علاقة الدين بالدولة وبالسياسة


عبد الرحمان النوضة
2011 / 5 / 28 - 07:24     

أهم المناقشات السياسية في الظرف الحالي بالمغرب، هي تلك التي تتناول قضية تغيير الدستور، وتدور حول ما ينبغي تسجيله في الدستور المنشود، وحول ما يلزم حذفه من الدستور، وحول مبررات تلك التعديلات الدستورية.

يستحيل تحقيق الديمقراطية بدون فصل الدين عن الدولة

عبد الرحمان النوضة( )

بعد خطاب الملك محمد السادس في 9 مارس 2011، وبصدد جلسات الاستماع الجارية بين اللجنة المكلفة بإعداد مشروع دستور للمغرب من جهة، ومن جهة أخرى القوى السياسية، طرحت بعض الأحزاب، (مثل الاستقلال، والحركة الشعبية، والعدالة والتنمية، وتجمع الأحرار، والأصالة والمعاصرة، والبديل الحضاري)، أنها تريد الحفاظ على "إمارة المؤمنين". وتظهر هذه الأحزاب "ملكية أكثر من الملك"، أو مهووسة بضرورة تغليب الدين على السياسة، ولو في المظاهر.
وكل حزب, أو كل شعب، يقبل إخضاع الدولة أو السياسة للدين، فإنه لن يستطيع أن يكون ديمقراطيا. ويلزم أن نقولها بكل وضوح، وبكل صراحة : ما دامت الشعوب العربية تُخْضِع الدولة والسياسة والاقتصاد والثقافة للدين، فإن هذه الشعوب ستبقى هي الأكثر تَخَلّفا عبر العالم. ويُمكن لكل ملاحظ موضوعي أن يرى أن الشعوب الأكثر تقدما عبر العالم، هي بالضبط تلك التي قطعت أكثر الأشواط في مجال فصل الدين عن الدولة وعن السياسة.

إخضاع الدولة للدين يلغي العقل
لأن الدولة السليمة، أو الحَكامَة الجيّدة، هي تلك التي تُخْضِع تدبير المجتمع للعقل، وللتشاور، وللديمقراطية. بينما إخضاع الدولة أو السياسة للدين، يُغَلّب المُقَدّس، ويُبخس العقل، ويُلغي الشورى، ويدوس الديمقراطية، ويسهل الانحراف نحو الاستبداد السياسي (والاقتصادي، والإعلامي، والثقافي). فلا يمكن تحقيق الديمقراطية إلا عبر الفصل بين الدين والسياسة. والأحزاب التي تنادي بالحفاظ على "إمارة المؤمنين"، أو على الفصل 19 من الدستور القديم المنبوذ، تعوق انتقال الشعب من الاستبداد إلى الديمقراطية، ولو أنها لا تعي ذلك.
يمكن لِلْمَلِك أن يكون مَلِكا، دون الحاجة إلى لقب "أمير المؤمنين". ويمكن لِلَقَب "ملك" أن ينتج عن توافق تاريخي بين الشعب والملك، وأن يكون مضمون هذا التوافق هو "قيام ملكية برلمانية، مقابل تحقيق الديمقراطية". وإلاّ، فقد تصبح "الجمهورية البرلمانية" هي الحل الوحيد المقبول.
