العدد الثالث آب 2004

حوارات ماركسية
2004 / 10 / 26 - 08:55     

لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره،
وفي سبيل بناء قوة لليسار الماركسي،
تم الاتفاق على اصدار هذه النشرة.
هيئة التحرير
 
العدد الثالث     آب 2004

المحتويات
 1-    افتتاحية -------------------------- ص 3 
2-    ورقة أولية ------------------------- ص 5
3-    القول النظري والقول السياسي- نايف سلوم ص 13
4-    مناقشة أفكار مقالة "العولمة" – محمد خضور--------ص 19
رأي، في "المطارحات" التي تشكل الأساس النظري لما يسمى "في سبيل بناء تجمّع لليسار الماركسي في سوريا"-----سامر خوري افتتاحية
نصدر هنا العدد الثالث من "حوارات ماركسية" من أجل الحوار بين كل المعنيين ببلورة رؤية جديدة، هي نتاج وعي جديد بالماركسية ، وضرورتها للمسألة العربية ، وعبرها وعي الواقع الراهن وحركته.
الحوار بين كل المعنيين بعمل جديد من أجل تأسيس قوة للماركسيين العرب . هؤلاء المعنيون بالواقع العربي في لحظته الراهنة ، والمعنيون أيضاً بتفعيل القوى المجتمعية الديمقراطية ، في سياق مشروع مناهض للإمبريالية الرأسمالية ، يهدف إلى تحقيق المشروع القومي العربي كمهام ديمقراطية.
كنا قد نشرنا في العدد رقم واحد وجهة نظر مجموعة ماركسية تحت عنوان "مطارحات" على شكل ملحق من أجل نقاشها ومحاورتها. والآن ننشر وجهة نظر مجموعة ماركسية أخرى للنقاش بعنوان "ورقة أولية"
بعد نقاشات موسعة تم تحديد موضوعات الحوار على الشكل التالي:
1-المسألة القومية 2- قضايا الإمبريالية الرأسمالية الاقتصادية / السياسية والثقافية وما يسمى "عولمة" الإمبريالية . 3- قضايا الماركسية (المنهج الديالكتيكي، والنظرية، نقدهما وضرورتهما، مع إعادة الإنتاج الموسّع للنظرية الماركسية كنظرية اجتماعية هنا )4- نقد تجارب الانتقال نحو الاشتراكية خاصة الديمقراطية السوفييتية في الاتحاد السوفيتي المتفكّك . 5- المسألة الوطنيــــة 6- الموقف النقدي من التراث القومـي ومن الديــــن 7 – المسألة الأممية 8- الديمقراطية والمهام الديمقراطية 9- الاشتراكية الماركسية كخيار اجتماعي تاريخي .
وإذا كان ما يزال الحوار بسيطاً ، فإننا نأمل أن يتوسع ويتعمق ، توسع وعمق تفرضه السيطرة الإمبريالية الأميركية ، واحتلال العراق والعجز العام الذي تتسم به الحركة السياسية العربية ، بما يفرض من تقدم خطوة نحو بلورة النشاط الماركسي العربي، في سبيل تفعيل الطبقات الشعبية لتقوم بدورها في مواجهة الغزو الإمبريالي الجديد . 
 
ورقــة أوليـّـة
 
كنا قد نشرنا في العدد الثاني من "حوارات ماركسية" (العدد رقم 1) ورقة للنقاش بعنوان "مطارحات من أجل بناء تجمع لليسار الماركسي في سوريا" وننشر هنا وجهة نظر مجموعة أخرى من الماركسيين كمادة للنقاش أيضاً .
هيئة التحرير
 
     إن هدف إعادة بناء الحركة الماركسية، الذي يفرض أولا إعادة بناء المفاهيم و التصورات و الرؤية، يفرض الحوار بين كل المعنيين بالعمل الماركسي. ولكن ذلك يفرض تحديد آليات الحوار و القضايا التي تحظى بالأولوية أو القضايا الضرورية لتحقيق هذا الهدف، ولكي  يكون هذا الحوار مدخلاً لتنظيم نشاط كل هؤلاء , السياسي والمجتمعي، انطلاقاً من وعيهم للواقع العربي/ العالمي و بلورتهم لرؤية تغييره .
    هذا الهدف ينطلق من وعي مشكلات الحركــة الماركسية القديمة ومن النظر النقدي لتجربتها، و بالتالي من السعي لتجاوز تلك المشكلات، خصوصاً في طبيعة وعيها للتطور القائم على انتصار البرجوازية و دورها التابع [كحركة ماركسية]في تحقيق ذلك , و بالأساس طبيعة و عيها للماركسية كونها ( نصوص مقدسة ) تطبّق ميكانيكياً على الواقع بدل البحث في الواقع ووعي تناقضاته و صيرورته. إذن الأساس الضروري هنا يتمثل في تأسيس تصورات و آليات عمل مختلفة عما ساد طيلة ثمانية عقود, مما يمكّن الماركسية من تحقيق التغيير الضروري في الواقع الراهن .
    و إذا كانت قضايا و أفكار و تصورات و مفاهيم كثيرة تحتاج إلى نقاش و إعادة صياغة عبر الحوار , يكون محورها و عي ماهيّة الماركسية من جهة , ووعي الواقع الراهن من  جهة أخرى, فان مواقف أولية تبدو ضرورية من أجل أن يكون الحوار مثمراً و يؤسس لنتائج جادة , يمكن تلخيصها في التالي :
     1) إن المنطلق الأساسي هنا يتمثل في تجاوز المنطق النصي الذي حكم الماركسية القديمة، و بالتالي التعامل مع الماركسية كأداة منهجية تخدم تحليل الواقع و تؤسس لبناء تصورات تسهم في تغييره , هذه الأداة المنهجية هي الديالكتيك المادي. الأمر الذي يفرض النظر النقدي للماركسية ذاتها و يؤسس للنظر التاريخي لمجمل النصوص  التي كتبها كل من ماركس /  انجلز و لينين و كل الآخرين ( كاو تسكي  ,  بليخانوف  ,  بيرنشتاين,  تروتسكي, ستالين ,  روزا، غرامشي، لوكاش، ماو تسي تونغ ) .
      وهذا يسمح بان تكون هذه النصوص مجال نقاش و حوار و اختلاف , و أن توضع في سياقها التاريخي. ومن ثم يتحدد منها ما يرتبط بالمنهجية العامة و ما أصبح  جزءاً من التراث. و بالتالي التأسيس لبناء تصورات أعمق لمجمل القضايا التي تناولتها و التي يمكن أن تكون خاطئة أو غير دقيقة أو غير مكتملة .
     بمعنى أننا ننطلق من انه يمكن بل ، ومن الضروري إعادة تأسيس الماركسية بالاستناد إلى منهجيتها بالذات و هذا يعني تجاوز ما توضح خطؤه و تضمُّن ما أنتجه التطور العلمي والصراع الاجتماعي و النشاط الإنساني.
 
    2) لقد نشأت الماركسية كبديل جذري للفلسفات المثالية، لكنها نشأت كذلك كأداة معرفية تؤسس لبناء البديل الجذري للرأسمالية كونها المعّبر عن، أو المؤسس لأيديولوجيا بديلة تتجاوز الرأسمالية.  و لقد توضح أن دورها التاريخي يتمثل في تجاوز الرأسمالية سواء من أجل تحقيق المهمات الديمقراطية التي ليس من الممكن تجاوزها في إطار الصيرورة التاريخية و التي حققتها الرأسمالية في مراكزها ( أوروبا الغربية , أميركا الشمالية, اليابان) ، أو من أجل تحقيق الاشتراكية , مطمح الإنسانية كلها .
    و لهذا فهي تؤسس للنضال ضد النمط الرأسمالي العالمي و ضد الرأسماليات المحلية , وبالتالي ضد كل سياساتها و حروبها و منطقها الليبرالي المتوحش. الأمر الذي يفرض أن نعمل على بلورة البديل للرأسمالية، إنطلاقاً من أن مشكلات الأمم و مشكلات الطبقة العاملة و الفلاحين و كل الفئات المهمشة لا تحلُّ إلا عبر تجاوز الر اسمالية .
      3) و هذا يفترض وجود أممية جديدة تتأسس على نقد التجارب الأممية السابقة، و لصيرورة الحركة الثورية في العالم، بتنوّعها و أشكال ترابطها، و إجراء الدراسات المعمقة في طبيعة الأمميات الأربعة السابقة، و إظهار الإختلافات فيما بينها، لطرح أممية تعبّر عن مجمل الحركة، و تهدف إلى تنسيق النشاطات العالمية لمختلف القوى الديمقراطية و العلمانية و الماركسية المناهضة للرأسمالية و للعولمة الإمبريالية، واعية التميُّز في الظروف الواقعية و بالتالي في البرامج القومية، الأمر الذي يشير إلى أن الأممية المقترحة هي تحالف عالمي بين أحزاب مستقلة على أساس التكافؤ و المساواة، و من أجل توحيد النشاط العام ضد الرأسمالية.
     4)  و هذا يفرض بلورة المشروع القومي الديمقراطي العربي, انطلاقاً من أن التجزئة- التي هي نتاج الشروط الإمبريالية و العجز الداخلي- لا تلغي كون العرب أمة، و أن التطور القطري مرتبط حتماً بهذا الإطار العربي كون الميل للتوحُّد ( الشعور القومي) أساسي في الواقع، و كون التوحُّد رافعة حاسمة في تحقيق التطور العربي العام، و يؤسس لبناء داخلي قادر على تكوين مفاعيل تطوّر داخليّ مستقل. و أيضا كون الاستقلال و التطور المستقل يحتاجان إلى الكتلة العربية، التي هي ضرورية كذلك في إطار التكتلات الدولية الراهنة.
     الأمر الذي يفرض تحديد تصور واضح في مسالة الوحدة العربية و المشروع الصهيوني و وضع الأمم المتداخلة مع العرب في إطار الحدود السياسية الراهنة، و مسالة الأقليات القومية، و كذلك طبيعة النظام السياسي العربي ( مركزي أو فيدرالي ). و بالتالي بلورة المهمات القومية الديمقراطية التي تتضمن كل المهمات "القطرية"، انطلاقاً من تلك المهام و بالترابط معها، علماً بأن المهام القومية هي مهام "قطرية" كذلك.
 
