تتوج في لحظات محددة بقطائع معينة.
تنشأ الثورات نتيجة اصطدام قوى الإنتاج بعلاقات الإنتاج التي تنمو في أحضانها ويميز ماركس بين ثورة ذات طابع سياسي وهي التي تقضي على السلطة السياسية القائمة(السلطة القديمة) وبين الثورة الاجتماعية وهي التي تقضي على العلاقات الاجتماعية القائمة(المجتمع القديم).في تونس يمكن الحديث عن ثورة سياسية أما في مصر فما حدث هو أقل من ثورة سياسية وأكثر من انتفاضة.
إن نجاح الثورة،يفتح المجال لتناقضات جديدة يجب معالجتها بشكل يضمن استمرار المعركة وتطورها نحو مستويات أرقى.وهكذا،نضال أبدي لحل التناقضات ولا يوجد شيء اسمه المساء الكبير وليس صحيحا القول بأننا قبل الثورة لا نساوي شيئا وبعد الثورة سنصبح كل شيء(كما جاء في نشيد الأممية) ومما لاشك فيه فان القضاء على الرأسمالية القائمة على استغلال الإنسان للإنسان سيسهل القضاء على شرور أخرى علما أن المرحلة التاريخية بالنسبة لهذه البلدان(البلدان التابعة) ليست مرحلة إقامة الاشتراكية.
ينهض المسلسل الثوري الذي يولد أي ثورة على أرضيات مادية ومعطيات سياسية ملموسة تختلف من بلد إلى آخر رغم تشابه الظروف العامة(وجود بنية قبلية أم لا،ديكتاتورية فجة أم ديمقراطية مقنعة،شكل النظام السياسي:نظام ملكي أم جمهوري،دور الجيش والبوليس السياسي،الموقع الجيوستراتجي،...).وان حديثنا عن الثورة لا يعني قطعا أننا في المغرب بصدد لحظة ثورية.فالحركة لازالت في بدايتها رغم كونها تنمو وتتوسع والتعبيرات السياسية للقوى الوسطى لازالت في صفوف القطب الموالي للنظام والترددات في صفوف الأعداء الطبقيين للشعب لم تصل بعد ذروتها أما العطب الآخر فيتمثل في ضعف تمفصل الحركة مع كفاحات الطبقة العاملة وعموم الكادحين بمن فيهم الفلاحين الكادحين أي في عدم التحاق الطبقات الأساسية بالحركة.
لذا فالأمر يتطلب عملا في العمق،عملا وحدويا صبورا وطويل النفس يستفيد مما يجري تحت أعيننا ولكن دون إسقاط.أما المزايدة على الحركة من طرف البعض بشعارات لا تتناسب مع مستوى تطورها فيؤدي إلى إعطابها في المهد أو إلى عزلة أصحابها.كما أن احتقار الحركة وعدم الانخراط فيها من طرف البعض الآخر بدعوى أنها حركة إصلاحية أو بدعوى غياب حزب الطبقة العاملة يعد خطأ تاريخيا لا يغتفر ذلك أن مثل هذه الطروحات ليست هي كذلك سوى لغوا وضربا من الجملة الثورية المفصولة عن الواقع تترك الحركة فريسة للقوى التي لها مصلحة في فرملة الحركة ولجمها وتوجيهها الوجهة التي ترغب فيها وتسلم لها المبادرة السياسية ولا تفهم أن حزب الطبقة العاملة سيبنى في خضم كل المعارك بما فيها تلك التي تسعى إلى انتزاع إصلاحات،سيبنى تحت نيران العدو.