قراءة في كتاب -انهيار الرأسمالية...أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود-(3)


هاشم نعمة
2011 / 5 / 22 - 18:18     

تفاعلات الأزمة

ويتعمق الكاتب في تحليل آلية عمل أسواق المال التي تحولت إلى خطر يتهدد الاقتصاد الحقيقي، أي الإنتاجي. تحولت إلى كازينو للقمار جذاب فعلاً بأضوائه المتوهجة. إن اللاعبين في هذا الكازينو يمكن أن يقوضوا أركان شركات عملاقة ومتوسطة، إذا خسروا الرهان. لا بل قد يتسببون في زعزعة الاستقرار في دول بأكملها. وكان برونز محافظ البنك المركزي في إدارة الرئيس نيكسون قد تنبأ في السبعينات باندلاع هذه المخاطر. فوفق تنبؤاته، "يؤدي تحرير أسواق المال إلى شقاء الإنسانية بكل تأكيد". وبعد ثلاثين عاماً، أكد خليفته فولكر على صدق هذا التنبؤ.

بدا الأمر وكأن أسواق المال باتت تخلق مليارات ومليارات، من اليورو أو الدولار من لا شيء. واغتنمت الشركات العملاقة والمصارف المختلفة الفرصة فراحت تمول عمليات ضخمة تشتري الشركات في سياقها شركات أخرى. على صعيد آخر، عاش العالم- بتشجيع من المصارف الاستثمارية- حميا عمليات اندماج لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ عشرات السنين. وراحت صناديق المخاطر تراهن على المستقبل من خلال أدوات مالية غاية في الشمولية والتعقيد. وتقتنص مؤسسات "الجراد" المشاريع بغية شرائها أولاً، وتفكيكها، وبيعها لاحقاً بأسعار تحقق ربحاً وفيراً. وبعبارة واحدة، يمكن القول إن العصر الجديد كان عصر جشع لا يعرف الحدود.

وكان ويلش عنواناً لنظرية تكن كل الاحتقار للمشاعر الإنسانية. إنه العنوان الصادق على النظرية التي انتشرت في التسعينات: أي نظرية تعظيم الأسهم، فهذه النظرية تقيم عمل رؤساء الشركات من منظور واحد ومن خلال هدف محدد يتمثل في أن قيمة أسهم الشركة يجب أن ترتفع بأسرع معدل ممكن. ومعنى هذا هو أن رئيس الشركة المهتم بتعظيم الأسهم لا يجوز له أن يأخذ في الاعتبار الرزايا الإنسانية الناتجة عن تسريحه آلاف العاملين. وتعم الفرحة البورصات، خصوصاً، حينما يتناهى إلى سمعها أن رؤساء الشركات قد سرحوا قسماً من العاملين لديهم. وتنعكس هذه الغبطة في ارتفاع قيمة أسهم الشركات. ويسبغ هذا المنطق الشاذ النفع الوفير على قادة الشركات، خصوصاً، فمكافأتهم المالية تتم من خلال خيارات الأسهم في المقام الأول.

كانت لدى المصارف علاقات وثيقة جداً بالسياسيين، لأنها كانت تمن عليهم بتبرعات سخية جداً. سواء تعلق الأمر بالديمقراطيين أو الجمهوريين في الولايات المتحدة، فلم يصل الجميع إلى البيت الأبيض إلا بفضل الدعم المالي الذي يقدمه لهم "وول ستريت"، ففي هذا الشارع ينشط أكثر المتبرعين سخاء. وللتعبير عن شكرها تركت الحكومة والكونغرس، مصارف الاستثمار تعمل بلا منغصات وبلا قيود ذات بال. وفي المقابل دأب "وول ستريت"، طواعية، وعن طيب خاطر، على إعارة واشنطن أفضل ما لديه من رجال أعمال للعمل في مؤسسات الدولة الحساسة كوزراء مثلاً .

وفي روسيا، تمكنت حفنة صغيرة، ذات سلطان كبير في الحكومة، من الاستحواذ على السندات واستخدامها للاستيلاء على المصانع الحكومية بابخس الأثمان. وهكذا، تطور في روسيا نظام كاسر يجمع بين بقايا الاقتصاد المخطط والملامح الأولية لاقتصاد سوق أطلق لها العنان حقاً.

