انشودة مأتم الفراق


حمودي عبد محسن
2011 / 5 / 5 - 23:00     


قلبي : هذا ما تكلم به قلبي
خذ عصا الترحال
تعفر بالتراب
ارتق جبال
اهبط جبال
قبل أن تنفصل السماء
ويخلق الليل والنهار
قبل أن تخلق العذراء
وتبدأ الحروب ، وتضرب السيوف
وتلطم العاصفة الوجوه
وتمتلئ الجداول بالدماء
ويحدث الخراب والدمار
خذ عصا الترحال
تعفر بالتراب
فلم تجد الفرح في البلدان
اشرب ماء الحياة
وكل الخبز الحلال
في كل مكان عذاب
دموع ، نواح ، جزع ،
حسرة ، ندب ، تعاسة ،
ورثاء ...
في كل مكان طعام وفير ،
وجياع
في كل مكان عطاشى ،
واضطراب
هذا ما تكلم به قلبي
الراعي للأحزان
خذ عصا الترحال
تعفر بالتراب
ارتق الجبال
اهبط الجبال
لم تجد الفرح في البلدان


الغريب : قبليني قبلة أخيرة ، للمرة الأخيرة
وقولي وداعا ...
السوسنة البيضاء في انتظار
بيتي الوحيد في انتظار
وقاربي الأسطوري في انتظار
متآكل خشبه
ذو ثقوب كثيرة
ذو مجاديف ضعيفة
شراعه أبيض ممزق
غير مرئي ، وضئيل
مثل قربان عتيق
قبليني قبلة أخيرة ، للمرة الأخيرة
قبل أن تعصف في البحر رياح
وتقذف قاربي الأمواج
مثل سفينة نوح قبل آلاف الأعوام
قبليني قبلة أخيرة ، للمرة الأخيرة
في الليل الكثيف
في سكون
قبل أن تتعرق الأصابع
قبل أن ينز عرق الجبين
قبليني ، وقولي وداعا ...
فمالي وهذه الديار !
الليالي في ظلام
الشمس لا تشرق في النهار
والسماء ملبدة بغيوم سوداء
مالي وهذه الديار !
حتى الزهور المعلقة في أغصان ...
شاحبة ليست ذات عطر بهاء
قبليني قبلة أخيرة ، للمرة الأخيرة
خارج ملاءات الحياة
في ليل مثخن بالظلام
مالي وهذه الديار !
صمت مثل أموات
أرواح جامدة تجردت من أحزان
العيون لا تذرف دموع بكاء
والجار لا يعرف الجار
ومن يقيم في هذه الدار

امرأة الثلج : سأنتظر ...
حتى إذا تكسر ضوء القمر
والنجم إذا تلألأ
والفجر من الضباب إذا طلع
هذا هو القدر ... القدر
سأحيك قميصا من حرير
وثوبا من أزهار ورياحين
وإذا سقط زر ...
انحني والتقطه باعتناء
وأقول : قد يعود ... قد يعود
ليلة بعد ليلة
في عربة من خلل العاصفة
غادرت دون أن تلحظني ، لم تسمع خطواتي ، نظرت إلى قدمي الحافيتين ، لبست حذائي الأسود ، وخرجت إلى متاهتي تاركا خاتما وزهرة ، عبرت دون ضجة ممرات خالية ، وساحات فارغة ، مشيت أدق الأرض بعصا الترحال .

السوسنة البيضاء : قبلني قبلة أخيرة ، للمرة الأخيرة
فقد حان مأتم الفراق
وقل وداعا للحبيبة ...
ارحل حبيبي إلى بلاد الثلوج
من غابات الوحوش والنمور
من غابات اسود ولصوص
خذ عصا الترحال
ارتق جبال
اهبط جبال
فقد جف النبع المضاء
القمر لا يبزغ من خلل السحاب
النجوم شاحبة في السماء
ارحل حبيبي إلى بلاد الثلوج
وقل وداعا للحبيبة ...
ها قد أطفأت الأنوار
وتبدلت الألوان
قبلني قبلة أخيرة ، للمرة الأخيرة

ظلال الأعوام : ومضت الأعوام ، والغريب للغريب ظلال ، هو الذي ارتقى جبال ، وهبط جبال ، عبر أنهار وبحار ، جاوز قارات وحدود ، وفي يده عصا الترحال ، وتعفر وجهه في التراب ... لا بطولة ... لا انتصار ... قلبه مليء جروح وأحزان ... ابيض رأسه ولحيته ، وأصبح وجهه ذو أخاديد عميقة ، وعيناه مبللتان بالدموع ... هو الذي رأى كل شيء : عظام بيضاء خاوية ذات ثقوب ، حوافر حصان في صدور ، سنان رماح في بطون ، انفجار قنابل في أكاليل غار ، وتماثيل بأعلام ، وانهيار إمبراطوريات ، وخديعة انتصار .

امرأة الثلج : أسير وحيدا في المطر
أجرجر ساقي في قهر
المطر يدق ... يدق على الطريق
على الأشجار ... والحجر
في الأفق البعيد
تآلفت مع المطر
قطرة لامعة تسقط من أوراق الشجر
وطائر أمامي في نظر
حط على غصن شجر
ذو خطوط وألوان تشبه المطر
صوت المطر :
المطر هو المطر
يا مطر ، يا حارس العطاشى الأبرياء
وجوع الفقراء
يا واهب الأشعار والقصائد
أتسمع هديل طائر تحت المطر
وأنا الغريب أسير مبللا بالمطر
يدق المطر مثل مطارق في سهر
وقفت في المطر ، مسكت مقبض الباب الأصم الصدأ الأثر ، يدي كالحجر ، وقفت وقتا طويلا ، يدي ترتجف ، ثم طرقت الباب بحذر ، وصحت : يا مطر ، يا واهب الخصب والسحر ، ماذا لو لم تفتح الباب ؟! لذت بالصمت حتى جاءني صوت راكضا من خلف الباب ، صوت صافي ليس سواه ، لم يكن صوتا آخرا إلا صوتها ، ثم فتحت الباب ، وقفت مندهشة صامتة ، وعيناها باهتتين تغوصان في اضطرابي ، ثم همست مثل رنة ترنيمة عذبة :
عدت حبيبي ، ما زلت في الحب
دائما في قلبي
كنا نصوب نظراتنا إلى ذلك الزمان الذي وحد حبنا وصنعه قبل خمسين عام ، وهو ما تبقى لنا في آخر العمر ، فقلت أنا مثل الصدى :
جئت أحمل وجعي ، وقلبي
هي نفسها امرأة الثلج الجميلة الشفافة ، اشراقة الأمل ، تشي الروح بابتسامتها الألقة ، ذات العينين البنفسجيتين ، والشفتين الرقيقتين اللتين نطقتا :
كل شيء هادئ بعد المطر
لا شيء ضاع
سنعود إلى أغانينا
في الضباب الكثيف
في الشتاء الطويل
وتحت تساقط الثلوج