فقه اللامعقول ... الاستبداد والصنمية


رشيد قويدر
2011 / 4 / 28 - 14:26     

ثمة قضايا مشتركة في انتفاضات الشعوب العربية، لعل أبرزها انفتاح الأمل عبر ثورتيّ تونس ومصر؛ وهما المجتمعان الحديثان، تغولت بهما أجهزة الأمن ضد الشعب، وانتشر الفساد كالفطر، وأُفقرت الطبقة الوسطى وسقطت إلى الأسفل مع المهمشين، واستمد الحاكم فجوره من تبعيته للمشاريع الأمريكية والغربية التي "شرعنت" نظامه كحاكم في مشهد مغمس بالدم، وما تشير له ملفاته الكثيرة ...
إن أبرز التحولات في صناعة التغيير ليس فقط في تحولها إلى ظاهرة عربية؛ بل إلى قوة أخلاقية وظاهرة اجتماعية، فالثورة المصرية قد قدمت إنجازات مُبهرة: "تغيير الوزارات والإطاحة برموز العهد البائد، حل جهاز أمن الدولة، تعديل الدستور تمهيداً لدستور جديد، تطهير جهازيّ الأمن والشرطة، وإحالة كبار الفاسدين إلى المحاكمات". خلقت قوة التغيير وعياً حاداً بمطلب تغيير النظام لا استبدال الطرابيش، وبما يتطلب من: قيادة مركزية لثورة الشباب، وتحويل الحكم العسكري إلى مدني، بعد تفكيك القشرة السميكة للنظام القديم، نحو بداية عصر الدول الدستورية؛ بما تعني من بعث وتفاعل ديناميكيات القوة المجتمعية ...
لقد فقدت مصر عقوداً من التغيير، بسببٍ من تقاطعات السلطة الصنمية وارتباطاتها الدولية، والتحصن بمشاريع وعلاقات الهيمنة الدولية، كحاكمية في منظومة سلطوية بالية، وصل فجورها بتكريس قوتها القهرية الغرائبية على المجتمع، في إنتاج الاستبداد والجرائم والفساد، "مشفوعة" بقوة مصالح الهيمنة الدولية والتحصن بها، لا تستطيع أن توفر أدنى حقوق الإنسان، دون أن نقل في الحرية والمساواة والتعبير.
في انكشافات الحاكمية المنهارة في مصر، تبرز جريمة كنيسة القديسين القبطية بالإسكندرية، بما تعبر عن أزمة وهشاشة قيمها الأخلاقية، كسلطة قاتلة متغولة باصطناع الصراع الثقافي الداخلي ومنه إلى الدموي الهمجي، كملهاة "تعويضية" للعنف الداخلي، وتمزيق النسيج الاجتماعي، في قرين مهيّج للغرائز الهمجية البدائية المتوحشة، باستخدام دماء الرموز والجموع الثقافية، والرمزية الدينية في صدامها المصنّع والمصطنع العنيف، محاولة خروجها من أزمة وجودها كسلطة قاتلة متغولة، والتي تدعوها إلى السقوط واستبدالها بالدولة الجامعة والعادلة، التي ينبغي أن تضع عموم مواطنيها، وجميع هوياتها الثقافية في سياق أخلاقي من المساواة والعدالة الاجتماعية، ومجمل القوانين والمفاهيم الحقوقية التي تُنظم في قوانين ودستور وإجراءات عملية ...
في القضايا المشتركة لانتفاضات الشعوب، تبرز حالة الدول التقليدية ذات المجتمعات القبلية؛ كما اليمن وليبيا، ويبرز هنا ضرورات التوافق الوطني والتنوع في إطار الوحدة، بسببٍ من المكونات التي تبرز في هوية تشكيلاتها العامودية، وفي "هويتها" وإعادة تشكيلها "سياسياً"، بدلاً من التحلل من الاستحقاقات الديمقراطية الداخلية، كي لا يطفو نسيجاً اجتماعياً ممزقاً، سينحدر سياسياً على سلم الاصطراع الداخلي في مشاريع كامنة للحروب الأهلية ...
والأهم هي تلك اللحظة الخادعة التي يتحول بها كل الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، ومن الذين في أحلافها واتفاقياتها، ومنهم الذين تقيم على أرضهم قواعدها العسكرية، وتتخذ من أبواقهم الإعلامية وميدياها تعبئة مضادة وتهييج وتحريض مذهبي ضد دول عربية ممانعة، في محاولة تحويلها إلى خندقات مذهبية، فضلاً عن فبركات وحملات وأكاذيب إعلامية ضد البلدان المستهدفة من واشنطن، على نحو ما هو مشهود ومرئي باستهداف العقب الكأداء بمواجهة مشاريعها في المنطقة ...
بعض هذه الحملات تأتي من دول ذات أزمة مع التاريخ، وأزمة مع وجودها وهوياتها، وأزمة علاقاتها الصراعية تاريخياً مع مكوناتها، وبما تملك من أدوات تهييج بدائية للهويات التحتية العميقة، ولحروب ثقافية معلنة في عموم محمولات عقلها المتراكم في اللاوعي الجمعي، للمفارقة تبرز هنا فتاوى "تحريم التظاهر" ـ في بلدانها طبعاً ـ وغيرها من الأوهام المكرّسة لطاعة "ولاة الأمر"، وعموم المُلتبس بأوهام "التكفير" في التقديس والتدنيس، ونحو مفهوم "المستبد العادل"؛ بدلاً من مفهوم التوافق الوطني والديمقراطي والتنوع في إطار الوحدة ... ونحو الدولة الحديثة ...
إن هذا "التحصّن" الموهوم مع الهيمنة القطبية الدولية عبر البنية الهرمة للدولة التقليدية؛ يعيش اليوم تحت ثقل ضغط إشكالية التفكك التاريخي لدولة الهوية الأحادية، حين نجد في أول استقطاباتها محاولات "شرعنتها" مجدداً في وجه التاريخ وعبر تقاطعات المصالح المهيمنة، وفي مفارقات القطب المهيمن ومصالحه ومشاريعه، ومنها معطيات النفط والطاقة، في راديكاليات بنى الصنمية واستخدام السياسة في المذهب والمقدس، بما ستذهب به إلى تأجيج التطرف السياسي في هذا الاستخدام الراديكالي للسياسي ـ الديني ذاته، نحو حواضن إرهاب للتطرف، ممزوجة بمصادر القهر الاجتماعي البائس في إقصاء مكوناتها، والنتيجة ما يسمونه في الغرب "فوبيا" الإسلام في مواجهة الحداثة ...
لم يعد بإمكان أية سلطة تقليدية مهما بلغت من أحاديتها الصنمية أن تقيم مجتمعاً بالمعنى السليم للكلمة وفي جوهر الحداثة، وهي في مواجهة مع المواطنة الحرّة المكرسّة لوحدة المجتمع على أُسس ديمقراطية، وتعبيراً عن الإيمان بالتنوع والمساواة ... وغير ذلك هو محاولات واهمة، لإعادة إنتاج دلالات مغايرة لمنطق العصر ...