    5) وإذا كانت الديمقراطية قد أصبحت المطلب العام بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، فلا بد من أن نؤكد على أنها جزء جوهري في أي مشروع ماركسي، سواء في إطار المشروع القومي الديمقراطي أو في الإطار الاشتراكي، أو أساساً في إطار الحزب الماركسي. إنها منظومة قيم وعلاقات ضرورية لتحقيق التطور، و هي شكل للحكم كذلك. و لقد كانت في أساس نشوء الماركسية، و كانت الاشتراكية ( المفترضة ) تتضمن ديمقراطية عصر الأنوار و تطمح في تحقيق المساواة الاقتصادية كمكمل للمساواة السياسية. وإذا كان مفهوم (ديكتاتورية البروليتاريا ) قد إستخدم كغطاء للاستبداد في تلك المنظومة، أو كانت غطاءً له، فإن الديمقراطية المجتمعية هي التي يجب أن تنتصر، والتي تعني تضمُّن الديمقراطية البرجوازية ، أي الديمقراطية السياسية، مع ملاحظة أن هذا التضمّن يفرض تعميقها و ليس نفيها كما جرى في التجربة الإشتراكية.
      6) و إذا كنا نسعى إلى بلورة مشروع مجتمعي فإننا نسعى إلى ذلك انطلاقاً من التزامنا مصالح و أهداف و رؤية الطبقة العاملة و الفلاحين الفقراء الذين يشكلون كتلة هامة في المجتمع و تترابط مصالحهم الآن مع المصلحة المجتمعية ( مصلحة الأمة). و نعتقد بأن دورهم هو المؤسس لتحقيق التطوّر و مجمل المشروع القومي الديمقراطي، لكن بالتحالف الآن مع كل الفئات المعنية بذلك المشروع من مختلف شرائح الفئات الوسطى. الأمر الذي يفرض السعي من أجل تأسيس الحزب المعبّر عن هذه الحقيقة. 
    انطلاقاً من ذلك يمكن أن تصاغ رؤية لدور الماركسية و لفعلها في سياق الحوار، من أجل أن تصبح قوة فِعل أساسية، تحمل على عاتقها مهمة تغييرية كبرى، و أولاً  مهمة مواجهة الحرب الإمبريالية الأميركية و الاحتلالات الأميركية الصهيونية، ملتقية مع الاحتقان الشعبي العام و معبرة عنه، و أيضاً منظمته من أجل أن يقود إلى تحقيق المهمات التغييرية الضرورية لتحقيق الاستقلال و التطور والديمقراطية. متجاوزة النمط الرأسمالي التابع الذي يهيمن على الاقتصادات و الواقع العربي. الأمر الذي يؤسس للنهب و الفقر و الاستبداد والتكيف مع السيطرة الإمبريالية، مما يعمّق في التخلف و التجزئة والتهميش و تفاقم الصراع الطبقي.
 
    وهذا يعني تجاوز القبول بالأمر الواقع و التكيف مع القوى المسيطرة، أو الالتحاق بقوى اجتماعية عاجزة تاريخياً, إلى العمل على تغير الواقع، وبالتالي أن ينتهي المنطق الذي جعل الحركة الماركسية القديمة ذيلاً للبرجوازية لمصلحة ماركسية تغييرية ثورية وعقلانية وديمقراطية .
 
 
 
 القول النظري والقول السياسي
حد العلم والقول السياسي
نايف سلوم
 
الكلمة قول مفرد .. أو[هي] الجمل المفيدة "والمراد بالقول : اللفظ الدال على معنى"[i] . و" نحن نعرف أن كل كلمة تظهر كحلبة مُصغَّرة، تتلاقى فيها وتتشابك وتتصارع النبرات المجتمعية المتناقضة في توجهاتها . وتتجلى الكلمة في فم الفرد كنتاج للتفاعل الحي للقوى المجتمعية"i
القول النظري هو قول العلم الاجتماعي/التاريخي بالتالي هو حد نظري ، أي هو تجريد يميز المفصلي عن العرضي ، يميز المهيمن في ظاهرة ما أو بنية ما عن التابع ، يميز الحركة الباطنية المتوارية عن الحركة الظاهرية المدركة تجريبياً . هذا الحد في لحظته هذه بعيد عن التشخيص، وعن العينية في قراءة الواقع . والبقاء عند هذه اللحظة كالبقاء عند بناء الأعمدة والسقف في مشروع بناء البيت . فهو على هذه الحال غير قابل للسكن ، ويغدو إذا ما أهمل مأوى للحشرات والأشباح . يكتب ماركس في رأس المال "إننا نقوم بعمل علمي ، حينما نرد الحركة المرئية ، أي الحركة التي هي مجرد حركة ظاهرية ، إلى الحركة الواقعية الداخلية".. إن العلم يصبح قائماً بما هو علم غير المرئي هذا، وهذا رد للحركة المرئية إلى الحركة غير المرئية " [ii]
.. من أجل ذلك ، كان الحد الذي يدل على الفعالية العلمية ، هو حد المفهوم "[iii] يكتب مهدي عامل : "فالحد المعرفي[العلمي] ليس مرئياً على مستوى التجربة المباشرة، ليس معطى تجريبياً ، إنه حد نظري . هذا يعني أن وجوده ليس سابقاً على إنتاج معرفته، بل هو وليد سيرورة هذا الإنتاج " [iv]  لا نستطيع الحديث عن قول علمي قبل إنجاز هذا القول بالفعل. هذا ما يقوله بيير ماشري : "إنه ما من قول عن العلم قبل قول العلم .. فنظرية العلم الماركسية تمضي مع ممارساتها"[v]
نشير في هذا السياق إلى أن النقد الفلسفي ومنه النقد الفلسفي الجذري يبقى في الحقل الأيديولوجي ولكنه خطوة أولى نحو بناء العلم . فالنقد الفلسفي يظهر حدود طرح المسائل الملحة لعصر بعينه وحدود الإجابة على هذه المسائل ويرصد شروط العلم وإمكانيات بنائه تاريخياً واجتماعياً .  فالنقد الفلسفي على هذا الأساس هو التمهيد الضروري لبناء العلم التاريخي و الاجتماعي.
علينا أن نشير إلى نقطة أخرى خاصة بالقول العلمي ، هو كونه "يستمد قيمته من نقص إنجازه الواقعي ، أكثر مما سيستمده من مظهره المنجز"[vi] إن تكملته تجد وجودها الحق في القول السياسي وفي الممارسة العملية ، في الحزب السياسي . والحديث هنا عن العلم التاريخي الاجتماعي ، والقول العلمي التاريخي الاجتماعي مفتوح بطبيعته، وهو ما يميزه عن العلم الطبيعي، كونه ينتج علماً لشرط هو نفسه معرض للتغيير، وكونه رصد لميول أساسية في البنية الاجتماعية يجد تحقيقه في الممارسة العملية الاجتماعية الاقتصادية والممارسة السياسية.
في لحظة ثانية ، عند حد آخر يأتي القول الأيديولوجي والقول السياسي ، قول يأتي من جهتين : الأول ، قول نقدي يفند حدود القول السابق على العلم ، ويبين شروط هذا القول ، وشروط إمكان بناء الحد العلمي وهذه بالضبط مهمة الفلسفة النقدية ، بالتالي القول النقدي ليس لديه أي امتياز على القول السابق للعلم لأنه يبقى في حقل القول الأيديولوجي . إنه قول سلبي من ناحية بناء العلم، لكنه ضروري كشرط مسبق وممهد للقول العلمي . هكذا مهدت أعمال ماركس الفلسفية النقدية لبناء العلم والقول العلمي في رأس المال . نذكر على سبيل المثال : كتاب ماركس وانجلز "نقد النقد النقدي أو الأسرة المقدسة" والأيديولوجية الألمانية أو نقد الفلسفة الألمانية الأحدث في أشخاص ممثليها فيرباخ، وب بوير وشتر نر . ونقد كتاب بر ودون "فلسفة البؤس " في كتاب "بؤس الفلسفة " أيضاً "نقد فلسفة الحقوق عند هيغل " ونقد جدل هيغل بشكل عام" في مخطوطات 1844 الاقتصادية الفلسفية الخ ..
من جهة ثانية، القول السياسي هو إكساء للنظري لحماً ودماً وبالتالي الانتقال إلى العيني والمشخص ، أي الوصول إلى التخوم اليومية والانخراط في الجدل الساخن والصراع العملي حول جميع القضايا المطروحة . القول العلمي يوفر لنا شرط إمكان القول السياسي والقول الأيديولوجي الفعال في الصراع الاجتماعي . وقد يسأل البعض :  ألا يمكن للقول السياسي أن يوجد من دون عناء القول النظري السابق الذكر ؟
في الإجابة أقول : إن الاستعجال في الانتقال إلى السياسي/ الأيديولوجي يعني أمرين ، إما تجاوز مرحلة بناء العلم، إي مرحلة إقامة الحد النظري للاختلاف بين القول السياسي الماركسي وبين الكلام البورجوازي ، والتغاضي عن ترتيب مقولات الواقع من حيث المفصلي منها والعرضي ، وبالتالي السقوط في القول الأيديولوجي الاعتباطي الفاسد . وهنا لا يعود تقسيم حدود القول إلى بورجوازي وماركسي يملك أي معنى . وبالتالي لا معنى لأي حديث عن الاستقلال الأيديولوجي، ومن بعد الاستقلال التنظيمي للطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي . إن تجاوز إنتاج حد الاختلاف بين القولين ، يشبه من يريد اكساء البناء قبل إقامة الأعمدة والسقف. فيكون بذلك كمن يكسي في الهواء ، فيقع في الوهم والخذلان . ولا يشعر بهذا الوهم إلا عندما تعصف الريح ويحل البرد والصقيع .
وإما بناء قول أيديولوجي سياسي على أساس إقامة الحد النظري للاختلاف ، أي على أساس حد نظري علمي كشرط لازم لقيام ذلك القول السياسي الماركسي.
نحن نأخذ القول الثاني على محمل الجد ، لأنه لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية . وقد يقول البعض أن النظرية موجودة وحاضرة عبر عمل ماركس ولينين ، ونقول أن النظرية لا تستنسخ بل تبنى ويعاد إنتاجها وفق الشروط الجديدة . ومن دون ذلك نكون مجرد حفظة نصوص لا أكثر .
القول العلمي في عمله التجريدي يعطينا إمكانية أوسع للرؤيا عبر ترتيب مقولات الواقع ترتيباً بعينه ، وهذا الترتيب ليس اعتباطياً ، اختيارياً ، ولا هو ترتيباً للألفاظ التي نشير بها لعناصر الواقع الاجتماعي بل هو ترتيب فعال لمفاهيم الواقع ومقولاته يسمح برؤيا أشمل . إنها مقاييس "ترتب في الذهن ترتيباً ما متى رتبت ذلك الترتيب أشرف بها الذهن لا محالة على شئ آخر قد كان يجهله من قبل فيعلمه الآن... والتي ترتبت في الذهن ليست هي الألفاظ .. لكن [هي] معاني معقولة "[vii]
لقد ظهر من قولنا السابق أن هناك قول أيديولوجي لاحق لقول العلم وهذا صحيح، ذلك أن العلم التاريخي الاجتماعي والعلم السياسي لديه عطالة ما وهو في طريقه إلى الجماهير صاحبة المصلحة التاريخية بهذا العلم ، أيضاً لا بد من تبسيط نتائج العلوم حتى تستطيع بلوغ طريقها إلى أوسع فئات المجتمع، وعبر هذا التبسيط تدخل تحورات على المقولة العلمية ، أي تحاول المصالح المتنوعة والمستويات المختلفة من الوعي تحويير المقولة العلمية وتتكييفها ، وهنا يظهر على شرف القول العلمي قول أيديولوجي قد يعمل لصالح التقدم التاريخي ، ونسميه أيديولوجية عضوية أو ثورية أو أنه يعرقل عمل التاريخ فنسميه أيديولوجية اعتباطية أو رجعية.
 