في منتصف التسعينات، ترنحت، الرأسمالية. وكانت رياح الأزمة قد هبت من مكان ناء عن الدول الصناعية الغربية. فالأزمة نشرت ظلالها، أولاً، في الاقتصاديات الناشئة، التي كانت قد أسرفت، بعض الشيء، في تنفيذ عملية الانفتاح الاقتصادي. وفي عام 1994 انهار الوضع في المكسيك، وبعد ثلاثة أعوام أخذت تترنح في جنوب شرقي آسيا، بلدان النمور أيضاً. وكان المستثمرون قد تجاهلوا كل التحذيرات، فضخوا أموالا طائلة في الدول السريعة النمو. وحين انفجرت، في جنوب شرقي آسيا، الفقاعة في أسواق الأسهم والعقارات، ذٌعر هؤلاء المستثمرون ففروا بملياراتهم. وكان فرارهم هذا قد تسبب بدوره، في تصعيد عملية الانهيار. وكان وكيل وزير المالية الياباني آيزوكه قد أكد في يناير عام 1998 على "أن الأزمة ليست أزمة آسيوية، بل هي أزمة النظام الرأسمالي العالمي".

تريد الصناديق المغامرة تحقيق أقصى الأرباح في أسرع وقت ممكن. ولهذا السبب تراها تستدين من المصارف أموالاً تصل أضعاف الأموال التي تجمعها من المستثمرين المساهمين فيها. فبهذا النحو تستطيع رفع قيمة الأموال التي تغامر بها في كازينو المال العالمية إلى عشرة أضعاف، لا بل إلى عشرين ضعفاً مقارنة بحجم الأموال المشاركة في الصندوق المعني. وفي نهاية الثمانينات، كان عدد نوادي القمار هذه لا يتجاوز المائة. أما في نهاية التسعينات، فقد ارتفع إلى نحو ثلاثة آلاف، وعام 2008 إلى ما يقارب عشرة آلاف.

وكان صندوق "أل تي سي أم" قد فاق كل الصناديق الأخرى من حيث وحشية ما انتهج من أساليب. حيث استقطب عام 1998 ودائع بلغت قيمتها 4.7 مليار دولار وحصل على قروض وصلت قيمتها 120 مليار دولار. واستثمر هذه المبالغ الهائلة في أدوات مالية ليست عالية المخاطر فقط، بل وتتعلق بها، من ناحية أخرى، أوراق مالية تصل قيمتها إلى 1.5 تريلون دولار. بهذا، فإن صندوق المخاطر هذا كان يتعامل بمبالغ تفوق قيمة الإنتاج الذي تحققه النمسا أو إسبانيا في العام الواحد. إنه كان أكبر صندوق مخاطر في العالم حقاً.

أرتفع حجم المتاجرة بالمشتقات التقليدية، أي حجم المقامرة بمعدلات الفائدة ومؤشرات البورصات، بين 1986- 2004، بنحو ثمانين ضعفاً من 614 مليار دولار إلى 46.6 تريليون دولار أي إن تطور أسواق المال ما عادت له علاقة بتطور الاقتصاد الإنتاجي: فسابقاً كانت أسواق المال تزود الصناعة بما تحتاج إليه من قروض؛ أما في الوقت الحاضر، فإنها تهيمن على الاقتصاد العالمي وتجبر المشاريع على تنفيذ التغيرات التي تفرضها عليها. ولم يسأل القوم أنفسهم عن الطريقة التي سينتهجها الاقتصاد النقدي ليحقق، على الدوام، أرباحاً تفوق قيمة الربح المتحقق في الاقتصاد الإنتاجي.

ولأول مرة يعم السخط من وحشية الرأسمالية فئات اجتماعية عريضة. وكان احتجاج مناهضي العولمة قد تفجر في وقت مبكر، عام 1999، وذلك على هامش اجتماع منظمة التجارة العالمية في مدينة سيتل. بيد أن الحكومات والشركات لم تأخذ هذا الاحتجاج مأخذ الجد.

