رسالة الى الحيّ مهدي عامل


الاخضر القرمطي
2011 / 5 / 25 - 15:27     

أذكر يوم “التقيت بك” في كتابك “أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني..”(والذي وجدته صدفةً عند أحد بائعي الكتب المستعملة،ولم اكن قد سمعت بإسمك من قبل)، وكأنني أجابه جبلاً من المفاهيم والكلمات والافكار التي لم أكن قد علمت بوجودها. اعلنت بادىء الامر انزعاجي من قدرتك على اعادة الجمل كما هي احيانًا،ولكنّي سرعان ما وجدت نفسي مأخوذًا بما اعلنتَه ضرورةً للوضوح والتوكيد، وسرعان ما وجدت نفسي اعيد واعيد ما أقرأ! لا لقصور ورغبة اضافية في فهم بعض المفاهيم والافكار فحسب، بل لمتعةِ الحقيقة الضاحكة التي أعلنتَ. انهيتُ كتابك (الذي قرأته لثلاث مرات بعد ذلك) مبتهجًا: ولشدة تأثّري كدت ان اذرف دمعة الفرح كطفلٍ ضائعٍ وجد حضن والدته بعد طول ابتعاد!

وكطفلٍ يتباهى بلعبته الجديدة امام الغير، هكذا امسيتُ: متباهيًا بكَ، ساخرًا ممّا اسمع وأقرأ من منشوراتٍ ومقالاتٍ وكتاباتٍ كانت تشكّل مصدر تفهمّي الوحيد لما حصل ويحصل في لبنان من صراعات وُصِفَت بالطائفية او من ممارساتٍ سياسيةٍ وُسِمَت زورًا بالثورية والتغييرية والراديكالية…..

ولأننا نحن معشر “الشيوعيين” نحب الحقيقة لأنها دائمًا الى جنبنا، فإننّا نسعى ايضًا الى وضع هذه الحقيقة بين أيدي من نعتبرهم أصحاب المصلحة الحقيقية في ممارسة هذه الحقيقة: وهكذا أذكر كيف انّي اسرعت الى أحد أصدقائي قائلاً: ” خذ إقرأ هذا الكتاب……..عظيمٌ هو…لا بل رهيبٌ!”، وهذا ما سيردده صديقي حين انهى الكتاب آتيًا لزيارتي ضاحكًا :”لن اعطيك الكتاب الآن-قال- سأقرأه مرة اخرى..”

ومن كتابٍ الى آخر، وبين مقالةٍ لك واختها، وسمتَ حياتنا الفكرية و”النضالية” بوسم الفكر النقدي الثوري المناضل:

- في كتابك “في تمرحل التاريخ”:علمتنا ان الفلسفة ليست ترفًا او لعبةَ مفاهيم، او مجرد جدال نظري عقيم، صراع كلماتٍ تحلق عاليًا، فمهما كان المفهوم مجردًا متعاليًا نظرانيًا، سرعان ما يمكن اعادته الى ارض الواقع المادي، وسرعان ما يمكننا تلمسّ جذوره التي تنغمس بعيدًا في عمق الصراعات الديالكتية الاجتماعية اليومية المعاشة.معك، كانت تصدح بومة مينرفا الفلسفية فرحةً بتشريح اصنام الفكر الفلسفي وانتشاله من هفواته وغموضه غير البريء!

- في دراستك عن إبن خلدون،وفي قرائتك للتراث الاسلامي، ومعك (ومع شيخنا الشهيد حسين مروة) اقتربنا من الاسلام فضاءًا ثقافيًا رحبًا وليس ايمانًا غيبيًا، وان كانت النصوص الدينية قد ابعدتنا عن الايمان الى غير رجعة، وقد جعلتنا نرى الى الدين نظرة أحايدية الجانب تختزل ما لا يجوز اختزاله، فإننا بقراءة نصوصك وجدنا انفسنا نقترب من النصوص الدينية متسلحين بفكرٍ يأبى التسليم بالمقدّس اللاتاريخي.

