لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره،وفي سبيل بناء قوة لليسار الماركسي - العدد صفر .. الأول من أغسطس/ آب

حوارات ماركسية
2004 / 10 / 23 - 14:50     

لغرض تفعيل الحوار ، منهجته، وتطويره،
وفي سبيل بناء قوة لليسار الماركسي،
تم الاتفاق على اصدار هذه النشرة.
هيئة التحرير
العدد صفر .. الأول من أغسطس/ آب

افتتاحية


بعد نقاشات تم الاتفاق على منهجة الحوار وعلى إصدار نشرة نظرية تحمل عنوان "حوارات ماركسية" من أجل أن تكون المكان الذي تجري عبره النقاشات .
و اتفق كذلك على أن تكون المحاور التي يتناولها الحوار ، هي التالية
1- الماركسية ، و تتناول البحث في ماذا نقصد بالماركسية ، و ما هي رؤاها الأساسية ، و قضاياها .
2- النمط الرأسمالي العالمي ، الإمبريالية ، و نقد العولمة الراهنة .
3- الديمقراطية ، علاقاتها بالليبرالية ، و علاقتها بالماركسية ، و الاشتراكية ، و أهميتها .
4- البديل الاشتراكي .
و ها نحن نصدر العدد صفر من النشرة ، متضمناً بعض الموضوعات في سياق بدء الحوار . و نأمل مساهمة كل المعنيين من أجل إغنائه وتطويره ، و إنضاجه بما يسمح بالوصول إلى بلورة أفكار و تصورات ماركسية، على طريق إعادة بناء الحركة الاشتراكية الماركسية العربية .




هيئة التحرير
كيف نفهم الماركسية


د. نايف سلوم


يحق للقارئ العربي أن يدهش من تعاطينا مع الماركسية بهذا الشكل التعليمي و"الأولي " بعد مرور أكثر من سبعين عاماً على بداية تعرف الفكر العربي على الاشتراكية عامة والاشتراكية الماركسية خاصة. ونعزو هذا التأخر العربي في معرفة الماركسية معرفة أصيلة وفعالة إلى سيطرة الشكل البيروقراطي السوفييتي في تعليم الماركسية ، أي أن التعاليم الكلاسيكية كانت قد مرت عبر المصفاة البيروقراطية السوفياتية . كان ذلك بحكم الصعود التاريخي للبيروقراطية السوفياتية ، بحكم فشل ثورات أوربا الغربية، والتعاون الطبقي للبروليتاريا الأوربية المتزامنة مع الصعود الإمبريالي في الرأسمالية ، وبالتالي عزلة الثورة الروسية ، وما جرته هذه العزلة من تكييف النظرية الماركسية وفق مصالح البيروقراطية السوفييتية ، وما آلت إليه مقتضيات ترويض فكر دينا مي متجدد ليتناسب مع مذهب بناء الاشتراكية في بلد واحد متأخر صناعياً ومحاصر تقطنه أغلبية فلاحية ساحقة .
