قراءة في كتاب -انهيار الرأسمالية... أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود-(4)


هاشم نعمة
2011 / 5 / 28 - 00:53     

وشعر الأمريكيون بصدمة مروعة من هذه العمليات الإجرامية. لذلك، كانت خيبة ظنهم عظيمة فعلاً حينما وصلت إلى سمعهم قصص النصب والاحتيال. فوفق ما كتبه، كوبر القيادي في منظمة الدفاع عن حقوق المستهلكين "إن الأزمة الراهنة هي أزمة تضرب جذورها في أساس القيم الأخلاقية السائدة في الرأسمالية الأمريكية"، وعلى الصعيد نفسه تحدث الاقتصادي كروغمان عن وجود "نقطة تحول في المنظور الذي ينظر الأمريكيون من خلاله إلى أنفسهم".

تسببت سياسة بوش الابن الزائفة في وصول الدين الحكومي إلى مستويات ما كانت تخطر على بال قط: ففي سنوات حكمه الثماني ارتفعت مديونية الحكومة من نحو 3 تريليون إلى أكثر من 6.2 تريلون دولار. ومعنى هذا، أن الرئيس الثالث والأربعين كان قد راكم ديوناً جديدة بلغت قيمتها قيمة مجمل الدين العام الذي تراكم في عهد الواحد والأربعين رئيساً الذين حكموا البلاد، بدءا من جورج واشنطن وانتهاء ببوش الأب. وحتى الديمقراطيون، لم يعربوا عن اعتراض ملموس على هذه السياسة. فبوش يبرر التزايد الهائل في الدين العام بالكفاح ضد الإرهاب، وبالحربين اللتين تخوضهما أمريكا بقيادته، في أفغانستان والعراق. فعلى خلفية هاتين الحربين، زادت وزارة الدفاع نفقاتها بنحو كبير. فنحو نصف الديون الجديدة، التي استدانها بوش حتى صيف 2008، يكمن سببها، في الارتفاع الذي طرأ على الميزانية العسكرية الأمريكية.

تعين على ملايين العائلات الأمريكية إخلاء منازلها وذلك لأنها ما عادت قادرة على خدمة ما بذمتها من قروض. والبعض منهم يُهجرون من منازلهم بكل معنى الكلمة، لا لشيء إلا لأن المصارف تتطلع بفارغ الصبر إلى المال. فخلال الفترة بين نيسان وحزيران عام 2008، فقط، جرى، عرض 739714 داراً للبيع بالمزاد العلني. وزاد عدد حالات الإفلاس إلى أكثر من الضعف خلال عام واحد وإلى أربعة أضعاف خلال ثلاثة أعوام. فواحد من كل 65 داراً سكنية، جرى عرضها للبيع بالمزاد العلني في كاليفورنيا. وكان الوضع في نيفادا، الولاية التي تأوي مدينة المقامرين، أشد وخامة؛ فواحد من كل 43 داراً، جرى عرضها للبيع في المزاد. إن هذا التهجير ما كان له مثيل حتى في حقبة الكساد الكبير الذي خيم على الولايات المتحدة في الثلاثينات. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد أكدت بأن الحُلم الأمريكي يباع بالمزاد العلني في الوقت الحاضر.

في البداية، تصور المرء أننا إزاء أزمة محلية، إزاء مشكلة يعاني منها بضعة عشرات الآلاف من أصحاب المنازل في الولايات المتحدة. غير أن هذه الأزمة سرعان ما انتقلت من سوق العقارات إلى سوق التمويل والمصارف، ومن ثم إلى مجمل الاقتصاد الأمريكي أولاً، والاقتصاد الأوروبي فيما بعد. إن هذه الأزمة هي أوخم أزمة تعصف في أسواق المال منذ حقبة الكساد الكبير.

دفع العالم ثمناً باهظاً بسبب هذه الأخطاء. ففي الأسابيع التالية انهار مجمل النظام المالي. فالثقة بين المصارف تبددت بالكامل. فالإقراض بين المصارف توقف تماماً، وصار يهدد الجميع بالإفلاس. فكل مصرف يسأل: على من ستدور الدائرة، ويعلن الإفلاس؟ وعلى خلفية هذا التطور، انهارت بالكامل المتاجرة بالمشتقات ووصلت أسواق الأسهم في البورصات العالمية إلى الحضيض حيث شهدت، في خريف 2008، عمليات بيع للأسهم لم تشهد لها مثيلاً منذ 1929.

وكانت المصارف قد قامرت بأوراق مالية، غامضة الخلفيات، وصفها المستثمر بوفيت، بأنها "أسلحة مالية من أسلحة الدمار الشامل" قامرت بما يسمى مبادلات التأمين ضد مخاطر إفلاس هذه الشركة أو تلك والمسماة اختصاراً CDS. وكانت قيمة هذه الأدوات المالية قد بلغت 62 تريلون دولار في مطلع 2008، أي زادت قيمتها على إجمالي الناتج الذي يحققه العالم سنوياً. وقد هاجم المدعي العام في نيويورك صناديق المخاطر بعبارات أكثر صرامة، عندما قال: "إنهم أشبه بالعصابات التي تنهب خيرات المنازل والأسواق التجارية بعد كل إعصار تتعرض له المدن"