  
 


[i]  - ابن هشام الأنصاري المصري"شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب" ص 11- 12، أيضاً راجع ميخائيل باختين "الماركسية وفلسفة اللغة" ص59 دار توبقال 1986 ترجمة محمد البكري ويمنى العيد.
[ii]  -  لويس ألتوسير وعدد من الباحثين الجزء الأول ترجمة تيسير شيخ الأرض منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1974 ص 184
[iii]  - قراءة ص 185
[iv]  -  [مهدي عامل في الدولة الطائفية 1986 ص 8]
[v]  -  [قراءة رأس المال ص 248]
[vi]  -   قراءة ..ص 247
[vii] - أبو نصر الفارابي كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي ط2 دار المشرق 1968 ص 100-101
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 مناقشة لأفكار  مقالة:
" العولمة "
أزمة النظام الرأسمالي أم مرحلة جديدة من مراحل تطوره؟
 
لـ "صبر درويش" المنشورة في "حوارات ماركسية" – العدد الثاني – تشرين ثاني 2003‏‏
محمد خضور
 
 
حذار أيها الإنسان، العالم عميق،
 أعمق مّما يصّور النهار *
 
 
إن تدفق الظاهرات الفوضوي ، الطبيعية و البشرية ، وتعقد العالم  (الطبيعي و الاجتماعي ) هما من الغنى والتعقيد بحيث لا يستطيع التحليل أن يعرض لهما بدون القيام بمحاولة تبسيط أولي . وفكرنا يفصل بالضرورة قطاعات محددة في هذا التدفق , في هذا التشابك،  وبهذا القطاع يبدأ التفكير ويبدأ الرد .
في بداية المقالة يطرح الكاتب قضية رفضه للتعريف والتعريفات، فهي لا تعدو كونها فكرة جامدة , تحيل إلى المدرسيّة الغير مجدية هنا . إذاً نحن هنا مع التحديد – التحديدات , التعيينات مع بسط المفهوم.      
بديهي أن مشكلة التعريف ترتبط بشكل وثيق مع مشكلة التحديد التاريخي فتعريف لينين للإمبريالية – بأنها هي الرأسمالية في مرحلة الاحتكار _  يتسم بشموليته فهو يرى الإمبريالية ككل شامل لجميع السمات البارزة لمرحلة الرأسمالية وليست مجرد مفهوم ضيق ينطبق على العلاقة بين الرأسمالية المتقدمة وبين المستعمرات . فحركة المعرفة نحو الموضوع لا يمكن أن تحصل إلا جدلياً . "1"  لأننا لا نستطيع أبداً أن نعرف العياني بشكل كامل  إن جمعاً لانهاية له من المفاهيم العامة و القوانين تدفعنا خطوة نحو معرفة العياني .
ثم يعرض الكاتب الإشكالية التي وقع بها الدكتور صادق جلال العظم . يقول : " بيد أن الإشكالية تبدأ لدى العظم عندما يقوم هذا الأخير بالخلط بين الظاهرة وسطح الظاهرة , عندما يغفل عن التمييز بين ما هو جوهري في النظام الرأسمالي وبين ما هو عرضي , بين المتغيرات الكيفية و المتغيرات الكمية " .
إن طرح الأسئلة الصحيحة لا يعني بالضرورة معرفة الأجوبة الصحيحة . فالكاتب يبين إشكالية العظم بأنه خلط بين الظاهرة وسطح الظاهرة . لكن هذا الإعلان لا يسعف الكاتب في قراءته للإمبريالية لأنه قام بفصل في عمق الظاهرة فهو لا يقدّر أهمية التناقض بين قوى الإنتاج وشكل الملكية الخاصة وأفق هذا التناقض والإمكانية التي يوفرها لتجاوز الملكية الخاصة جوهرياً .
وللمفارقة الطريفة فإن الكاتب في كل مقالته لا يذكر عبارة " علاقات الملكية الخاصة  الرأسمالية " .
فالتناقض بين القوى المنتجة وشكل تقسيم العمل  وشكل الملكية الخاصة .. هذا التناقض كان يتمظهر بأشكال ثانوية ... تناقض أفكار ... تناقض الوعي الخ ... إلا أنه لم يُعرّض الأساس أي الملكية الخاصة كملكية خاصة للخطر . فقط مع الصناعة الكبرى ومع رأس المال الصناعي فقط مع ظهور البرجوازية الصناعية الحديثة باتت الملكية الخاصة بصورة جوهرية أي كملكية خاصة بغض النظر عن شكلها التاريخي ممكنة التجاوز.
لقد خلقت الصناعة الكبيرة هذه الإمكانية لتجاوز الملكية الخاصة جوهرياً . فلم يعد تطور القوى المنتجة يدخل في تناقض مع أحد أشكال الملكية فحسب بل بات في تناقض مع الملكية الخاصة بشكل جوهري . " 2 "            
وهنا لابد من ذكر ما قاله ماجد وف : " الدرس المهم الذي يجب تعلمه من تاريخ الرأسمالية هو أن المشاكل الكبرى لا تؤدي إلى انهيارها انهياراً أوتوماتيكيا ( اقتصادياً )  " 3 " . ويضيف ماجد وف : " إن مصير الرأسمالية في النهاية سوف تحدده فقط الطبقات الناشطة داخل المجتمع والأحزاب القائمة على هذه الطبقات والتي لديها الإرادة والقدرة على استبدال آلية النظام القديم ."  4 "  .  يبدو أن الكاتب يقلل من أهمية تغيير علاقات الملكية وتصفية الملكية الرأسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج . فكلما ازداد إبعاد علاقات الإنتاج الاجتماعية بالمعنى الماركسي عن التحليل ازدادت المعالجة بأكملها اقتراباً من الاقتصاد البورجوازي التقليدي أو بالأحرى ازداد رجوعها إليه وكلما ازداد ثبات المحاجة لصالح الطابع المركنتلي[التجاري] للإمبريالية بالإشارة إلى التبادل الدولي غير المتكافئ بوصفه الشكل الأساسي للاستغلال و اللامساواة ازدادت الحاجة إلى إهمال علاقات الملكية الدولية للرأسمالية الاحتكارية واعتبار رأس المال نقوداً أو أحد عوامل الإنتاج  وليس علاقة اجتماعية(علاقة ملكية أو علاقة استغلال) . 
و بما أن الملكية ، بوصفها حكراً على أصحابها دون الآخرين، تشكل الركن الأساسي للاقتصاد الرأسمالي عموماً حتى أن العالم العجائبي الخيالي لوجود سوق رأسمالية تامة ومنافسة حرة وحركة غير محدودة لعوامل الإنتاج لا يمكن أن يقوم من دون هذا الاحتكار  . فإنه لمن السذاجة حقاً أن تربط المساواة المنشودة في العلاقات الاقتصادية الرأسمالية الدولية بفروق تجري فيها المنافسة وحركة عوامل الإنتاج بعيداً عن الاحتكار .
فالاحتكار قائم في الشروط الرأسمالية للإنتاج السلعي نفسه ."8" في العصر الإمبريالي
فالكاتب عندما يغيب علاقات الإنتاج الرأسمالي وعلاقات الملكية الرأسمالية الخاصة يلتقي تفسيره مع الفهم التجاري للإمبريالية الذي يرفضه باستغراب وبلوم تجاه منتقديه.
ويأتي هذا عند تأكيده على فهم سمير أمين للإمبريالية **.
فالنظرية التجارية تفسر الاستغلال بالتفاوت العالمي في الأجور بالتالي يتركز التفسير ليس في علاقات الإنتاج الرأسمالية وعلاقات الملكية الرأسمالية الخاصة بل في الطبقة العاملة ونقاباتها في المراكز الرأسمالية  أي يتركز الانتباه على النقابات العمالية في المراكز . "7 "
فالنظرية التجارية قاصرة في تفسيرها للإمبريالية وغير قادرة على التقاط التغيرات التي تطرأ على الإمبريالية وعقيمة في أفقها ، فهي لا تسعى في فهمها إلى رصد العلاقة بين نشاط الشركة متعددة القومية الجديد وبين الاحتكار وأشكاله القائم على الملكية الخاصة الرأسمالية . فالعيب الجوهري في الفهم التجاري للإمبريالية لا يأتي فقط من جهة المساواة الزائفة للعالم السلعي أي لا يحصل بسبب اللامساواة الاجتماعية القائمة و المستترة وراء تبادل قيم متساوية في السوق تبادل كميات متساوية في العمل والكامن جذورها في العلاقات الاجتماعية ( علاقات الملكية الخاصة ). بل لأنه حتى التكافؤ الشكلي للتبادل ( تبادل كميات متساوية من قوة العمل ) لا يمكن أن يكفل ويأتمن بالتدفق الدولي الحر لرأس المال والعمل  . "8"
ويتساءل الكاتب بالإضافة إلى تساؤلات العظم عدة تساؤلات منها : لماذا النظام الرأسمالي يعمد إلى الحفاظ على تخلف التشكيلات الطرفية وتكريس نمو هذا التخلف ؟ الخ..
هذا الاشتراط يقيد الكاتب ويمنعه من فهم ديالكتيك الكل وأجزائه وعدم فهم كيفية تبديل الكل بتغير أجزائه .
فالنظام الرأسمالي العالمي هذا الذي خلق التخلف ، وجعل البنية الاجتماعية الاقتصادية للبلدان المتخلفة ثمرة قوى الرأسمالية العالمية ، ينسينا تماماً أن هناك علاقة معاكسة قد ظهرت إلى الوجود منذ أن اكتسب نظام التخلف إطاراً  قومياً بظهوره في دولة مستقلة .( من هنا أهمية المسألة القومية في الأطراف كمهمة ديمقراطية كبرى ) 
إن هذه البنية الاجتماعية الاقتصادية بالذات . وهذا التخلف بازدواجيته الداخلية وتشويهه البنيوي يفسح المجال لنشاط تلك القوى السياسية المحلية والدولية .
وبدلاً من رفع الشعار المغامر واتباع السياسة المغامرة للثورة العالمية التي تبدو بالمناسبة تبريراً لعدم القيام بالمهمات الراهنة ، مهمات تحويل الخاص أو الوطني، يفترض التأسيس لنضال أممي مؤسس قومياً ومحلياً .
وأهمية اتباع سياسة إجراء تحولات داخلية للأنظمة والبنى الفوقية و اللجوء إلى ذلك النوع من التعاون الدولي اللازم والهادف إلى سحق القوى الخارجية المعيقة لهذا التحول ."9
ومن هنا الضرورة الاستراتيجية لتحالف البروليتاريا الصناعية مع الطبقات الأخرى التي أنهكتها الصناعة الكبرى ومع البلدان التي تركتها هذه الصناعة على هامش تطورها .
وهنا ينقلب الأمر فما كان أخرًا يصبح أولاً أي تغدو البلدان الطرفية في قيادة الحركة ضد رأس المال في طوره الاحتكاري حيث يتركز الفعل الديمقراطي العالمي . "10" 
 
 
 