بهذا المعنى نقول أولاً ، أن الماركسية هي الصياغة النظرية الواعية لمشروع البروليتاريا التاريخي في لحظتيه الديمقراطية والاجتماعية ، مع التأكيد على وحدة هاتين اللحظتين في العصر الإمبريالي الرأسمالي . مع ما يقتضيه هذا من الضرورة التاريخية للماركسية بالنسبة للمسألة العربية في النهوض القومي الديمقراطي والتحديث الاجتماعي والصناعي، وعلى أرضية العجز التاريخي للبرجوازيات الطرفية العربية في إنجاز مهامها الديمقراطية في التحديث الاجتماعي والصناعي وفي مواجهة المشروع الصهيوني الإمبريالي . إن انحطاط المشروع التاريخي للبورجوازية العربية الطرفية وعجزها اللاحق عن قيادة التحرك الديمقراطي إلى نهايته المفترضة، أي عجز الطبقة البورجوازية العربية وبرنامجها الليبرالي الرث في قيادة التحرك الديمقراطي ، وعجزها في إنجاز التصنيع على شاكلة البلدان المتقدمة صناعياً والتحديث الاجتماعي ، وتوحيد السوق القومية العربية ، وفشلها في مواجهة المشروع القومي الصهيوني. يأتي بشكل أساسي من الطبيعة الاجتماعية لهذه البورجوازية الليبرالية ذات الأصول الإقطاعية ، ومن الشرط التاريخي لمولدها تحت ضغط الغزو الكولونيالي الإمبريالي الجديد [الكولونيالية الاقتصادية نهاية القرن التاسع عشر ]. وقد شكلت هذه البورجوازيات الطرفية قوة مضادة في وجه التغيير الاجتماعي متحالفة مع الإمبرياليـــة الرأ ســـمالية كـ"أخ أكبر" . كما أظهرت البورجوازية المتوسطة و الصغيرة "القومية" خصائص ذات طبيعة انتقالية، وأنها ذات ميل بيروقراطي في إنجاز مهام جزئية وأن لديها حذر متأصل تجاه الجماهير الشعبية ، وهي بطبيعتها كبورجوازية صغيرة ومتوسطة لديها ميل للتحول إلى بورجوازية مندمجة وملحقة بالمراكز الإمبريالية [بالرغم من تأخر اندماج بعضها لشروط داخلية خاصة بسبب الهزال الشديد للبورجوازية الليبرالية المحلية ]. و هي تخوض الصراع ضد الإمبريالية بروح انتهازية ضيقة وبأسلوب رخو ومتردد . ما يعنيه من عجز في المبادرة التاريخية المستقلة عن المركز الإمبريالي الرأسمالي ، واتسامها بالرخاوة واللا جذرية في الصراع الاجتماعي / القومي .
على أساس ما ورد نشير إلى وراثة البروليتاريا العربية ، أي الطبقة العاملة العربية في وجودها السياسي للبرنامج الديمقراطي وراثة تاريخية وعضوية، ما يعنيه الحاجة إلى الانشغال بالماركسية كعلم تاريخي معني بالشروط المعطاة، ومنها المسألة القومية العربية كمسألة ديمقراطية، والانشغال بها كأيديولوجية عضوية مدعوة للهيمنة ومدعوة لقيادة التغيير الاجتماعي العربي . ذلك أنه قد تبينت ضرورة قيادة الاشتراكية الماركسية للمشروع الديمقراطي القومي العربي ضرورة تاريخية أولية على أرضية العجز البورجوازي العربي بجميع أشكاله . وعلى هذه الضرورة الانتقال من التاريخية والأولية إلى الواقع العملي الفعلي . فالماركسية في جانبها المعياري [وفق هويتها الاجتماعية/ الطبقية] ، تعتبر الملكية الرأسمالية الخاصة في تمظهرها الخارجي، كـ إمبريالية جديدة ورأس مال احتكاري ، عقبة خارجية ، وفي تمظهرها الداخلي كـ بورجوازية محلية [كولونيالية] عقبة داخلية وحليف عضوي للعقبة الخارجية أمام أي مشروع نهوض قومي عربي ديمقراطي.
هكذا تحضر الماركسية في المسألة العربية كضرورة تاريخية أولية ، كما تفرض حضورها العربي كمنهج إجمالي [ماكروي] للتحليل التاريخي والاجتماعي للبنى الاجتماعية الاقتصادية العربية وللبنى السياسية . إن الجانب المعياري في الماركسية يقدم موقفًا حازماً في مواجهة الرأسمالية الاحتكارية وفي مواجهة المشروع الصهيوني، وفي مواجهة الحلفاء المحليين لرأس المال الاحتكاري، هذا من جهة ، كما أن الجانب المنهجي، أي المنهج التاريخي الديالكتي المادي ، يوفر المنهج الماكروي أي الإجمالي للتعاطي مع المعطى العربي المعقد، سواء في قراءة واقعه الراهن ومهامه المركبة ، أو في قراءة ماضيه ومستقبله، تراثه وخياراته التاريخية . وعلى هذا المنهج أن يثبت جدارته في فهم الشرط العربي الراهن . إن تقديمنا للماركسية على أنها تفسير وتغيير ، يعني فهمنا لها على أنها علم تاريخي[منهج ونظرية تاريخية /اجتماعية معاد إنتاجها عربياً ] وحزب سياسي [أيديولوجية عضوية وتنظيم سياسي]، وعلى أنها منهج إجمالي في التحليل البنيوي والتاريخي، وعلى أنها أي الماركسية ذات جانب معياري في موقفها التاريخي من الملكية الرأسمالية الخاصة كعقبة تاريخية أمام مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي وأمام تحرر البشرية . هذه المعيارية التي تعطي الماركسية هويتها ، يتوجب إعادة إنتاجها وفق مقتضيات الأشكال الجديدة للسيطرة الإمبريالية، والأشكال الجديدة للاستغلال الرأسمالي . أي يتوجب إعادة إنتاج النظرية الماركسية كنظرية اجتماعية هنا عندنا نحن العرب في المسألتين الاجتماعية - الاقتصادية والقومية .