وخلال بضع ساعات انتشرت أخبار مفزعة حقاً: أخبار أنذرت بأن وول ستريت لن يكون، من الآن فصاعداً، هو نفسه كما عرفه العالم حتى الآن. فخلال ثلاثة أيام اختفت ثلاثة من كبرى بيوت الاستثمار: ليمان براذرز أعلن الإفلاس وميريل لينش بيعت وغولدمان ساكس ومورغان ستانلي تحولا إلى مصرفين قابضين متواضعين. لقد استسلم مركز الرأسمالية للمكتوب. استسلم هذا المركز المالي الذي كان حتى ذلك الوقت مفخرة أمريكا، والمكان الذي يحدد للاقتصاد العالمي شروط اللعبة، والذي كان رمز العجرفة والغطرسة، والإهمال والحياة المريحة الناعمة. فمصارف الاستثمار درت، على مدى عقود كثيرة، مالاً وفيراً على أمريكا، كانت الآلة السحرية التي تكلفت بخلق المال بلا انقطاع. غير أن هذه الآلة توقفت عن العمل الآن. وكان شتاينبروك وزير المالية الألماني قد أكد أن "الولايات المتحدة لم تعد القوة العظمى في النظام المالي العالمي". وشعر العالم برمته بآثار الصدمات التي نشأت عن هذه الأزمة: فقد انهارت أسواق الأسهم في كل بقاع المعمورة. وتعين على روسيا أن تغلق أبواب البورصة وأن تضخ عشرات المليارات من الدولارات في سوق الأسهم، وترنح في بريطانيا وألمانيا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ العديد من المصارف. وكيفما اتفق، فقد تضعضعت ثقة الأمة الأمريكية بنفسها. فأمريكا غدت كما تنبأ عالم الاجتماع سينيت، "بلداً في طور الانحطاط". على صعيد آخر، راحت أيسلندا تتوسل إلى صندوق النقد الدولي راجية منه منحها قرضاً يساعدها على مواجهة الأزمة. لقد أفلس إفلاساً مروعاً هذا البلد، الذي نفذ بالكامل النصائح التي قدمها له الاقتصاديون من أنصار الليبرالية المحدثة في الثمانينات والتسعينات. وجرف تيار الأزمة بلدانا بأكملها، مثل ايرلندا والمجر.

ليمان براذرز هذا الاسم الذي ستتحدث عنه كتب التاريخ. فإفلاس مصرف الاستثمار هذا تسبب في اندلاع زلزال أمسى علامة بينة تشير إلى بداية نهاية الرأسمالية المحررة من الضوابط والقيود. فعلى مر التاريخ، لم يسبق قط، أن صفت المؤسسات المالية، على جناح السرعة، هذا الكم الهائل من متاجرتها بالأوراق المالية. فانهيار هذا المصرف كان قد خلق سلسلة ردود أفعال ما كان أحد قادراً على السيطرة عليها، لا الحكومات ولا المصارف المركزية. فقد تراجع مؤشر داو جونز إلى أقل من 10 آلاف نقطة. أي سجل انخفاضاً بلغ 800 نقطة. إن التراجع بهذا المقدار في يوم واحد حدث ما كان له مثيل في تاريخ هذا المؤشر البالغ من العمر 112 عاماَ.

أمسى الاقتصاد في أمس الحاجة إلى منقذ لايزال، وحده، يتمتع بشيء من الثقة، وهو الحكومة. إذ هي الطرف القادر على الوقوف في وجه الانهيار، وتأمين الاستقرار. لكن الثمن عظيم حقاً، فقد تعين عليها أن تخصص مئات المليارات لإسعاف المصارف، لأنها تعلم جيداً أن العزوف عن هذا التدبير يهدد بنشأة سلسلة ردود أفعال شبيهة بالأزمة التي تعرض لها الاقتصاد العالمي في نهاية العشرينات، إذ سيتعين عليها، تمويل الملايين من العاطلين عن العمل.

تعصف أزمة الرأسمالية بعالم أمسى يعيش انقلاب جذري. فالدول الصناعية تخسر أكثر فأكثر هيمنتها، في حين تبذل دول الاقتصاديات الناشئة الجهود لاحتلال المراتب المتقدمة. إنها عقدت العزم على إجبار العمالقة القدماء على التنحي جانباً. فسابقاً، كان الأوروبيون والأمريكيون يتفاوضون مع بعضهم فقط بشأن القواعد المتحكمة في التجارة السلعية. أما الأمم الأخرى، فما كان من حقها غير التوقيع على ما تفرضه عليها الدول الصناعية. أما الآن، فقد أمست دول الاقتصاديات الناشئة تصر على ضرورة مراعاة وجهات نظرها ومصالحها، لاسيما أنها تفوقت، على الدول الصناعية من حيث مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي.

إن تراث الليبرالية المحدثة الذي خلفه ريغان وتاتشر قد نحي جانباً ولم يعد له دور يذكر. والأمر الواضح، هو أن عصر التطرف في التحرير الاقتصادي قد ولَّى وانقضى، وأن عصراً جديداً قد حل محله: عصر الدولة الأكثر قوة وفاعلية.

ويؤكد المؤلف في نهاية الكتاب، إن مستقبل الرأسمالية يتوقف على مدي التغيير الذي سيطرأ على الأخلاقية السائدة وعلى إدراك الجميع أن مبدأ المسؤولية الاجتماعية لا يقل أهمية عن مبدأ السوق الحرة. أما إذا تم تجاهل هذه الحقيقة، فإن اقتصاد السوق معرض للمصير نفسه الذي تعرضت له الاشتراكية: الانهيار والاختفاء من الوجود.

انتهى