- في كتابك “أزمة حضارة او أزمة برجوازيات عربية”،علّمتنا حذّر الفكر النقدي الثوري ممّا يُطرَح من مفاهيم ومقولات تحمل فخ التبعية للآخر المُفتَرض “عدوًا” او نقيضًا، وتغوص في دورانًا في الحلقات الفارغة. أصبح نقدك لما يطرحه الفكر اليومي ولما يقدمه الفكر البرجوازي العربي منهجًا نستعين به للشك بالبديهي، لتفكيك المسلّمات، للانطلاق من الظاهر الى الماهية. فكم من المفاهيم(او بتسمية ادق الافاهيم) سلّمنا بها باعتبارها نهاية مطاف الفكر، وكان في ذلك كسلٌ منّا ورغبةً باستراحة العقل، ولكنك ايقظتنا من غفلتنا ومن نومنا العميق، وخلخلت استكانتنا.

- في كتاباتك المتعددة عن حركة التحرر الوطني وعن الحزب الثوري والبديل الثوري البروليتاري النقيض، “وضعت الاصبع على الجرح”: وبفكرٍ ديالكتيكي رائع أكدت لنا وحدة التحرر بوجهيه الوطني والاجتماعي، ومستشرفًا أزمة حركات التحرر الوطني القومية والاسلامية، برجوازية المضمون، حذّرت من الفصل بين مساري التحرر، وكان تحذيرك وما زال راهنًا، ويؤكّد منطقك ما نشهده اليوم من أزمة تعيشها كل حركات التحرر في العالم العربي. ازمة لا توفّر حتى من راهنتَ أنتَ ومن يراهن غيرك اليوم عليها، ازمةٌ تطال ما يُفترض به ان يكون البديل الطبقي النقيض، اي الحزب الشيوعي ممثل الطبقة العاملة وحلفائها الطبقيين، في لبنان وكل العالم العربي.

 بمساعدتك، عرفنا عمق الازمة التي تعيشها الحركة الشيوعية(وبالتحديد اللبنانية)،فهي ليست ازمة تنظيمية فحسب، أو ازمة بيئة إجتماعية و”ظروف” خارجة عن ارادتنا، وهي ليست ازمة فكر بالمعنى المبتذل للكلمة ولا أزمة طبقة او طبقات، انها ازمة ممارسة سياسية لم تستطع حتى اليوم ان تقطع مع الممارسة السياسية النقيض المهيمنة، لتشكّل ممارستها الطبقية البديلة، ولم تستطع تبعًا لذلك ان تبنيَ الجهاز النظري الملائم لهذه الممارسة السياسية الطبقية الثورية المبتغاة.إنها ازمة خيارات سياسية يومية لم ترتكز الى عمق طبقي حقيقي، بل ظلّت بعيدةً كل البعد عن الفكر التي تحمل من جهة وعن الطبقة التي تمثّل من جهة اخرى.

 جعلتنا نتشدد في ضرورة وجود حركة ماركسيةٍ، تقطع سياسيًا ومفاهيميًا مع السائد المهيمن، حركة ثورية تستند الى علم الثورة وتاريخها، حركة تتكأ على قاعدةٍ طبقية واضحة المعالم والبرنامج والافق، وليس حركة تتخبط في التجربة والخطأ وتقتات من ذكرياتٍ إنقضت واحلامٍ عفا عليها الزمن.

واليوم، وفي خضّم ما يشهده العالم العربي وما يشهده لبنان، وفي ضوء أزمة اليسار اللبناني المستمرة (والتي لا نرى حتى هذه الساعة نورًا في أفقها المظلم) كم تبدو العودة اليك ملّحة، وكم تبدو مهمّة تخليصك ممّا علق بكلماتك من بعض الادلجة التي لائمت مرحلة كتاباتك ولكن التي طوى عليها الزمن…

اليوم كم نحن بحاجة الى مهدينا مهدي عامل، الى شاعرنا هلال بن زيتون، الى رفيقنا طارق والى معلمنا حسن حمدان ، لا لنقدّسك او نؤلّهك او لنبّجلك، لا لنضعك فقط على لائحة شهدائنا وشهداء الفكر الثوري والعمل النضالي الاشتراكي في لبنان والعالم صورةً او اسمًا للذكرى والمتاجرة…….

كم نحن بحاجة الى مهدي في منهجه النقدي، في ثباته النضالي، في بحثه الهادف عن الحقيقة والثورة….

كم نحنا بحاجة اليك يا مهدي في ضحكتك المتفائلة!