لقد كان الانهيار أمراً لا مناص منه. فكان المستثمرون، في حقبة الاقتصاد الجديد، قد تجاهلوا كل المقاييس والمعايير. فهم اشتروا شركات ما كان لها مستقبل قط. ووثقوا بإرشادات خبراء في شؤون الأسهم، تبين أنهم لم يكونوا خبراء، بل نصابين لا ضمير لهم. في النهاية، استسلم هؤلاء المستثمرون للجشع، فقط. وكان الجشع هو العامل الذي مكن بعض الشركات الصغيرة من أن تسجل، في البورصات، قيمة تفوق بكثير قيمة شركات مملوكة من قبل الدول وتشغل مئات الآلاف من العاملين. إن هذا الجشع هو الذي تسبب في جعل قيمة أسهم الشركات تنمو بمعدلات تفوق، بكثير، معدلات نمو إجمالي الناتج القومي. وكان هذا الجشع قد سيطر على كل قطاعات المجتمع: سيطر على الأغنياء، وعلى الموظفين والمستخدمين، وعلى الطلاب الجامعيين.

لكن شيئا آخر طفا على السطح حينما انهار الاقتصاد الجديد: لقد تبين أن قصص النجاح الباهرة لم تكن سوى زور وبهتان، وأن العديد من رجال الأعمال الذين وثق بهم المواطنون، لم يكونوا في الواقع سوى محتالين نصابين. ولم يتقن أحد من رجال الأعمال هذا النصب والاحتيال بالنحو الذي أتقنته شركة إنرون للطاقة والمقيمة في تكساس، التي كانت تمتلك أمتن العلاقات بالرئيس الأمريكي.

وقد صدم الأمريكيين قوة التشابك بين إنرون والجهاز الحكومي في واشنطن. فالعلاقات التي نسجت خيوطها هذه الشركة ما كان بإمكانها أن تكون أقوى مما كانت عليه قط. فمنذ عام 1990، كانت الشركة قد تبرعت لمجموعة من السياسيين، بنحو 6 مليون دولار. فقد حصل نصف أعضاء مجلس النواب وثلاثة أرباع مجلس الشيوخ على دعم مالي منها. ومن هنا، لا غرو أن يخفف الكونغرس، في التسعينات، من شدة القواعد المفروضة على المتاجرة بالطاقة الكهربائية. وعقب انتخاب بوش، احتل سياسيون جمهوريون، سبق الهم العمل في إنرون زمناً طويلاً، مناصب غاية في الأهمية في الإدارة الحكومية: فرئيس قسم الإدارة في الشركة، ليندسي أصبح كبير مستشاري الرئيس للشؤون الاقتصادية؛ وزوليك المستشار السابق للشركة غدا المكلف بشؤون التجارة؛ ووايت رئيس مجلس المديرين التنفيذيين لدى إنرون، أصبح وزيراً للدفاع. نادرا ما أقامت إحدى الحكومات الأمريكية علاقات بهذه المتانة مع شركة واحدة. وعقب الانتخابات، اجتمع قادة هذه الشركة ست مرات بنائب الرئيس تشيني وذلك للتداول بشأن السياسة الواجب تنفيذها، مستقبلاً، في مسائل الطاقة.

ومثلما ظلت الارتباطات السياسية، التي أقامتها إنرون، خفية عن الأنظار، ظلت أيضا خفية تلك الشبكة الواسعة، التي كانت إمبراطورية إنرون قد نسجت خيوطها. فخبراؤها المتخصصون بالتحايل المالي أسسوا أكثر من 4000 "شركة" ما كان لها أي وجود في الحسابات الختامية. ولم تكن هذه "الشركات" أكثر من نسيج الخيال، عالم كان يُراد منه تزويق البيانات الحسابية الخاصة بالشركة. وكان أغلب هذه الشركات الوهمية تقيم في جزر الكيمن- أي في الجزر التي تندرج ضمن الواحات الضريبية الواقعة في البحر الكاريبي- وتحمل أسماء براقة. والمراد من هذه الشركات التستر على الوضع الحقيقي للشركة مقابل المصارف والمساهمين ومكاتب الضريبة. إن فضيحة إنرون التي أفلست إفلاساً مريعاً، لم تكن حدثاً فريداً. فالصفقات غير المشروعة وتزوير الحسابات الختامية والميزانيات كانت أموراً شائعة في الاقتصاد الجديد. ففي عام 2002، اعترفت مئات الشركات الأمريكية بأنها كانت تزور بياناتها الحسابية. وكانت العشرات من هذه الشركات قد أعلنت إفلاسها.

يتبع