*هنري لوفيفر – اللسان والمجتمع – ترجمة : مصطفى صالح . منشورات وزارة الثقافة و الإرشاد القومي – دمشق – 1983 ص 370-173 بتصرف.
**لا أستطيع هنا إعطاء مسح نقدي لنظام سمير أمين النظري الشامل . لكن سوف أناقش جوانب من نظريته في مقالة أخرى وخاصة التبادل غير المتكافئ وآلية الاستغلال الرأسمالي الدولي وأساسه وآثاره .           
1-    روجيه غار ودي – فكر هيغل – ترجمة وقدم له الياس مرقص – الطبعة الثانية – 1983- دار الحقيقة – بيروت – المقدمة ص 42 .
2-    د. نايف سلوم – مدخل إلى الإديولوجية الألمانية – الطبعة الأولى –2003- دار التوحيدي للنشر ص85 .
3-  هاري ماجدوف – الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم – مؤسسة الأبحاث والدراسات – الطبعة العربية الأولى 1981الطبعة الإنكليزية 1978- ص140.
4-    هاري ماجدوف – مرجع سابق –ص140 .
5-  توماس سنتش – نقد نظريات الاقتصاد العالمي – الجزء الأول  ترجمة : عبد الإله النعيمي – مركز الأبحاث و الدراسات الاشتراكية في العالم العربي – الطبعة الأولى ص 122 .
6-    توماس سنتش – مرجع سابق ص129.
7-    سنتش مرجع مذكور ص135-136.
8-  سنتش - الاقتصاد السياسي للتخلف – الجزء الأول – ترجمة فالح عبد الجبار – دار الفارابي – بيروت – الطبعة الأولى 1978 – ص169 . بتصرف .
9-    د. نايف سلوم – مرجع سابق – ص85 .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
رأي
 في المطارحات* التي تشكل الأساس النظري لما يسمى
"في سبيل بناء تجمع لليسار الماركسي في سوريا"
 