نشير في هذا السياق إلى أن الماركسية مفهومة كلحظات ثلاث : 1- لحظة تعليمية- تربوية 2- علم تاريخي بالواقع العالمي والعربي والمحلي يقود إلى إعادة إنتاج النظرية الماركسية عربياً ، وإلى إعادة إنتاج النظرية لهويتها الاجتماعية 3- حزب سياسي كمنظم ومثقف جمعي أي كـ نظرية سياسية و أيديولوجيا عضوية من جهة أولى وأداة لتنظيم الطبقة العاملة السياسي وتنظيم تحالفاتها مع الطبقات المتظلمة الأخرى من الجهة الثانية، أي تنظيم تحرك الحشود . وهنا ننوه إلى العيوب التي نتجت عن التعليم البيروقراطي السوفييتي للماركسية، والتي كانت تجمل على شكل مادية تاريخية ومادية ديالكتية. وأول عيوب هذا التعليم أنه أوحى بأن الماركسية هي مجموعة قوانين نصية مكتوبة ما إن يقرأها المتعلم حتى يلم بالعلم الماركسي التاريخي، أي يلمّ بالشروط الجديدة المعطاة وبالواقع الفعلي . لقد تحولت الماركسية بفعل هذا التعليم البيروقراطي من أداة لتحليل الشروط الواقعية الفعلية المعطاة إلى كاتالوغ للمقولات الفلسفية والتاريخية يتم عبرها كرموز فهم واقع جديد كلياً. فيكفي أن تعرف حسب التعليم البيروقراطي أن التشكيلات التاريخية خمس [مشاعة، عبودية، إقطاع ، رأسمالية، اشتراكية] وأن قوانين الديالكتيك هي ثلاثة [تحول الكم إلى كيف ، ونفي النفي ، ووحدة وصراع الأضداد] حتى تقبض على ناصية العلم التاريخي /الاجتماعي . إن التعليم البيروقراطي السوفييتي للماركسية يقود إلى الكسل الفكري، وإلى اختزال قراءة الشروط الجديدة إلى مجرد حفظ مدرسي تعليمي للمقولات الديالكتية والتاريخية. من هنا نريد التأكيد على أن للبعد التفسيري ثلاث لحظات: لحظة أولى تعليمية أو تربوية، وهي قراءة النصوص الكلاسيكية لماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وبوخارين وبليخـــانوف وروزا لوكسمبورغ وغرا مشي وماو و غيرهم من كلاسيكي الفكر الماركسي، بمعنى آخر قراءة تراث الماركسية كنصوص كلاسيكية وحركات اشتراكية وتجارب ثورية. أيضاً تشمل هذه اللحظة قراءة المنطق وتاريخ الفلسفة وخاصة قراءة الديالكتيك المادي بشكل مجرد وعبر تجربته في إعادة إنتاجه لذاته في حقل الاقتصاد السياسي، كما وردت في كتاب رأس المال لماركس.