ونسأل من يدعي أن "إمارة المؤمنين" ضرورية : لماذا هي ضرورية ؟ ما هي حُجَجُكم ؟ لا يوجد ولو مبرر واحد معقول، لا في المنطق، ولا في الدين، يبرر مؤسسة "إمارة المؤمنين". وحتى القرآن لا يدعو إلى إقامة "إمارة المؤمنين". إن "إمارة المؤمنين" هي استغلال للدين في السياسة. هل كَوْنُنا مؤمنين يُجبرنا بالضرورة على أن نكون تحت "إمارة" ملك مستبد مثل الحسن الثاني ؟

هل الاسلام يوصي ب "إمارة المؤمنين" ؟
وهل الإسلام يَفْرِض على الشعوب المسلمة أن تخضع لملكية مستبدة، مثل المَلَكِيّات التي حكمت شعبنا خلال عدة قرون، وأبقته في التّخلُّف ؟ على عكس تلك الإدّعاءات، ألا توجد في القرآن تَقيِيمَات سلبية للنظام الملكي (مثل الآية القائلة : "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أَعِزّة أهلها أَذِلّة، وكذلك يفعلون" (سورة النمل، سورة 27، آية 34) ؟ أليست "إمارة المؤمنين" مجرد استغلال للدين في السياسة ؟ وحتى إذا ما وجد بعض الفقهاء، من بين خدام السلطان، تأويلا لآية ما، أو لحديث ما، يبرر "إمارة المؤمنين"، أو يبرر ملكية مستبدة، فإننا - في هذه الحالة - سنُفَضِّل الديمقراطية على الدين. لأن الهدف هو تحرير الإنسان، وليس حماية الدين، ولأن الله كاف وحده لحماية دينه.
إن "إمارة المؤمنين" هي مجرد بِدْعَة، أو حِيلة سياسية، تُمَكِّن الحاكم وأتباعه من استغلال قداسة الدين، بهدف إضفاء الشرعية على نظام سياسي مستبد.
لم تكن "إمارة المؤمنين" دائما موجودة عبر التاريخ. وفي ما يخص المغرب، أشار بعض الملاحظين، أن علال الفاسي، وعبد الكريم الخطيب، هما اللذان اقترحا دَسْتَرَة "إمارة المؤمنين" على الحسن الثاني. فوجد فيها الحسن الثاني حيلة سياسة قوية، وسجلها في دستوره الممنوح، وأنجح هذا الدستور باستفتاء مُزَوّر. وكان هدف الحسن الثاني من "إمارة المؤمنين" هو تبرير استبداده، واحتكاره لكل السُّلَط. وكان الحسن الثاني يسْتَغلّ "إمارة المؤمنين" لفرض "قداسته"، ولتعليل نزواته الاستبدادية، ولتبرير قمع المعارضين السياسيين، دون أن يلتزم بمباديء الإسلام. فَدُعَات "إمارة المؤمنين" لا يأخذون من الإسلام إلا ما يخدم مصالحهم الخاصة. يريدون أن يستمدوا شرعية الحاكم من الدين، وليس من الشعب. ثم يَحرُمون الشعب من حقه في اختيار نِظام الحُكْم، ومن اختيار الحُكّام.
وتحت نظام "إمارة المؤمنين"، يصبح ممنوعا على الشعب أن يطالب بالديمقراطية. وكُلّما رفض شخص أو جماعة سياسة "ولي الأمر"، أو عارض حكم "أمير المؤمنين", يصبح ذلك الشخص أو الجماعة متهما بأنه يرفض الدين نفسه. فيُقَدّم ذلك الصراع السياسي على أنه صراع ديني. والهدف الخفي هو تحريض الجماهير الجاهلة ضد المعارضين التقدميين. بينما في الحقيقة، الدين بريء من إِدِّعَاءات الحاكم، وبريء من مؤسسة "إمارة المؤمنين"، وبريء من الفقهاء المدافعين عن "إمارة المؤمنين".
لنتساءل : هل يمكن، أو هل يعقل، أن يمنح الدين (أو الإله) الشرعية لحاكم ما, أو لنظام سياسي ما ؟ من يَدّعي ذلك، إنما هو مخطئ أو كذّاب. مثل هذه الإدّعاءات مرفوضة. إنها مجرد خُرافات تستعمل للتحايل على عقول الجماهير الجاهلة، وذلك بهدف تبرير إخضاعها لنظام سياسي مُستبد.