سامر خوري
 
 
عند قراءة المطارحات الأساسية، لا يعرف المرء من أين يبدأ وأين ينتهي. ومما يزيد الأمر سوءاً أن الشروحات، وبدلاً من أن تؤدي مهمتها في إيضاح المطارحات الأساسية ، فإنها على العكس زادت الأمر تعقيداً.
إن التشويش، وعدم الوضوح، والقفز من فكرة إلى أخرى، واستحضار تجارب البلدان الأوربية وإلصاقها بشكل اعتباطي على واقعنا، وعدم دقة المصطلحات، وانعدام الترابط العام، كل ذلك يشكل السمة الغالبة في المطارحات وخاصة الشروحات.
"لا تبحث عن قطة سوداء في الظلام لأنك لن تجدها". هكذا يقول المثل . فالكثير من الأفكار تعرض بطريقة لا يفهم منها أي شيء. ناهيك عن ذلك الكم الهائل من الاقتباسات، بدءاً بالقرآن ونهاية بلينين، وبشكل غير منسجم على الإطلاق، مما يجعل من إعادة النظر في طريقة عرض الأفكار أمراً واجباً.
أضف إلى ذلك أنه يتم حسم قضايا نظرية كبيرة ، بمنتهى البساطة واليسر وكأنها أمر مفروغ منه ، في حين أن مثل هذه القضايا تحتاج إلى مجلدات للبرهنة على صحتها. هكذا هو الأمر مع الطرح الذي جاء في المطارحة الثالثة والذي يعتبر أن:"الوريث الشرعي للبرنامج الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة. الأعوام 1500-1850 هي البروليتاريا". إن هذا الطرح يخالف النظرية الماركسية، ولا بأس في ذلك. ولكن عندما نخالف مقولة أو فكرة أساسية ما، في النظرية ، فإنه يتوجب علينا أمران:
أولاً: دحض ما قالته الماركسية اللينينية حول هذه المقولة أو الفكرة، دحضاً علمياً تاماً.
ثانياً: البرهنة علمياً على صحة المقولة أو الفكرة الجديدة.
خلافاً لذلك يستطيع المرء أن يتكلم ما يشاء، ولكن يبقى الكلام من أجل الكلام. وهذا الأمر هو على نفس الدرجة مع من يريد أن يسبح إلى عرض البحر ويصرخ هناك بأعلى صوته.
إن طرح أفكار نظرية جديدة ، خطرة إلى هذا الحد، بهذه السهولة وبدون إقامة أي برهان عملي عليها، سوى عدة اقتباسات من هنا وهناك أمر مرفوض كلياً. ومن باب أولى إعادة الحسابات مرة أخرى.
من جهة أخرى غالباً ما يقع المرء على أفكار غريبة وغير صحيحة في هذه المطارحات مثلاً جاء في شروحات المطارحة الثانية ما يلي: "وهنا تطرح مسألة منهجية خاصة بعلاقة العام أو الأدوات النظرية بالخاص أو بالواقع الفعلي المعطى لنا". من الواضح هنا أن المقصود بالأدوات النظرية هو العام نفسه. ولكن كيف يمكن للأدوات النظرية أن تكون هي العام نفسه؟
وما هو المقصود أصلاً بالأدوات النظرية؟ هب هي أدوات البحث العلمي؟
إن هذا الخطأ هو أمر غير مفهوم إطلاقاً.
*جاء في شروحات المطارحة الثانية أن المراكز الإمبريالية راحت "تصدّر أزماتها إلى الأطراف، بما فيها المسألة اليهودية". هذا الكلام يعني أن المسألة اليهودية تشكل أزمة داخل المراكز الإمبريالية، وتم تصدير هذه الأزمة إلى الخارج.
إن هذا الرأي يفتقد إلى الدراسة وهذا غير دقيق.
كما جاء في الشروحات ما يلي:
"رابعاً: زوال الاستعمار. وصعود الشركات المساهمة المتعددة الجنسيات منذ الحرب العالمية الأولى"
أولاً: إذا كان الحديث يدور حول الشكل القديم للاستعمار ، وهو ما اتفق على تسميته بالاستعمار القديم (المباشر) فإن هذا الكلام غير صحيح. إذ لا يمكن الحديث عن بدء زوال هذا الشكل من الاستعمار ، إلا بعد الحرب العالمية الثانية وليس الأولى، ذلك بعد هزيمة النازية وصعود الاتحاد السوفييتي مع منظومة الدول الاشتراكية كقوة عظمى، ودعمها لحركات التحرر العالمية. وإذا كان هذا الأمر يحتاج إلى برهان ، يمكن الرجوع إلى التاريخ السياسي لجميع البلدان المستعمرة، لنجد أن معظم هذه البلدان إن لم يكن جميعها قد نالت استقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية.
ثانياً: إذا كان الحديث يدور عن الاستعمار الجديد (الاقتصادي) ، فإن هذا الاستعمار ما زال قائماً وبأ بشع صوره وليس نادراً أن يرتد إلى شكله القديم (العراق، أفغانستان....).
على هذه الحال فإن الفكرة السابقة المطروحة غير صحيحة، وأكثر من ذلك أنها تثير الدهشة.
*في شروحات المطارحة الثانية جاء أيضاً أن:"للبعد التفسيري ثلاث لحظات".
إني أريد أن ألفت النظر إلى أن السمة البارزة في هذه المطارحات هو الميل نحو تعقيد المهام المطروحة، في حين أن الواجب يقضي بحل القضايا المعقدة، وعرضها بأكثر ما يمكن من الوضوح. إن الحقيقة بسيطة. وعندما تكون الأفكار واضحة في عقولنا فإنها ستتخذ شكلاً واضحاً حين التعبير عنها كتابياً، أما إذا كانت أفكارنا مشوشة فستكون طريقة العرض مشوشة أيضاً. (أما الأسوأ فهو أن بعض الكتاب يسعون سعياً لعرض أفكارهم بطريقة معقدة وضبابية مما يوهم بعض القراء أن الحديث يدور حول قضايا صعبة ومعقدة إلى درجة أن القارئ لا يفهمها، وأن الكاتب على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة بحيث أن القارئ لا يفهم أفكاره. طبيعي أن هذا الأمر على درجة من السوء ، بحيث أن هؤلاء الكتاب وما أن تفك طلاسمهم حتى نجد أن وراء هذه الطلاسم سراباً لا أكثر . وأن أفكارهم المكتوبة نفسها تتخذ معاني هم أنفسهم لا يقصدونها).
ولنعد إلى "اللحظات الثلاث"، كان من الممكن أن نقول مثلاً:"للبعد التفسيري ثلاث مظاهر" أو "للبعد التفسيري ثلاث أشكال". كان ذلك أوضح بكثير، سيما وأن "اللحظات الثلاث" ورطتنا في مكان آخر. ففي تتمة لذلك الموضوع جاء الحديث عن أن هذه "اللحظات الثلاث" هي "لحظات متداخلة ومترابة ومتزامنة". وبديهي أنه لا وجود للحظات المتزامنة فالزمن ذو بعد واحد).
وهاكم ما جاء في شروحات المطارحة الثالثة:
"يؤدي تفكك العقلانية البورجوازية "كعقلانية ما كروية" كلية إنسانية وتقنية معا ًواقتصارها على الجانب الاقتصادي المحض والتقني تحديداً إلى إغفال هذه العقلانيات البؤرية لمشكلة الاستغلال والتفاوت في الثروة والفقر".
أيمكن لنص أن يكون أكثر تعقيداً وغموضاً من هذا النص؟
"عقلانية ما كروية كلية إنسانية وتقنية معاً". ما هي العقلانية التقنية؟ سندور ساعات وساعات ونتوه في نقاشات عويصة لتحديد ماهية "العقلانية التقنية" و"العقلانية البورجوازية"، وإذا تم التوصل إلى حل ، فلن يكون إلا على قاعدة أنه لا يوجد خطأ لا يمكن الدفاع عنه وتبريره.
من جهة أخرى، هل الاستغلال والتفاوت في الثروة والفقر نابع من إغفال "العقلانيات البؤرية" لهذه القضايا، أم أنه نابع من جوهر العلاقات الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي؟
*في شروحات المطارحة الرابعة وردت عبارة "الإمبريالية ومنها الإمبريالية المعولة".
حسناً كم نوعاً للإمبريالية؟ وما هو الفارق الجوهري بين الإمبريالية العالمية وهذه أنواع الجديدة من الإمبرياليات؟
ليس للإمبريالية أنواع . إن الإمبريالية هي الرأسمالية في طورها الأخير ، والنظام الرأسمالي بشكل عام (بما فيه الإمبريالية كمرحلة أخيرة له) هو تشكيلة اجتماعية-اقتصادية محددة تاريخياً.
إن جوهر الإمبريالية هو سيطرة الاحتكارات . وعلى هذه الحال يمكن أن نقول : الإمبريالية الأمريكية، الإمبريالية اليابانية ، الإمبريالية الأوربية ..وذلك لارتباط هذه الأسماء بمراكز نشوء هذه الإمبرياليات. ولكن هذه الإمبرياليات لا تختلف نوعياً عن بعضها البعض ، بل إن جميعها تتشابه في الجوهر، أي في سيطرة الاحتكارات.
ألم يكن جورج بوش الأب أول من أعلن ولادة ما سماه "النظام العالمي الجديد"؟ أليس هو من قام بطمس مصطلح "الإمبريالية العالمية"لصالح مصطلح جديد هو "العولمة"؟
إذن ها نحن ومن دون إدراك- نسوق مصطلحات الإمبريالية الأمريكية.
لا يمكن الدخول في جميع التفاصيل . إن ذلك أمر لا ينتهي . فالشروحات مليئة بالأفكار المغلوطة –من وجهة نظري- والتي لا نفع من مناقشتها، طالما أن القضايا الأساسية المطروحة ، هي غير صحيحة في جوهرها. وأنا لا أتكلم هنا عن استشهادات مطولة من القرآن ، جاءت في غير سياقها، ومن غير المفهوم أصلاً كيف يتم الاعتماد عليها في خدمة الفكرة الأصلية ، فالقرآن حمال أوجه، ولكنا نذكر بقصة الوليد...)، بل سأعطي مثالاً واحداً – لكنه ليس وحيداً بالتأكيد-على ذلك ، فقد وردت في شروحات المطارحة الثانية أن:"تقديمنا للماركسية على أنها تفسير وتغيير ، وعلى أنها منهج إجمالي في التحليل البنيوي والتاريخي، وعلى أنها أي الماركسية ذات جانب معياري" (جانب العداء للملكية الرأسمالية الخاصة). نابع أصلاً من العيوب التي نتجت عن التعليم السوفييتي البيروقراطي.
إذاً ، شكراً لعيوب التعليم السوفييتي البيروقراطي. لولاه ما فهمنا الماركسية أبداً!! إن قناعة المرء بالماركسية اللينينية يجب أن تنطلق من الفهم العلمي لهذه النظرية المتحيزة لصالح الطبقة العاملة، وليس بناء على عيوب التعليم السوفييتي البيروقراطي.
وبالمناسبة فإنه من الواضح أن "التجمع" يستند إلى الماركسية دون اللينينية ، وهي قضية كان يجب أن ينصب عليها النقاش، طالما أن الحديث يدور عن وضع أسس لحركة تدعي الفكر الشيوعي. وأظن أن من نافل القول أن لينين أكمل وطور الفكر الماركسي، بشكل أساسي وحاسم، وفقاً لأحدث إنجازات العلم في حينه، وطور الديالكتيك المادي في كتابه "المادية ومذهب النقد التجريبي"، ووضع نظرية الإمبريالية في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" باعتبارها المرحلة الأخيرة من تطور النظام الرأسمالي.
إن هذا التطوير الأساسي، والإكمال ، كفيل على إبقاء الاعتراف بالاسم العملي للنظرية العلمية . أي "الماركسية اللينينية". أما الاعتراف بالماركسية فقط ، فهو إما عدم اعتراف بالتطورات اللاحقة للينين ، أو أنها ردود أفعال على انتكاسة الثورة الروسية.
إني لا أريد الانجرار إلى مناقشة كل هذه الأفكار الجزئية بالرغم من أهميتها البالغة، ولكن الذي حصل عند قراءة هذه المطارحات أني تذكرت قصة لملك زار ملكاً آخر . وكانت العادة تقضي بأن تطلق المدفعية إحدى وعشرين طلقة ترحيباً بالملك الزائر ، إلا أن ذلك لم يحصل ، مما أثار حفيظة الملك الضيف، فسأل مضيفه عن السبب، فأجابه أن هناك سبعة أسباب، ولما سأله ما هي أجاب الملك المضيف: السبب الأول أنه لا توجد في مملكتنا مدافع.
فرد الملك الزائر: لا تكمل لي بقية الأسباب.
وهكذا عندما يتفهم المرء ما يريده التجمع لا توجد مدفعية ولا داعي لذكر بقية الأسباب.
فعندما يكون الخلاف قائماً على القضايا الأساسية، فإن مناقشة التفاصيل هي مضيعة للوقت.
وبالرغم من أن قضيتين أساسيتين هما الجديرتين بالرد. وأعني بذلك "العلم العربي الماركسي الجديد" و"مشروع التوحيد القومي العربي الديمقراطي"، إلا أن هناك ملاحظات هامة لا بد من ذكرها.
1-اسم هذه الحركة:"تجمع اليسار الماركسي"
إن وجود اليسار يعني وجود اليمين والاعتراف به. الاعتراف به حياً أيضاً. فموت اليمين يعني موت اليسار، ولا يسار بدون يمين. وأكثر من ذلك لا يسار ولا يمين إلا ضمن تشكيلة الأحزاب البورجوازية. ونظرياً، هذا يقود إلى الاعتراف بأبدية النظام الرأسمالي.
إن الفكر الشيوعي يمتلك الحقيقة لأنه فكر علمي. والحقيقة تحدد بمدى مطابقتها للواقع. وهي بذلك مستقلة عن أي يمين أو يسار.