يبقى الشيء المهم وهو قراءة منطق كل من كلاسيكيي الحركة الاشتراكية العالمية، منطق كل منهم في الممارسة السياسية، وفي شكل مقاربة الفكر النظري للواقع المعطى لكل منهم وقتها. التعلم يعطي الأفراد القدرة على تحليل الواقع الفعلي المحلي والعالمي بشكل أكثر جدوى وفاعلية. وهنا تطرح مسألة منهجية خاصة بعلاقة العام أو الأدوات النظرية والأشكال النظرية السابقة بـ الخاص أو الواقع الفعلي المعطى لنا. في هذه المقابلة بين العام والخاص وبالنظر إلى تناقض هذه العملية، أي حركتها المتناقضة، يتم إنتاج العلم التاريخي/ الاجتماعي بالواقع الفعلي وإعادة إنتاج النظرية الاجتماعية عربياً . تنبع مادية هذه العملية من أن أي مقاربة علمية لواقع جديد تعني أن معطاً تاريخياً سوف يواجه التصورات النظرية التي توجد في الرأس الحي والتي أخذت كنتيجة للتعلم [محتوى قديم] . المعطى الجديد سوف يختبر التصورات التي باتت قديمة، وعبر هذه المقابلة سوف تتم صياغة الوقائع الجديدة، وإعادة إنتاج الماركسية لهويتها الاجتماعية كنظرية اجتماعية بالواقع العربي والمسألة العربية القومية الديمقراطية. من هنا كل علم تاريخي هو نقدي بمقدار ما هو مادي ، نقدي لتصوراته القديمة وتاريخي ومادي لأنه يتعاطى مع الوقائع الجديدة . والمعطى الفعلي قد يكون أشياء أو علاقات، تصورات أو عقائد وأفكار مسبقة الخ...
اللحظة الثانية: مقاربة الواقع الفعلي العالمي والعربي والمحلي بالأدوات التي وفرتها اللحظة الأولى. فنحن بحاجة إلى أدوات نظرية لمقاربة واقع بعينه.
اللحظة الثالثة: إنتاج الأدوات الجديدة ووعي الواقع في خصوصية شرطه زمانه ومكانه، حيث تعاد صياغة الواقع وفق عناصره المسيطرة وهو مختلف عن الترتيب الظاهري للواقعة [الفكر الفلسفي هنا " تركيبي ويتجلى بوصفه فاعلية المفهوم نفسه" . لينين دفاتر عن الديالكتيك ص 253 ترجمه وقدم له الياس مرقص دار الحقيقة بيروت 1971] . فلو كان مظهر الأشياء ، متطابقاً مع جوهرها ، لغدا العلم نافلاً "[ماركس ، رأس المال ، المجلد الثالث . أيضاً راجع الجزء الأول من كتاب موريس غودلييه : العقلانية واللاعقلانية في الاقتصاد ترجمة عصام الخفاجي منشورات وزارة الثقافة 1995 ]
نسمي هذه العملية في لحظاتها الثلاث بـ ديالكتيك العيني ، وهذا الديالكتيك يتضمن فعالية ذاتية للعقل البشري في إعادته ترتيب عناصر الظاهرة بشكل مختلف عما تظهر. وهذا القلب من قبل الرأس البشري هو الذي يسمح بالقبض على الظاهرة كما هي بالفعل ، أي في حقيقتها التاريخية والبنيوية ، او ما يسميه هيغل بـ "فاعلية المفهوم نفسه" . وهذه اللحظات متداخلة ومترابطة ومتزامنة. فأنت تنتج علم تاريخي اجتماعي عربي وتتعلم في نفس الوقت. يقول ماركس في رسالة إلى إنجلز في 14 كانون الثاني 1858 : "لقد رميت إلى البحر بكل مذهب الربح كما كان موجوداً حتى الآن. وفي منهج المعالجة ، فإن نظرية جديدة ألفيتها بمحض الصدفة في منطق هيغل أدت لي خدمة جليلة- لقد عثر فرايليغراث على بعض المجلدات لهيغل كانت في الأصل تخص باكونين وأرسلها إلي كهدية ". [مراسلات ماركس إنجلز ، دار دمشق ترجمة د. فؤاد أيوب ص 109]. ماركس وهو ينتج العلم الاقتصادي/ السياسي التاريخي يتعلم من مجلدات منطق هيغل التي تحوي هوامش لـ باكونين، الثوري الفوضوي الروسي [ميخائيل أليكساندروفيتش 1814-1876]
الماركسية في لحظاتها الثلاث تعتمد الديالكتيك المادي كمنهج إجمالي في التفسير الاجتماعي والتاريخي ، منهج أثبت جدارة في تجارب عديدة في العلم التاريخي والاجتماعي/ القومي وفي قضايا التنظيم والثورة الاجتماعية .
بواسطة الديالكتيك المادي يعاد إنتاج نظرية المعرفة كنظرية اجتماعية هنا ، أي يعاد إنتاجها في المسألة العربية الاجتماعية الاقتصادية ، والقومية/ السياسية .