هل الخضوع ل "أمير مؤمنين" وراثي، ومقدّس، ومُسَيْطِر على جميع السلط، وغير قابل للمساءلة، ولا للمحاسبة، هل هذا يتماشى مع الديمقراطية ؟ هل الأفراد والجماعات الذين لا يقبلون حقوق الإنسان، ولا مباديء الديمقراطية، "إلا إذا كانت لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية"، هل يمكن لهؤلاء أن يصبحوا ديموقراطيين ؟
إن كل من يقبل بأن يكون الملك "أميرا للمؤمنين"، يصبح مُكَبّلا في كثير من المجالات، وخاصة منها المجال السياسي. حيث يصبح ممنوعا عليه نقد "أمير المؤمنين"، أو نقاش صلاحياته، أو تدبيره للحكم. لأنه عند إندلاع كل أزمة سياسية حادة، تُؤَوّل "إمارة المؤمنين" على أن الملك مُقَدّس، وأنه خليفة الله في الأرض، أي أنه فوق البشر، وأن شرعيته مستمدة من الله، وأن آراءه هي الحقيقة المطلقة، وأن ممارسته هي الفضيلة المِثالية. وبالتالي لا يحق لأي مواطن، ولا لأية مؤسسة، ولا لأية جماعة، ولو كانت هي الأغلبية المطلقة من الشعب، أن تخالف "أمير المؤمنين"، أو أن تنتقده، أو أن تحاسبه، أو أن تعبّر عن الرغبة في تغيير نوعية النظام السياسي القائم. فتصبح "إمارة المؤمنين" هي المبرر الأقوى للإستبداد السياسي، والاقتصادي، والإعلامي، والثقافي. بينما في الأنظمة الديمقراطية (مثل الملكية الإنجليزية، أو الملكية البلجيكية، أو الملكية الإسبانية، أو الملكية الدانمركية، أو الملكية اليابانية، الى آخره)، لم يَعُد الملك مُنَزّها من النقد، ومن المساءلة، ومن المحاسبة، إلا بعدما تَوَقّف نهائيا عن التدخل في الدولة، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الإعلام، وفي الثقافة.

هل يمكن أن تلتزم الدولة بالدين ؟
يخاف البعض من أن تؤدي "الحداثة"، أو "نمط الحياة الغربي"، الى إضعاف الدين. فيطرح هؤلاء البعض أنه "يجب أن تكون الدولة إسلامية"، أو أنه "يجب أن يكون دين الدولة هو الإسلام". وهذا الطرح هو مجرد نَزْوَة إيديولوجية،ى أو دُغْمَائِية (dogmatique). فلم توجد، ولن توجد أبدا، ولو دولة واحدة عبر العالم، يمكن أن يجمع الخُبَراء على أنها حقيقةً "دولة إسلامية"، أو "دولة مسيحية"، أو "دولة يهودية"، الى آخره. فهل حدث، ولو مرة واحدة عبر التاريخ، أن كانت في المغرب الدولة إسلامية حقيقةً ؟ وهل حقيقة الدولة إسلامية في السعودية أو في إيران ؟ وهل الدولة مسيحية في إيطاليا، أو هندوسية في الهند، أو يهودية في إسرائيل، أو شِنْطُوسِيّة (shintoïste) في اليابان ؟ لا، هذه مجرد إدّعاءات إيديولوجية فارغة. وحَتّى دولة الفاتيكان في روما، لم تكن أبدا حقيقةً مسيحية. والجرائم التي ارتكبتها مثلا دولة الفاتيكان، على امتداد القرون، الى جانب أنظمة سياسية إقطاعية، ثم استعمارية، ثم فاشية، الى آخره، تُثبِت أن المسيح والمسيحية بريئان كل البراءة من دولة الفاتيكان. كما أن الدين اليهودي بريء من الكيان الصهيوني الاستعماري في إسرائيل. كما أن الإسلام بريء من دولة السعودية التبعية للإمبريالية.