وبالطبع لا داعي لنقاش كلمة "تجمع" الواردة في الاسم، ولا كلمة "الماركسية" ، وذلك على نفس مبدأ "مدافع الملك" في الحكاية السابقة.
2- تعتبر المطارحة الثانية أن للماركسية بعدان، الأول تفسيري والثاني تغييري.
يمكن أن نفسر العالم بدون أن نغيره. ولكن لا يمكن أن نغير العالم بدون أن نفسره أولاً . وهذا يعني أن التفسير هو في خدمة التغيير. إنه أحد مكوناته، وبالتالي لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض كبعدين مستقلين أحدهما عن الآخر (إلا كعملية ذهنية تجري أثناء التفكير).
3- بالنسبة للمطارحة الثالثة فهي تعتبر أن "انفصال الليبرالية عن الديمقراطية قضية نظرية محورية وحاسمة" وذلك اعتباراً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر ، خاصة "مع ظهور الاحتكار والإمبريالية والنزعة العسكرية والكولونيالية الاقتصادية والاستعمار في الرأسمالية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين".
ولهذه الأسباب كلها فإن "الوريث الشرعي التاريخي للبرنامج الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة الأعوام 1500-1850 هي البروليتاريا).
كما جاءت الإشارة في الشروحات إلى "تخلي الرأسمالية كدولة احتكارية ورأس مال احتكاري عن الديمقراطية كمسألة عضوية لدى البورجوازية".
في البداية لا بد من الإشارة إلى قضية صياغة هذه الأفكار. فالإمبريالية هي الرأسمالية الاحتكارية . والكولونيالية هي الاستعمار. وبالتالي فإن العبارة السابقة والتي تقول:"مع ظهور الاحتكار والإمبريالية والنزعة العسكرية والكولونيالية الاقتصادية والاستعمار في الرأسمالية" تصبح بعد تفكيك مصطلحاتها على الشكل الآتي:"مع ظهور الاحتكار والرأسمالية الاحتكارية والنزعة العسكرية والاستعمار الاقتصادي والاستعمار في الرأسمالية"!! وكان يمكن اختصار كل هذا بعبارة أدق:"مع ظهور الإمبريالية ونزعتها الاستعمارية الحتمية".
وكذا الأمر بالنسبة للعبارة الأخيرة:"تخلي الرأسمالية الاحتكارية كدولة إمبريالية ورأس مال احتكاري..".
وجدير بالذكر أن الاستعمار لم يبدأ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كما تقول المطارحة . فشركة "الهند الشرقية" مثلاً تأسست عام 1600 ، وكان لها قوة الدولة ، حيث امتلكت جيشاً خاصاً استطاعت به أن تهزم البرتغال عام 1622 لتخرجها نهائياً من مضائق الهر مز، وتفرض سيطرتها على عموم الهند بعد ذلك وتنهب خيراتها بأبشع أشكال النهب.(تلك هي ثمار ديمقراطية البورجوازية الصاعدة).
وقد جاء في نفس الشروحات أن نابليون غزا "مصر وأوربا في القرن الثامن عشر".
لقد أردت الإشارة إلى هذا الأمر لأنه وأثناء قراءة الشروحات غالباً ما يقع المرء على أخطاء من هذا النوع.
لكن هذه الأشياء غير هامة نسبياً. فالقضيتان الهامتان اللتان يجب مناقشتهما في المطارحة الثالثة هما: أولاً، انفصال الليبرالية عن الديمقراطية . وثانياً، وراثة البروليتاريا للبرنامج للبورجوازية الصاعدة ، بعد تخلي "الإمبريالية" عن "الديمقراطية كمسألة عضوية لدى البورجوازية".
ليس هناك ديمقراطية مجردة . مثل هذه الديمقراطية لم يعرفها تاريخ التطور البشري. إن الديمقراطية المجردة هي وهم، تحاول الطبقات الظالمة عبر التاريخ ، إقناع السذج من أبناء الطبقات المظلومة به.
في المجتمع الطبقي، هناك ديمقراطية واحدة هي ديمقراطية الطبقة السائدة وديكتاتوريتها في الآن نفسه، وذلك ضمن تشكيلة اجتماعية اقتصادية محددة تاريخياً.
إن تاريخ المجتمع الطبقي يعرف ثلاثة أشكال من الديمقراطية. وهي ديمقراطية عصر الرق، حيث مارست طبقة ملاك العبيد ديمقراطيتها من جهة، وديكتاتوريتها على العبيد من جهة أخرى. (المثال النموذجي على ذلك هو اليونان القديمة).
وفي عصر الإقطاع ، كان "النبلاء" الإقطاعيون يتمتعون بديمقراطيتهم كطبقة سائدة، وفي الوقت نفسه كانت هذه الطبقة تمارس كامل ديكتاتوريتها على طبقة الفلاحين الأقنان المقهورة.
ولم يختلف الأمر بشيء في عصر الرأسمالية، إذ سعت البورجوازية الناشئة للاستعانة بالعمال ، فقط من أجل مساندتها في القضاء على طبقة الإقطاع الرجعية ، طارحة شعاراتها الديمقراطية البورجوازية "الحرية، الإخاء، المساواة". وما أن تم القضاء على الإقطاع ، حتى برز الصراع الطبقي مرة أخرى، بين طبقة البورجوازيين من جهة والطبقة العاملة من جهة أخرى. وكما هو الحال في كي مجتمع طبقي ، تمتعت البورجوازية المسيطرة بديمقراطيتها (وما زالت تتمتع بالطبع)، وأحكمت ديكتاتوريتها على الطبقة العاملة.
الآن ، هناك نظام إمبريالي عالمي. والإمبريالية هي المرحلة الأخيرة في النظام الرأسمالي ، والذي يسيطر فيه رأس المال الاحتكاري. وهذه السيطرة تقع في يد الطبقة البورجوازية التي تتمتع بكامل ديمقراطيتها (أكثر من أي وقت مضى) ، في حين تمارس أبشع أشكال الديكتاتورية، ليس على طبقتها العاملة فحسب، بل وعلى شعوب العالم المستعبدة والمعذبة كلها.
ومن هنا فإن الكلام عن انفصال الليبرالية عن الديمقراطية هو لغو غير مفهوم.
فالليبرالية هي اتجاه فلسفي سياسي بورجوازي ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مستمداً أفكاره بشكل رئيسي من أفكار المنورين الفرنسيين ، ومثلت آنذاك أيديولوجية البورجوازية الناشئة، التي كانت تناضل ضد الإقطاع ، داعية إلى ترسيخ قيم الديمقراطية البورجوازية ، وتوفير المنافسة الحرة. وفي العقود الأخيرة (بعد التحول إلى الإمبريالية) تعصف بالليبرالية أزماتها، كجزء من أزمة الديمقراطية البورجوازية. ومن هنا، فإن القول بأن "الرأسمالية الاحتكارية" تخلت "عن الديمقراطية كمسألة عضوية لدى البورجوازية" كما جاء في الشروحات، يعني بالتحديد أن البورجوازية تخلت عن الديمقراطية التي تتمتع بها البورجوازية.
وعلينا أن نرفع الأنخاب عالياً جداً. فإذا كانت البورجوازية تتخلى عن ديمقراطيتها التي تتمتع بها اليوم فمن المؤكد أنها ستتخلى عن ديكتاتوريتها غداً، بل إنها ستقدم للطبقة العاملة أطباق الحلوى بعد غد.
إن الديمقراطية في المجتمع الطبقي ، هي ديمقراطية الطبقة السائدة. وهذه الطبقة لا تتخلى طوعاً عن أي من مصالحها.
أما النقطة الثانية ، وهي وراثة البروليتاريا للبرنامج الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة، ووفقاً لما جاء في الشروحات، يكاد الأمر يبدو أنه قد تم بموجب صك رسمي "طابوا" ، حيث يتم التأكيد على أن البروليتاريا هي الوريث الشرعي، وأظن أنه كان يجب إضافة كلمة "الوحيد" ، لإزالة أي لبس.
هناك ولع عند واضعي المطارحات بديمقراطية البورجوازية الصاعدة (وهي لا تتميز بشيء مختلف جوهرياً عن الديمقراطية البورجوازية عامة ، إلا بقدر الاختلاف البيولوجي لشخص فتي، عن نفس الشخص وهو عجوز). إلا أن البورجوازية خذلت "التجمع" ، ولم تكمل مشروعها الديمقراطي. وافت المنية هذا المشروع. وحيث أن الموتى يتركون وراءهم ورثتهم، فقد تبين –بعد التمحيص- أن الوريث الشرعي لهذا الميت، هو البروليتاريا. وهذه المرة يجب أن نرفع القبعات عالياً، تحيا البورجوازية التي أورثت البروليتاريا هذا المشروع الديمقراطي التافه.
نحن لا ندري ما إذا كان واضعو المطارحات يعترفون بأن المهمة التاريخية للبروليتاريا تكمن في الإجهاز على هذه البورجوازية وإقامة المجتمع الشيوعي الذي ستقيمه البروليتاريا هي تلك الديمقراطية التي ورثتها البروليتاريا عن البورجوازية "الصاعدة"؟ أم أنها تختلف عنها اختلافاً جوهرياً؟
إنها تختلف اختلافاً جوهرياً . فديمقراطية البورجوازية (الصاعدة أو الهابطة) الشكلية، هي ثورية، فقط بالنسبة لديمقراطية الإقطاع. ولكنها رجعية ومتخلفة تاريخياً عن ديمقراطية المجتمع الشيوعي.
يقينا أن المجتمع البشري (والتطور بشكل عام) يحتفظ خلال تطوره بكل ما هو حي ، وقابل للحياة، من التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السابقة. ومن وجهة النظر هذه ، فإن ديمقراطية المجتمع الشيوعي تحمل في ثناياها كل العناصر القابلة للحياة، ليس من ديمقراطية البورجوازية فحسب، بل من كل التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السابقة، منذ بدء تاريخ تطور المجتمع البشري.
إلا أن الفارق النوعي لديمقراطية المجتمع الشيوعي، تكمن في أنها الديمقراطية الوحيدة التي تتم في مجتمع خال من الاستغلال الطبقي (إذا استثنينا الديمقراطية العفوية للمجتمع المشاعي البدائي)، وفي هذا تكمن ميزتها الجوهرية، واختلافها الأساسي عن الديمقراطية البورجوازية التافهة والشكلية.
والجدير بالذكر ، أن البروليتاريا عندما تقيم مجتمعها الشيوعي ، فإنها لا تأخذ العناصر القابلة للحياة من الديمقراطية البرجوازية ، فحسب ، بل كل ما هو قابل للحياة في المجتمع الرأسمالي كله ، إلا أنها تقوم بتطوير كل ذلك تطويراً ثورياً خلاقاً  .
إن البروليتاريا لا ترث " المشروع الديمقراطي للبرجوازية الصاعدة " , بل تخلق ديمقراطيتها بنفسها. و هذه الديمقراطية تختلف اختلافاً جذرياً عن الديمقراطية البرجوازية ، و إن احتوت جميع عناصرها القابلة للحياة .
إن القول بأن البروليتاريا هي " الوريث الشرعي التاريخي للبرنامج الديمقراطي للبرجوازية الصاعدة " هو دعوة صريحة لتبني الديمقراطية البرجوازية،مع ما يستتبع ذك من تبني لأفكار بورجوازية أخرى , تحت غطاء الماركسية .
كان من الممكن التوسيع كثيراً في أي النقاط التي تمت إثارتها حتى الآن .  ولكن الماركسية اللينينية و خلال صراعها مع الفلسفات البورجوازية ، دحضت بشكل مباشر أو غي مباشر جميع هذه الترهات ، بحيث أن إعادة النقاش بمثل هذه القضايا يتسم بالملل0
أما المسألتان اللتان تمثلان العماد الأساسي لهذه المطارحات, فهما: " الماركسية العربية "و مشروع التوحيد القومي العربي الديمقراطي"0
و نبدأ بالنقطة الأولى 0 فقد جاء في المطارحة الرابعة : " نفترض  مواجهة التخلف العربي  , والأوضاع الإمبريالية  التي تعيد إنتاجه الموسع, ضرورة نقد التراث القومي نقداً جذرياً بما فيه التراث الديني0 و دمج كل ما هو حي ونابض بالعلم الماركسي العربي الجديد كعلم ذو محتوى قومي في جانب منه " 0
هناك مقولة أساسية في الفلسفة الماركسية اللينينية تتعلق بالخاص و العام  0و بالرغم من أنه يمكن الرجوع ببساطة إلي هذه المقولة في المراجع الفلسفية  الماركسية , فإن التذكير بها , و إن كان باختصار , هو أمر ضروري على ما يبدو:
أن القانون هو علاقة محددة ضرورية بين الأشياء و الظواهر, تنتج عن طبيعة الأشياء الداخلية.عن جوهرها.
إنه علاقة ضرورية بين الظواهر, وهو يعمل في شروط معينة, بشكل إلزامي,وبقوة محددة بالضرورة .
والقانون لا يمكنه إلا أن يعمل فيما إذا توفرت الشروط اللازمة لعمله. وكمثال على ذلك, نأخذ قانون الجاذبية, فهو ينطبق على جميع الأجسام من دون استثناء, وهو لا يعتمد على الصد فة, ولا على زمن معين. انه يعمل في كل زمان, وبالضرورة . إن توفر شروط و أسباب معينة يؤدي, بالضرورة الحتمية, في كل زمان و مكان إلي نشوء ظواهر و نتائج معينة. وهذا ما يعبر عنه بالقانون.