لا بد لنا هنا من التفريق بين العلم الطبيعي من جهة والعلم التاريخي/ الاجتماعي من الجهة الأخرى . في العلم الطبيعي يحصل التطور بصورة مباشرة في التشكيلة الرأسمالية بينما كانت هذه العملية لإنتاج العلم الطبيعي كالفيزياء مثلاً معرقلة بتصورات الكنيسة عن طبيعة العالم الدنيوي وعن وضع الأرض بالنسبة للشمس . العلم الطبيعي في الرأسمالية موسط بأدوات القياس ومستوى تقنية التجربة والتراث المتراكم في هذا المجال . ما من شيء يمكن أن يتدخل بين المفهوم وتحققه الواقعي بين طبيعة البذرة المحددة في ذاتها والوجود المفهومي والتقني الذي يناسبها غير ما ذكرنا . مع أنه توجد ميول في الإمبريالية الرأسمالية تعرقل في أوقات كثيرة تطبيق تقنيات جديدة مكتشفة نظرياً . في العلم التاريخي/ الاجتماعي الأمر مختلف ، حيث يكون الانتقال من تحديد الميل التاريخي القائم ، أي من القانون كميل في البنية إلى واقع محقق ، يكون حاصلاً بفضل الوعي والإرادة . إن الوعي والإرادة أي النشاط الواعي والمنظم للطبقات المتظلمة والهامشية يشكل جانباً عضوياً من موضوعية هذا القانون الاجتماعي . لأن النظام الرأسمالي ينمي باستمرار تيارات مضادة للميول التاريخية في الرأسمالية "الأولية" . وما الاحتكار والإمبريالية كالتحام للدولة مع الرأسمال الاحتكاري ، والكولونيالية الاقتصادية كتحويل للحروب الداخلية الدفاعية إلى حروب غزو ، إلى حروب خارجية سوى تنمية لتيارات مضادة للميول التاريخية في الرأسمالية . يترافق التحول من الرأسمالية الليبرالية إلى الرأسمالية الاحتكارية هذا التحول في الصراع الاجتماعي الطبقي من صراع داخل الأمة إلى صراع بين الأمم ، وهذا ناتج عن التعاون الطبقي للبروليتاريا في البلدان الإمبريالية الرئيسية مع بورجوازياتها .
مثلاً الاقتصاد السياسي علم تاريخي ، لأنه "يبحث في مادة تاريخية ، أي يتغير باستمرار " [راجع أنتي دوهرنغ لـ إنجلز ، ويوجين فارغا "القضايا الاقتصادية / السياسية للرأسمالية" ص 25 ] . ولذا فإن القوانين الاجتماعية ليست أكثر من اتجاهات ، يعوق تطورها ، ويغيره ويعدله ، باستمرار مفعول الاتجاهات المضادة . يكتب فارغا : "والحقيقة أنه لا يوجد فرق بين قانون واتجاه: فالاتجاه السائد يصبح قانوناً . كتب ماركس في مقدمته للمجلد الأول من رأس المال يقول: "إنها مسألة هذه القوانين نفسها ، مسألة هذه الاتجاهات التي تعمل بالضرورة نحو إيجاد نتائج حتمية . يقول ماركس في حديثه عن تركز رأس المال : "إن هذه العملية يمكن أن تسرع بانهيار الإنتاج الرأسمالي لولا وجود الاتجاهات المضادة ، التي تعمل باستمرار على إبطال مفعول المركزة ، جنباً إلى جنب مع وجود هذا المفعول""" [راجع يوجين فارغا "المسائل الاقتصادية / السياسية للرأسمالية " ترجمة أحمد فؤاد بلبع دار الفارابي 1975]




















ما الماركسية؟

سلامة كيلة


ترتبط الماركسية بالقوى التي تعبّر عن الطبقات الفقيرة، خصوصاً عن العمال والفلاحين الفقراء. وهي «عقيدة» الفئات المثقّفة والمتعلمة ذات الميول اليسارية.
وكان يجري اعتناقها، كما ترد في الكتب والكراريس المؤلفة (والمطبوعة غالباً) في الاتحاد السوفيتي. وإلى زمن طويل جرى اعتبار «العلماء» السوفيت هم منتجوها.
