المفاهيم الحرّة ... و -المستبد المهزوم-


رشيد قويدر
2011 / 5 / 7 - 12:57     

يعترف المستشرقون والاختصاصيون بالمنطقة العربية؛ وبالذات في الغرب الامريكي والأوروبي؛ بأنهم تفاجأوا بثورتي مصر وتونس وإلى ما بعد اندلاعهما، كما أنه وما إن اندلعت الانتفاضة الشعبية التونسية حتى انهالت التحليلات التي لا تتصور إمكانية أي تغيير سياسي في المنطقة، لأنه لن يأتي إلا عبر "قوى سياسية أصولية إسلامية" فهي البديل، أو عبر مجموعة من الضباط العسكريين، ولكن ليس بواسطة حشود كبيرة من الشباب تتقدم جماهير شعبية مليونية؛ وعليه فقد أُخذوا على حين غّرة ...
وألقت صدمة النتائج بظلها الثقيل وأسئلتها على القوى التقليدية العربية ونُخبها ومثقفيها، مثلما الولايات المتحدة ذاتها وغيرها في الغرب؛ وحتى على "منظمة القاعدة" التي تعتمد على الإرهاب من أجل التغيير، ومنها على وجه الخصوص في قراءتها للتغيير في مصر؛ عَبَرَ الرجل الثاني فيها أيمن الظواهري؛ بعد مجمل تنظيراته في "التاريخ السياسي المصري" وبأن "التغيير لن يأتي إلا بالعنف وحده"؛ لكن ما نشره مؤخراً يحمل قدراً هاماً من التنازل الخجول؛ الذي يشبه تنازلات مبارك في أوج أتون الحراك السياسي الاجتماعي؛ حين سلط الظواهري الضوء على "مدى ابتعاد كبار التنظيم عن روح العصر"..
على ذات الملهاة وعلى حساب الدراما الشعبية العربية، فهمت بعض القوى التقليدية "مفاهيم العقلانية والتقدمية والتحرر والعدالة الاجتماعية وسواها ..."؛ بأنها نفحات قادمة من طبقة السماء السابعة، ما إن تحل فوق قومٍ عبر ترويج كادرها ومثقفيها ورُسلها لهذا النشيد؛ حتى يغدو المجتمع ذاته عقلانياً وتقدمياً ومتحرراً ... وجرى صرفها كأيقونة على فم كل "المبسملين" بها؛ بينما حال العقول اللاعقلانية أبقتها مضغة في الأفواه، وفي تحولها إلى مكاسب تحت أضراس أشد الناس تحفظاً وبدائية ... وفي اجترارٍ مرير ...
في محاولة الألتفاف على التغيير السياسي والاجتماعي.. أو الركوب فوقه بعد أن حسم مبدئياً موضوعة الصراع، نخص هنا جوقات السبات الحزبي التقليدي على تلاوينها، التي ورثت مرجعيات وايديولوجيات من طريق الركوب فوق الحراك ذاته، بعد أن حسمت الثورة مبدئياً في مصر وتونس موضوعة الصراع ونتائجه؛ نخص هنا جوقات التقليدي على تلاوينها؛ التي ورثت مرجعيات وايديولوجيات من طريق السلف، وبدى الأمر لها اشعة أشبه بـ "السحر وعالم التقديس"؛ يقظة اشبه بالصعق الكهربائي على العصب الحّي، فالتحقت بحركة الشعب بعد ان أدركت أنه: "قد بلغ السيل الزبى.."، في محاولة لاستنساخ مزدوج للعنف الروحي – الفكري التقليدي، ومن ثم العنف المادي الذي يستتبعه.. وتغيرت أسماء أحزاب معروفة لهذا الغرض..
إن سمّة الشرق الأوسط الديموغرافية هي الشريحة الضخمة لأجيال الشباب، فجاء الدرس معكوساً حين اتخذت الحشود المليونية مكانها المتقدم، وبانضباط شديد كثورة مسالمة، وقالت كلمتها الواضحة والمباشرة والمدوّية من غير رطانة ... درس مجاني لم يخرج من جيوب ممتلئة، بل بلغة الخبز والعمل والكرامة والديمقراطية والمواطنة والحرية، بذور شقّت التربة السوداء نحو ضوء الشمس، في شعار قليل المفردات يطالب بتغيير نظام حكم مديد، لم يسفر عن توفير مستلزمات عيش وحياة كريمة ...
مثقفو الملاحم والسرديات الكبرى تفاجأوا أيضاً؛ وأُخذوا على حين غرّة؛ من الذين لم يدركوا أن "كل شيء ونقيضه"، وطالما أن تصورهم حول تكنولوجيا الاتصالات والإنترنت، تعمل على تفتيت القوى الاجتماعية بدلاً من توحيدها في قضية مشتركة، وفي نظرتهم للشباب في انكبابهم على شاشات الكمبيوتر، بأنهم "غارقين" في "عالم افتراضي" هو مضيعة للوقت، لكن وللحقيقة دوماً وجه واحد، فالعالم "الافتراضي" هو المصنوع من "يقينيات" ينام صاحبها عليها، ورأسه على مخدة "مؤدلجة بالسلفيات المرجعية" وبصرف النظر عن منطلقاتها الايديولوجية، سبق وورثها من أسلاف، لذا هو غريباً في محيط لا يفهمه ... سوى محاولات إعادة إنتاج الماضي الذي لن يأتي أو يعود ...
سبق وأن عرّف ماركس الخرافة بأنها "استخدام العقل بطريقة غير عقلانية" ويا له من تعريف عميق، ومحقاً حين قال إننا لا نحارب الخرافة، ولا نريد أن نكون ضدها، فهي حربٌ خاسرة، بل نريد مجابهة الوضع الاجتماعي والثقافي الذي يجعل الخرافة ضرورة ...
إن كثيراً مما كُتب عن ثورتيّ مصر وتونس هو هام، رغم كونه ردود أفعال آنيّة، قليل منه ذهب إلى سبر أغوار الموضوع، والأكثر قلة لم يذهب نحو الموروثات التاريخية التي أنتجت عقوداً مديدة من الصمت العربي الآسن والدامي للشعوب، فالثورتين هما خروج من شرانق أنظمة التقاليد البالية بفعل تطور وسائل الاتصالات، ونحو خلق بيئة اجتماعية وسياسية غير مؤدلجة، لكنها تأخذ بنتائج وأسباب الحداثة التي تنسجم مع التطلعات وهموم المجتمعات بالكرامة والتقدم والحرية، وفي مواجهة وسائل إعلام تقليدية سلطوية تعمل في خدمتها ...
يشمل هذا التغيير كذلك جمهرة "وعاظ السلاطين" وأنصافهم البَيْن بَيْن من صناع الوقوف على أطلال المراثي السياسية، من الذين تأثروا بـ "المستبد العادل" المرسخة عربياً جيلاً بعد جيل، وقروناً مديدة في تراكمها التاريخي، فتحولت إلى "حجر سنمار" في إحدى الزوايا الأساسية فيما نشهد من سرعة الانهيار وحسم الحركات الشعبية للصراع، وفي الكثير من التعاطي في البناء السياسي التقليدي في ثقافة المنطقة؛ وهي تتحول اليوم إلى أُطروحات عملية من "المستبد العادل" ... إلى "المستبد المهزوم" ...