إن القانون يعبر عن خاصية ملازمة لجميع أشياء الطبيعة ( قانون الجاذبية مثلا) . وهذا أمر عام, مشترك في هذه الأشياء, يبينه لنا القانون0
و يتكشف القانون, بعد دراسة ومقارنة عد د كبير من الأشياء المنفردة ,الخاصة, والكشف عن الأمر العام, المشترك فيما بين هذه الأشياء الفردية 0
بشكل تبسيطي يمكن القول بأن العام هو الأمر المشترك الذي نكتشفه بعد دراسة و مقارنة مجموعة كبيرة من عينات الأشياء, كل منها على حدة, على انفراد(كحالة خاصة)0 فعندما ندرس حبة القمح على انفراد,كحالة خاصة, ونبين صفاتها و تكوينها... ثم نقوم بتطبيق ذات الدراسة على حبة الشعير, ثم على حبة الشوفان, فسنكتشف بعد مقارنة نتائج الدراسات الخاصة بكل نوع, بأن هناك شيء عام مشترك فيما بين هذه الأنواع الثلاث(مثلاً ، أن لها جميعها فلقتان,...) و أن هذا العام, المشترك, يندرج في إطار كون كل هذه المواد هي: حبوب0 فتعريف الحبوب يعتمد على الصفات و الأمور العامة لجملة هذه الماد المدروسة( القمح,الشعير,الشوفان) ولكن الحبوب( كعام) لا تحيط بجميع مواصفات القمح( كخاص) أو الشعير.. بل فقط, بما هو عام ومشترك0 إن الخاص أكثر غنى من العام0 (طبيعي أن العام يختلف كليا عن الأدوات النظرية)0
إن لمقولة العام و الخاص هذه أثر بالغ جدا على الصعيد السياسي, حيث أن بعض الأحزاب أو التيارات السياسية لا ترى إلا العام في الظواهر المختلفة, و تتجاهل الخاص0 أي أنها تريد تطبيق القوانين العامة لتطور المجتمع البشري, دون الالتفات للسمات الخاصة المميزة لمجتمعها0 وهذا هو الجمود العقائدي0 ( ولنا في مثال الحزب الشيوعي السوري _ جناح خالد بكداش, خير نموذج على ذلك)0
إن هؤلاء يشبهون ذلك العملاق الإغريقي الذي كان يتربص بعابري السبيل, ويضع كل منهم على سرير خشبي, فإذا كان عابر السبيل أطول من السرير, قطع له رجليه حتى يتساوى مع طول السرير, وإذا كان أقصر, مطّه حتى يصبح بطول السرير0 وفي كلا الحالتين كان الأمر يؤدي إلى موته0 (إنهم يعرفون الصفات العامة للحبوب, ومهما حاولت إقناعهم بأن لحبة القمح صفاتها الخاصة بها, بالإضافة إلى تلك الصفات العامة, فإنك لن تجني فائدة إنهم يجيبونك بأن الصفات العامة للحبوب هي كذا... والقمح هو من الحبوب ... المسألة منتهية..)0
أما الوجه الآخر لهذا الأمر , أي الوجه الآخر للجمود العقائدي , فهو تغليب الخاص على العام , و اعتباراً الخاص مطلقاً , و إبعاده عن القوانين العامة لتطور المجتمع البشري 0
إن أصحاب هذه النظرة يفكرون على الشكل التالي:
انظر على حبة القمح لاشيء يجمعها مع حبة الشوفان 0 إن لونها مختلف و طعمها مختلف و شكلها مختلف و وزنها مختلف 0إنها شئ خاص , فريد0
و كذا الأمر في نظرتها إلي مجتمعهم , أنهم يعتبروه مجتمعا خاصاً فريداً من نوعه0 لذلك يجب أن تكون له ماركسية خاصة به, علم خاص به0وهم بذلك يبعدون المجتمع عن قوانين التطور العامة و يتوهون في دروب خاصة0
إن هذا الأمر , أي تغليب الخاص على العام , هو الذي قاد التجمع لطرح فكرة العلم الماركسي العربي الجديد وهذه هي بالضبط التحريفية0
من جهة أخرى فإن الفلسفة الماركسية اللينينية هي علم يكشف القوانين العامة الشاملة لحركة و تطور الطبيعة والمجتمع و الإنسان ,( وليس المجتمع فقط ) 0 و العلم لا هوية له , لأن له قوانين , وهذه القوانين مستقلة عن أرادة البشر 0
هل يمكن القول بأن القوانين العلمية تختلف من بلد إلي آخر؟
هل يمكن القول بأن قوانين التطور العامة تختلف من بلد إلي بلد آخر؟
هل يمكن القول بأن هناك علم عربي , وعلم إيراني , وعلم أسباني؟
هل يمكن القول بأن هناك ماركسية عربية و ماركسية إيرانية , و ماركسية أسبانية؟
إ ن النظرية العلمية , نظرية الماركسية اللينينية , هي مرشد للعلم. إنها تشبه القنديل الذي ينير الدرب 0 يمكن للدروب أن تختلف في سماتها الخاصة, في مساراتها, و لكن ذلك لا يغير من القنديل شيئاً.
و يبدو أن دعاة "العلم الماركسي العربي الجديد " قد حسموا أمرهم باتجاه نهل معارفهم العلمية الجديدة ، من التراث القومي و الديني ، ومن الممكن للمرء أن يكون على تمام الثقة ، أن هؤلاء سوف يبدؤون مسيرتهم في " نقد التراث الديني " ، بمحاولة للتوفيق بين الماركسية و الدن .و ما على الأتقياء إلا أن يأملوا بإمكانية برهنتهم أن الماركسية موجودة في آيات القرآن ....
إن هذا الأمل هو ذات الأمل الذي يملأ قلوب بعض المؤمنين الذين يحاولون البرهنة على أن علم الذرة موجود في القرآن الكريم .
إن الدين هو قوة رجعية تشد البشر إلى الوراء . إنه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي . المبني على نظرة خرافية غيبية و مقلوبة للواقع و هو يتنافى مع العلم .
إن من واجب الشيوعيين فهم الدين كقوة رجعية تؤثر سلباً في حياة الناس و تجعلهم أكثر بؤساً , و أقل استعداداً لفهم  واقعهم و السعي لتغييره نحو الأفضل . إن من واجب الشيوعيين فهم الدين _ و خصوصاً في منطقتنا العربية _ و ذلك لهدف أساسي , هو تقويض أسسه , و تحطيم أثره الرجعي بين الناس . وأن ذلك لا يتم عن طريق المجابهة المباشرة مع الدين , بما يجرح مشاعر المتدينين , مما يعي نتائج معكوسة , بل إن ذلك يجب أن يتم عبر رفع مستوى وعي الجماهير بكافة السبل الممكنة .   
و بديهي لأن ذلك يتم بدون التطرق لمسألة الدين و الإيمان .. إن دعاة "الماركسية العربية" يحاولون القيام بعملية وفاق فكري بين الماركسية و الدين , بين العلم و الجهل بين التقدم و التخلف , بين الثوري و الرجعي . و تلك هي أثر المحاولات التي يمكن أن يقع عليها المرء , بؤساً و تعاسة .
أما قضية " نقد التراث القومي " , فمن غير المفهوم بالضبط  ما الذي تعنيه المطارحات بهذا النقد , و عند أي حدود يبدأ " التراث القومي " و ما إذا كان مقصود هو " التراث القومي العربي " أم أن الأمر يمتد أبعد من ذلك .
إن الأمر الأهم , هو أن نعرف تاريخنا . تاريخنا هو فجر التاريخ, الذي يمتد من أول حبة قمح زرعت في الألف العاشر قبل الميلاد, على ضفاف الفرات , معلنة بداية الثورة الزراعية , كأعمق و أشمل ثورة عرفها تاريخ الإنسان , مروراً بأول دولة في التاريخ على يد سومر , و أول كتابة في التاريخ ,و أول أبجدية في التاريخ. 
إن ما نحتاج لمعرفته ، هو هذا التاريخ الأصيل , المتميز . إن معرفتنا لهذا التاريخ بخصائصه المييزة ( كخاص ) بدون أن نتناقض مع القوانين العامة لتطور المجتمع البشري (العام ) , هو الذي يمكننا من الفهم العلمي لواقعنا الاجتماعي الحالي , و بالتالي إمكانية تطوير هذا الواقع و تغييره نحو الأفضل , بعيداً عن ترهات " نقد التراث القومي و الديني "                             
المسالة الثانية هي " مشروع التوحيد القومي العربي الديمقراطي " أي الوحدة العربية . و يبدو أن هذا المشروع يشكل العماد الأساسي لمطارحات التجمع . و طبيعي أن هذا الطرح يقود إلى بحث مسألة الأمة .
كيف تتشكل الأمة تاريخياً ؟
إن هذا السؤال يقود إلى دراسة الأشكال التاريخية لاجتماعية لحياة  الناس . و طبيعي أن تعود الدراسة إلى المجتمع المشاعي البدائي, باعتباره أول تشكيلة اجتماعية اقتصادية في التاريخ .
إن القبيلة و التي هي اتحاد عدد من العشائر ، هي الشكل الأول للمجتمع البشري . إذ أن تطور الإنتاج بعد الثورة الزراعية و تدجين الحيوان ، أدى إلى نشوء جماعات بشرية مستقرة على شكل عشائر . إن العشيرة تجمعها صلة القربى من ناحية الأم ، على اعتبار الزواج الجماعي الذي كان سائداً حينها , كان يجعل من إمكانية معرفة الأب أمراً صعباً , أضف إلى ذلك أن المرأة لعبت دوراً رئيسياً في اقتصاد العشيرة . 
يرتبط الناس في العشيرة باللغة و العادات و الأعراف . و يقوم العمل على أساس جماعي , و يتم توزيع ناتجه على أساس جماعي،  كما تفترض حياة العشيرة الدفاع المشترك عن مصالحها العامة .
تطورت علاقات الزواج في العشيرة الواحدة – بحيث بات الزواج بين أفراد العشيرة الواحدة , ممنوعاً لما في ذلك من اثر على النسل, المر الذي أدركه الناس بتجربتهم الحياتية . إن تطور علاقات الزواج على هذه الشاكلة ,بحيث باتت القاعدة تفترض الزواج من عشيرة أخرى [الزواج الخارجي], أدى ما أدى ذلك إلى اجتماع عدة عشائر تتزاوج من بعضها البعض و هكذا ولدت القبيلة كاتحاد لعدد من العشائر .
إن ظهور القبيلة تاريخياً , هو قفزة كبيرة إلى الأمام في تطور المجتمع البدائي . وهو مشروط بمستوى تطور الإنتاج آنذاك . إلا أن تطور الإنتاج نتيجة تراكم المعارف في الزراعة ( اكتشاف الفأس ) و تربية الحيوانات , ما أدى إلى تجمع الثروة . و بدأ دور الرجل في الإنتاج بالنمو .
و بالتناسب مع تراكم الثروة و دور الرجل المتعاظم في الإنتاج , نشأت الحاجة إلى توريث هذه الثروة للأبناء . و قد أدى هذا إلى زوال علاقات الزواج الجماعي , و سادة بالتدريج علاقات الزواج الأحادي , التي تمكن الرجل من توريث ثروته إلى أبنائه بالذات . و هكذا تراجع دور المرأة , ليحتل الرجل المقام الأول في الأسرة و القرابة . وكان ظهور " النظام الأبوي " هذا , العلامة الأساسية لتفسخ نظام القبيلة  الانتقال إلى أول مجتمع طبقي في التاريخ , هو مجتمع الرق .
إن ظهور طبقتين أساسيتين متناقضتين في مجتمع الرق , مع ما يعنيه هذا , من عدم المساواة , أدى إلى تحطيم العلاقات العشائرية – القبلية السابقة , القائمة على العمل المشترك والتوزيع المتساوي لنتاج العمل , و الدفاع المشترك عن المصالح العامة للقبيلة .
إن التطور الكبير ( نسبياً ) للإنتاج في مجتمع الرق , و القائم على استغلال عمل العبيد , و الحاجة إلى زيادة أعداد هؤلاء العبيد عن طريق الحروب ( ظهر العبيد في الأصل كأسرى حرب ) , أدى إلى اختلاط القبائل المختلفة , الأمر الذي أدى إلى ولادة شكل اجتماعي جديد للناس هو الشعب .
إن القضية الأساسية هنا , هي أن نشوء الشعوب مشروط بمستوى معين لتطور الإنتاج . و بمعنى آخر : لا يمكن أن تتشكل الشعوب عامة , في المجتمع المشاعي البدائي , لأن مستوى تطور الإنتاج في هذا المجتمع , لا يسمح بولادة " الشعوب " في حين يصبح الأمر مكناً عند مستوى أعلى من تطور الإنتاج , الأمر الذي يتحقق في مجتمع الرق , و يأخذ شكله النهائي في المجتمع الإقطاعي . ففي مجتمع الرق , كان العبيد يعاملون كملكية خاصة  كالحيوانات , و لم يعتبر هؤلاء في عداد الشعب .
فالشعب يتألف من المواطنين الأحرار فقط . أما في المجتمع الإقطاعي , فإن الجميع كانوا يعتبرون من أبناء الشعب , على الرغم من الهوة السحيقة بين "النبلاء " و " الأقنان " لأن جميع أفراد الشعب يتكلمون لغة واحدة , و يعيشون على أرض واحدة , و يربطهم تكوين نفسي مشترك . إلا أن ضعف تطور قوى الإنتاج ( نسبياًَ ) في التشكيلة الإقطاعية , بما يعنيه ذلك من صعوبة المواصلات بين المناطق المختلفة , يؤدي إلى إبقاء الروابط الاقتصادية ضمن طابع محلي . و بشكل تبسيطي يمكن القول أن المجتمع الإقطاعي يتشكل من مجموعة من المراكز الإقطاعية المبعثرة التي تعيش بشكل مستقل عن بعضها البعض ( إمارات ) و هي ذات اقتصاد طبيعي . و على هذه الحال , ليست هناك ضرورة اقتصادية لتحطيم الحواجز الموجودة ما بين هذه الإقطاعيات المبعثرة . و هذا ما يمنع تشكل الأمة في المجتمع الإقطاعي . إذ أن الشروط الاقتصادية اللازمة لنشوئها , غير موجودة بعد .فقط مع صعود الرأسمالية تاريخياً , تنشأ الظروف الاقتصادية اللازمة لنشوء الأمة .