والسر في حرص بعض الإسلاميين على أن ينص الدستور على أن "دين الدولة هو الإسلام"، هو أن هؤلاء الإسلاميين يريدون فيما بعد استغلال هذه السند الدستوري لمنع أو لتجريم كل فكر، أو ممارسة، أو قانون، أو مشروع، يعتبرونه خارجا عن "الشريعة الإسلامية". وفي هذه الحالة، فإن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، هي بالضبط المستهدفة والمهددة. حيث أن عددا من مباديء الديمقراطية أو حقوق الإنسان تختلف عن، أو تتناقض مع، "الشريعة الإسلامية".
وفي حالة إذا ما نجح القطب المحافظ في المغرب في فرض "دولة إسلامية"، فهل تعرفون ماذا سَيَقَع ؟ هاكُم بضعة أمثلة من بين آلاف : حينما صَرَخ المُتظاهرون في "حركة 20 فبراير 2011" بالمغرب بشعار "الشعب يريد إسقاط الفساد"، أَصْدَر "المجلس العلمي الأعلى"، التابع لوزارة الأوقاف الإسلامية، في 31 مارس 2011، أصدر بيانا يُهَدّد فيه بما يلي : عند "الدعوة الى إلغاء الفساد (...) لا بد أن تكون (الدعوة) شاملة تُطَال الفساد العقدي". وبعبارة أوضح، يقول هؤلاء الفقهاء : إذا أردتم إزالة الفساد السياسي أو الاقتصادي، فيجب قبل ذلك أن نزيل الفساد في الإيمان، وفي العبادة، وفي العقيدة ! وأَضاف هؤلاء الفقهاء في بيانهم : "للأغلبية الحق في تبني القوانين التي تُجَرّم هذا الفساد" العقدي. أليس هذا استبدادا ؟ ألا يؤدي هذا النوع من "الدولة الإسلامية" إلى إقامة ما يشبه "محاكم التفتيش" (Inquisition ecclésiastique)، التي وُجِدت في أوروبا بين القرن 12 والقرن 15 الميلادي،حيث كانت هذه المحاكم تُحَقّق في جودة إيمان المواطنين، وتحكم بالتعذيب، أو بالإعدام، على الذين تتهمهم الكنيسة بسوء الإيمان ؟ وهل نَسِيتُم أن الدولة المغربية، في مارس 2003، حكمت بالسجن على 14 شابا من هواة موسيقى "الروك" (hard rock)، وذلك بتهمة "عبادة الشيطان، والقيام بأفعال من شأنها زعزعة إيمان المسلمين المغاربة" !؟ كأن موسيقى "الروك" "تزعزع إيمان المسلمين"، بينما مهرجان موازين للموسيقى (الذي تنظمه الدولة) لا يزعزعها ! ولمّا خرج هؤلاء الشبان من السجن، فَرّ بعضهم الى خارج المغرب، وطلبوا اللجوء السياسي، وحصلوا على جنسيات أجنبية. أليست هذه هي "الدولة الإسلامية" التي يريدها هؤلاء الفقهاء المحافظين ؟ وهل يمكن أن يكون النقاش السياسي مُجْدِيا مع هؤلاء الفقهاء ؟ أليس الحل هو فصل الدين عن الدولة ؟
وفي الحقيقة، فإن الدولة ليس لها دين، ولا يمكن أبدا أن يكون لها دين (سواء تعلق الأمر بالإسلام، أم بالمسيحية، أم باليهودية، أم بغيرها من الأديان). فلا يمكن للدولة أن تمارس هذا الدين، ولا أن تَتقيّد بمبادئه. لأن الدولة هي مؤسسات، وأجهزة، وآليات، وموازين قوى، وإجراءات، وقوانين، وعلاقات، وصراعات، وتدابير، وحِيّل، وغش، ونِفاق، وخِيانات، إلى آخره. ولا مكان في مُكَوّنَات الدولة لا للإيمان، ولا للقداسة، ولا للعبادة، ولا للروحانيات، ولا للأخلاق المجردة. وحتى إذا تَخَلّلت تلك الدولة طقوس دينية، فإن تلك الطقوس تكون مجرد دِيكُور مُخادع. ومن يدّعي عكس ذلك، إنما يُغالط الناس.