إن الإنتاج الرأسمالي , يحتاج إلى أسواق التصريف و سوق اليد العاملة الحرة , و روابطه الاقتصادية المتينة و المتنوعة و الشاملة, يتعارض مع التبعثر الإقطاعي و الانعزال الجغرافي , و هو لحاجته الاقتصادية تلك , يقوم بتحطيم الحواجز الاقتصادية السابقة ,موحداً الأسواق المحلية الضعيفة في سوق وطنية واحدة , و هذا يؤدي إلى نشوء الأمة . و بكلمة مختصرة : إن تشكل الأمة مشروط بتطور الإنتاج الرأسمالي .
و وفقاً لما جاء فإن الأشكال التاريخية لاجتماعية الناس هي :
-   العشيرة – القبيلة : و هي الشكل الذي يغطي تاريخ المشاعة البدائية ( قبل ذلك كان القطيع البدائي لمئات ألف السنين ) .
-         الشعوب : و هو الشكل الذي نشأ في عهد الرق , ثم تبلور و أخذ أبعده الكاملة في عهد الإقطاع .
-         الأمة : و هي الشكل الذي ينشأ مع ظهور التشكيلة الرأسمالية .
و طبيعي أن هذه الأشكال التاريخية لم تتساوى أبعادها دائماً . إن اختلاط هذه الأشكال التاريخية ,و الحروب الدائمة التي عاشها المجتمع الطبقي عامة , و التي أدت أحياناً إلى إفناء شعوب أو قبائل و خروجها من مسرح التاريخ , قد أدى إلى تأخير ظهور هذا الشكل الاجتماعي أو ذاك , و أحياناً تسريعه , و في معظم الأحوال, تشويهه0
السؤال الأساسي الآن: هل تشكلت الأمة في منطقتنا العربية؟
هل تطورت الرأسمالية في المنطقة العربية بشكلها الطبيعي؟
هل ولدت الرأسمالية بشكل طبيعي  من رحم الإقطاع , أم أن المؤثرات الخارجية لعبت دوراً أساسياً في تشويه ولادة الرأسمالية في هذه المنطقة , مما استتبع تشويها مناسباً في تشكيل الأمة ؟ إن ولادة الرأسمالية المناط بها تحطيم الحواجز الإقطاعية و دمج الشعوب ببعضها البعض و تشكيل الأمة , هو أمر لم يحصل بشكل طبيعي في المنطقة العربية 0 إن هذه المناطق العربية تعيش مرحلة تمازج و تأثير ما بين التشكيلة الرأسمالية المتطورة و أدنى التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية تخلفاً من وجهة النظر التاريخية).
إن سورية الطبيعية عرفت أكثر من أي منطقة أخرى في العالم . تاريخ التشكيلات المشاعية و الراقية و الإقطاعية 0 و أن ظروفها الجغرافية و المناخية سمحت بولادة التاريخ فيها , و لأنها الأكثر غنى في جميع النواحي , كانت دوماً مطمعاً للقوى الخارجية , التي عاثت بتطورها الطبيعي فسادً , وأخرت هذا التطور مئات السنين إلى الوراء . و تكفي الإشارة للاستعمار التركي الذي أدى إلى تأخر موت التشكيلة الإقطاعية و ولادة التشكيلة الرأسمالية في سورية إلى حد هائل .  ( إن طعم الإقطاع ما يزال تحت أضراس آبائنا و ليس أجدادنا)إن كل ذلك , أدى إلى تأخر كبير في ولادة البرجوازية الصناعية (المحلية)في سورية الطبيعية و المنطقة كلها ( و جميع ما يسمى بلدان العالم المتخلف أو العالم الثالث ). وقد اعتمدت هذه البرجوازية الصناعية منذ البداية على نقل بعض منجزات الثورة الصناعية في أوربا . ومع مجيء الاستعمار الأوربي الرأسمالي , بات وضع هذه البرجوازية الصناعية  الوطنية ، وتطورها صعبا ومشوها . ذلك أنها لا تستطيع مواجهة التنافس الحاد مع بضائع العالم الرأسمالي الأكثر تطورا , والذي كان بإمكانه دائما طرح منتجات ذات نوعية أفضل وبكمية أكبر.هذا ناهيك عن أن البرجوازية الصناعية ( الوطنية) لم تستطع مطلقا أن تنتج جزءا مهما من وسائل الإنتاج , والمقصود بذلك الماكينات والآلات .. وحتى الآن لا يوجد في العالم العربي كله من يستطيع إنتاج محرك آلي واحد , بدون الاعتماد على هذه القطعة أو تلك من المنتجات الأجنبية .
إن الاستعمار الرأسمالي لمنطقتنا أدى أيضا إلى ولادة نوع جديد من البرجوازيات , وهي البرجوازية الطفيلية الكومبرادورية والتي تنحصر مهمتها الأساسية , في استيراد البضائع الأجنبية إلى داخل بلدانها , وتصدير المواد الخام للبلدان الرأسمالية , مما أدى ويؤدي إلى ضرب مواقع البرجوازية الصناعية الوطنية , وتأخر نموها .
وبديهي أن رأس المال العالمي يقوم بالضبط , بدعم هذه البرجوازية الطفيلية الكومبرادورية , ليس على صعيد المنطقة العربية فحسب , بل على صعيد العالم المستعمر كله . إن هذا الدعم يتخذ كافة الأشكال اللازمة , لتثبيت موقع هذه البرجوازية الطفيلية . بما يخدم تماماً مصالح رأس المال العالمي , ويوقع ضرراً بالغاً بالمصالح الوطنية لبلدان المنطقة .
و جدير بالذكر أن هذا التشوه في ولادة البرجوازية الصناعية الوطنية . مع ما عناه ذلك من تشوه عام في ولادة التشكيلة الرأسمالية , أدى أيضاً إلى تشوه متناسب في ما يخص الطبقة العاملة في مجمل هذه البلدان .
إن لمن الواضح أن دور البرجوازية الطفيلية الكومبرادورية  هذا, يتعارض تماماً مع الشروط اللازمة لتشكل الأمة . و على العكس من ذلك , فإن تطور البرجوازية الصناعية الوطنية , أو تطور أي قطاع اقتصادي منتج , كالقطاع العام مثلاً , يتلاءم مع الشروط المذكورة .                     
والآن نعود إلى " مشروع التوحيد القومي العربي الديمقراطي " المطروح في المطارحات ، و " الوحدة "..و ما إلى ذلك .
إن من الواضح أن هذا الطرح مبني على الأهواء و المشاعر و الرغبات , وهو بعيد كل البعد عن أي تحليل علمي لمفهوم " الأمة " وظروف تشكلها و العوامل الداخلية أو الخارجية التي تؤثر تأثيراً حاسما في هذه العملية .
ومن الواضح أن " التوحيد القومي العربي الديمقراطي " أو " الوحدة " المفترضة , مشروطة بتوفر عوامل اقتصادية محددة , لا يستطيع أي تيار سياسي التأثير عليها بشكل مباشر . ومن جهة أخرى لا يمكن أن تتم هذه العملية عبر إقناع الناس بها ، أو الترويج لها .  أن هذا يبدو أمراً مضحكاً  .
إن النضال ضد الاستعمار الإمبريالي . وخدمه من البرجوازيين الطفيليين الكومبرادوريين , هو الطريق الذي يحقق – من جملة ما يحقق – الشروط اللازمة لتشكل الأمة . وهي عملية بعيدة المدى .
إن الوحدة بين بلدين عربيين أو أكثر , يمكن أن تتم في حال وجود نظام سياسي وطني في كلا البلدين , يتخذ الإجراءات الاقتصادية والسياسية المناسبة لإعادة تفعيل العوامل الأساسية التي تؤدي مستقبلاً إلى دمج البلدين في بلد واحد . أي اتخاذ القرارات المناسبة لدمج الاقتصاد الوطني لكلا البلدين في اقتصاد واحد . وهو أمر يجري وفق مخطط بعيد المدى .
آنذاك تفعل الروابط الاقتصادية فعلها , في تفكيك الحواجز القديمة, و تصبح الوحدة بعد زمن يطول أو يقصر , تحصيل حاصل . ومن الممكن هنا نورد تجربتين للوحدة , خاصة بنا نحن السوريون.
التجربة الأولى هي الوحدة السورية المصرية .
لقد تمت الوحدة السورية المصرية على أسس سياسية , و ليست اقتصادية , لذلك كانت منذ اللحظة الأولى على كف عفريت .
وما أن اتخذ عبد الناصر الخطوات الاقتصادية الجدية ( التأميمات الشهيرة ) حتى قام الانفصال . ومعروف أن الخطوة الأولى للانفصاليين كانت إلغاء التأميم والإصلاح الزراعي .
التجربة الثانية هي التجربة اللبنانية السورية , التي وضع أسسها الرئيس حافظ الأسد .
ليس هناك وحدة سياسية معلنة بين البلدين . لكن ما يجري على الصعيد الاقتصادي , من فتح للعلاقات الاقتصادية المشتركة , و زيادة الروابط الاقتصادية بين البلدين , سيؤدي إلى تحطيم الحواجز و تفعيل الروابط الاجتماعية ما بين شعبي كلا البلدين , ومع مرور الزمن سيؤدي هذا إلى تقارب كلا الشعبين ومن ثم اندماجهما ببعضهما البعض , عبر وحدة تتم بشكل طبيعي و هادئ.  وآنذاك سيكون إعلان الوحدة سياسياً , هو تحصيل حاصل, لأن الوحدة الفعلية نشأت على أرض الواقع عبر نشوء الروابط الاقتصادية و ما يستتبعها   من روابط اجتماعية .
أما أن يأتي تيار ماركسي ليرفع شعار " التوحيد القومي العربي الديمقراطي " هكذا من الباب للطاقة , ناسياً المهام الملحة التي تنطح أنفه , فذلك أمر صبياني , و بعيد كل البعد عن الواقع .
إن ذلك يشبه فلاحاً فقيراً معدماً . لا يملك مسكناً ينام فيه . و بدلاً من أن يبادر من فوره إلى بناء كوخ صغير يأويه ( الأمر الذي يستطيع القيام به ), فإنه يجلس و يرتشف الشاي , و يبدأ بالحديث, و عيناه تسرحان بعيداً , عن أنه كيف سيبني قصراً مهيباً , زرع به الخمائل و الورود . إن هذا الفلاح جدير بأن ترقص العصا على قفاه
بقي شيء آخر جدير بالذكر , و هو أنه لايمكن التكهن مستقبلاً بحدود الوحدة في العالم العربي . إن هذا مرتبط بسير التطور الموضوعي . كما أن الوحدة ضمن حدود سورية الطبيعية , هي أمر أقرب للتصور من وحدة على امتداد البلدان الناطقة بالعربية 0 يمكن أن نتخيل الوحدة مع لبنان أو العراق 00ولكن من الصعب تخيل الوحدة مع إريتريا أو موريتانيا 00ولكن ذلك كله مرهون بسير التطور .
على أي تيار سياسي في سورية يدعي أنه ماركسي, أن يتبنى النضال ضد الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية, كما عليه التحالف مع جميع القوى الوطنية الموجودة على الساحة, و النضال ضد البورجوازية البيروقراطية. و الأمر الثالث و الأساسي هو النضال ضد البورجوازية الطفيلية الكومبرادورية , وجميع القوى الرجعية الظلامية السوداء التي تنمو على الساحة0
وإن هذا كله , يجب أن يبقى محكوماً بالدفاع عن مصلحة الطبقة العاملة و جميع الكادحين .
وإن خروج أي تيار عن هذا الاتجاهات الأساسية , يعني هذا التيار تائه , أو معادي للوطن , أو كلا الاثنان معاً.
* كلمة أخيرة حول هذه المطارحات :
1- أن هذه المطارحات لا تشكل أساسا نظرياً لبناء حركة أو حزب أو تجمع وإن وضع الأسس النظرية لحركة ما, يختلف اختلافاً جذرياً عما جاء في هذه المطارحات
2- أن هذه المطارحات تشبه إلى حد كبير "حلقات البحث الجامعية" , التي تدور حول أمر ما, يجب مناقشته وهي بالعموم مشوشة , و غير واضحة و تفتقد إلى الانسجام و الترابط العام
3-  أن تغليب الخاص على العام (من وجهة النظر الفلسفية), هو اتجاه تحريفي خطر جداً0
4- أن واقعاً محدداً يفترض إمكانيات محددة0 وعلى هذا الأساس لا يجوز تبني أفكار بعيدة عن الواقع و تناسي المهام الملحة المطروحة0 كما لا يجوز الانطلاق (بشكل افتراضي) من مقدمات غير صحيحة , لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى استنتاجات غير صحيحة0
5- إن أي حركة شيوعية فعلية , لا تتفهم تاريخ الحركة الشيوعية في سورية , و لاتكون استمراراً للجانب المضيء في هذه الحركة, هي حركة تائهة , و لن يكتب لها النجاح.
وعلى هذه الحال , فإن ما يدعى بـ "تجمع اليسار الماركسي "يبدو- حقيقة- كشيء جميل هبط علينا فجأة من السماء , و لكن إذا بقي على هذه الحال , فإن روحه الطاهرة ستغادرنا سريعاً إلى المكان الذي جاءت منه.