وليس غريبا أن تكون جميع دول العالم متشابهة، في أجهزتها وآلياتها، في سياساتها وفي قوانينها، في تصرفاتها وانحرافاتها، في إيجابياتها وفي سلبياتها، وذلك بدرجات متفاوتة، سواء كان سكان تلك البلدان مسلمين، أو مسيحيين، أو يهود، أو بوديين، أو هندوسيين، أو بدون دين، إلى آخره.

لنحذر الحيل السياسية
البعض يَدّعُون أن المغرب "إستثناء". وهذه مجرد حيلة سياسية، ويُراد منها إيهام الجماهير أن مباديء الديمقراطية التي تَنْطَبِق على مجمل بلدان العالم، لا يقبل أن تَنْطَبِق على المغرب. وهذا إدعاء خاطيء. لأن القوانين الموضوعية التي تحكم سائر بلدان العالم تَنْطَبِق كذلك وبالضرورة على المغرب. ولا يُسْتَثنَى أي بلد في العالم من ضرورة الخضوع لهذه القوانين الموضوعية. والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي توجد في سائر بلدان العالم، توجد كذلك في المغرب، ولو بدرجات مختلفة.
وهناك من يدعي أن كل المواطنين مُلْزَمُون باحترام "ثوابت" المغرب، وممنوع عليهم نقاشها، أو المطالبة بتغييرها. وهذه مجرد حيلة سياسية أخرى. إن كل من يتكلم عن "ثوابت"، أو عن "مقدسات"، أو عن "خطوط حمراء"، إنما يقصد أن هناك إجراءات، أو مؤسسات، أو قوانين سياسية، لا يُسمح للشعب بأن يحاول مراجعتها، أو نقدها، أو تغييرها. وهذا هو الاستبداد بعينه. بينما في الحقيقة، السلطة تنبع من الشعب وحده. ومن حق الشعب أن يُغَيّر كل ما يَمَسّ حياته السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الإعلامية، أو الدينية، أو الثقافية. بل القانون العام الذي يحكم الكون كله، هو أن كل شيء، ومهما كان، يَتطَوّر ويتغَيّر باستمرار، وذلك حسب الظروف التاريخية، وحسب موازين القوى بين الأطراف المتنافسة. بل حتى الدين، وكذلك علاقة الدين بالدولة، يتغيران عبر التاريخ. والمحافظون، المُستفيدون من امتيازات مفرطة في الأوضاع القائمة، هم الذين يريدون إقامة "ثوابت"، أو "مقدسات"، أو "خطوط حمراء"، وذلك بهدف منع الشعب من الاعتراض على استمرار تلك الامتيازات الجائرة أو إلغائها.
والبعض يدعي أيضا أنه يوجد في المغرب "إجماع وطني"، تارة حول الملكية، وتارة حول "البيعة"، وتارة حول "إمارة المؤمنين"، وتارة حول "المسلسل الديمقراطي"، وتارة حول الصحراء، إلى آخره . وهذه خرافة أيضا. بل هي مجرد حيلة سياسية يُرَاد منها تخويف أو ترهيب الجماهير التي لها مواقف مخالفة لمواقف الحكم القائم، وذلك بهدف إسكات المعارضين، وبهدف منعهم من التعبير الحر عن قناعاتهم. فلا يتكلم عن وجود "إجماع سياسي" في بلد ما سوى الحُكّام المستبدون وأتباعهم الذين لا يعترفون لمعارضيهم بمشروعية الدفاع عن اختياراتهم المخالفة. بل الحقيقة العامة، هي أنه في كل جماعة، وفي كل مجتمع محدد، توجد بالضرورة أفكار متفاوتة، ومواقف مختلفة، واختيارات متناقضة, سواء في ميدان السياسة، أم الاقتصاد، أم الدين، أم الثقافة، إلى آخره. والحل الوحيد، المعقول، للفصل في ما بين هذه الخلافات، وللتَّعايُش، هو الاحتكام إلى الشعب، والاحتكام لمباديء الديمقراطية، كما هي متعارف عليها عالميا.
إننا نحترم كل دين، ونحترم كل المتدينين، ونحترم غير المتدينين، أينما كانوا. لكننا لن نقبل أبدا بأن يفرض علينا أي كان، إجراءات سياسية استبدادية، أو غير عادلة، وذلك بدعوى أنها "مقدسة"، أو "نابعة من الدين"، أو بحجة أنها ناتجة عن "خصوصية وطنية استثنائية"، أو عن "إجماع وطني"، أو أنها مستمدة من "تقاليدنا العريقة"، إلى غير ذلك من الحِيَل السياسية السخيفة.

الحل هو فصل الدين عن الدولة
و يعني فصل الدين عن الدولة، من جهة أولى، أن لا تتدخل الدولة في شؤون الدين. ويعني من جهة ثانية، أن لا يتدخل الدين في شؤون الدولة. وكلما حاولت الدولة ضبط عقيدة المواطنين، أو التّحَكّم في عباداتهم، فإنها تصبح دولة مستبدة. وكلما حاول بعض رجال الدين أن يفرضوا على الدولة تصوراتهم أو توجيهاتهم الدينية، فإنهم يصبحون حزبا سياسيا مستبدا.
إن الدين قائم بذاته، ومحترم في كل البلدان، ولا يحتاج الى أن تعترف به الدولة، ولا الى أن تحميه الدولة.
وإن حرية التفكير، وحرية التعبير، تَسْتَوْجِبَان بالضرورة حرية العقيدة، وحرية العبادة، أو عدم العبادة. وهي كلها مُسَطّرة ضمن حقوق الإنسان. ومن حق كل مواطن أن يمارسها، أو أن لا يمارسها، وذلك حسب قناعته الشخصية، بشرط واحد فقط، هو أن لا يسيء إلى الحقوق المشروعة لمواطنين آخرين. وكل دولة تحاول ضَبْط أو تقييد عقيدة المواطن، أو تحاول فرض عبادات معينة عليه، أو تحاول منعه من ممارسة العبادة التي يريد، تصبح هذه الدولة مستبدة.
ولا نقبل بتاتا أن تحصر الدولة مرجعيتنا الفكرية، أو القانونية، أو السياسية، أو الثقافية، فقط في الدين، أو في الإسلام، أو في الشريعة. على عكس ذلك، نريد أن تكون مرجعياتنا متعددة، مفتوحة، بلا حدود، لكي تشمل كل التراث الإنساني العالمي. فمن من حقنا، ومن واجبنا، و أن نستفيد من كل الثقافات، القريبة والبعيدة، الجديدة والقديمة، الشرقية والغربية، المُتَدَيّنة وغير المتدينة، وخاصة منها تلك التي أثبتت فعاليتها، أو عدالتها، أو صوابها. ومهما كانت أية مرجعية مشروعة أو مألوفة، فإننا لن نقبل شيئا منها إلا إذا كان معقولا، وعادلا، وفعالا. فإن لم يكن كذلك، رفضناه، مهما كان مصدره.
وخلاصتنا( ) هي أن "إمارة المؤمنين" تتناقض مع الإسلام، وتتناقض مع الديمقراطية؛ وأن الفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والسياسة، هو من صلب مباديء الديمقراطية؛ وبدون هذا الفصل، تنتفي الديمقراطية.