كما كان التشكيك بها كما ترد، وبهؤلاء «العلماء»، ضرب من «العبث البرجوازي»، أو «التحريفية»، أو حتى «التخريب الإمبريالي». لهذا كانت هذه «التهم» جاهزة لوصم كل مختلف أو مخالف، أو داعٍ للتدقيق والبحث.
لكن انهيار المنظومة الاشتراكية أوجد تحوّلاً عميقاً، ليس في السياسة والجغرافيا السياسية فقط، بل وبالفكر كذلك، حيث انقلب «المدافعون الأشداء" إلى «أعداء» أو رافضين، وشتّامين لكل ما يمت للاشتراكية بصلة، حتى «المجددين الماركسيين»، عمموا الرفض والتشكيك، وتأكيد قيم الرأسمالية (الرأسمالية كنمط اقتصادي اجتماعي، و كذلك الليبرالية والديمقراطية).
ولاشك في أن انهيار المنظومة الاشتراكية يفرض التشكيك والشك، وبالتالي يفرض البحث والدراسة والتقييم لتجربة الاشتراكية. لكن كيف يمكن أن نتعامل مع انعكاسات الانهيار على الماركسية ذاتها؟ هل «شطب» الماركسية كونها «الأساس النظري» للتجربة الاشتراكية؟ أم أنه وضعها محل مساءلة، وبالتالي جعل الشك عنصراً أساسياً في رؤيتها؟ لهذا هل لازالت قادرة على أن تكون «الأساس النظري» للمشروع القائم على نفي الرأسمالية؟
لابد من الإشارة أولاً، إلى أن «معنى» الماركسية التي ترّسخت في وعينا (أو التي وصلتنا) يحتاج إلى تحديد، وبالتالي هل أننا نناقش الماركسية ونصدر الأحكام بحقها من داخلها فعلاً؟ أم أننا نقوم بكل ذلك انطلاقاً من «الوعي» الذي تشكل لدينا عن طريق الاضطلاع على الكراريس والكتب «والعلماء»، حيث أن كل ذلك يؤسس لـ«طريقة في التفكير» تصبح هي أساس وعي الظواهر؟ فالماركسية حسب ما تعرّف هي منهج وقوانين ونظريات. ولقد عملت المدرسة السوفيتية على تقسيمها إلى أربعة فروع هي: المادية الجدلية، المادية التاريخية، الاقتصاد السياسي، والاشتراكية العلمية. وأصبح كل فرع يضم القوانين والنظريات التي تتعلق بالحقل الذي يخصه، حيث تضم «المادية الجدلية» الجانب «الفلسفي» في الماركسية، أي الجدل والقوانين التي يتألف منها، وتضم «المادية التاريخية» أنماط الإنتاج المتشكلة في التاريخ البشري (المشاع، الرق، الإقطاع، الرأسمالية). ويتناول الاقتصاد السياسي تحليل «القوانين العامة للرأسمالية». والاشتراكية العلمية «القوانين الأساسية» للنمط الاشتراكي.
ولهذا انحكمت هذه الماركسية لتخصصات أساسية، وأصبح كل فرع «متمايز» عن الآخر، لأنه محدّد في حقل معيّن، دون ترابطات فيها بينها.
كما أصبحت هي الجامع لكل «القوانين» و«النظريات» المدرجة في هذه الفروع. وبالتالي كانت «المجموع الكمي» لها، وسنلمس تاليا أن هذا الكم لا يساوي الماركسية، على العكس يخرجها من ذاتها لتصبح مفارقة لها.
هذا «التوضيب» للماركسية ،الذي هو من عمل «العلماء» السوفيت بالتحديد، أي من عمل الكتّاب الذين اشتغلوا في هذه الحقول، ربما منذ أواسط ثلاثينات القرن العشرين، أي حين أصبح ستالين هو «الزعيم الأوحد».هذا " التوضيب" جعل «النقد» و«التجديد»، اللذين بدآ بعد انهيار الاشتراكية، يطالان كل ما يتعلق بفهم الرأسمالية وتحديد قوانين الاشتراكية، أي الفرعين الثالث والرابع( أي الاقتصاد السياسي و الاشتراكية العلمية)، مع زيادة في التأكيد على «أهمية وضرورة» الفرعين الأول والثاني( أي المادية الجدلية و المادية التاريخية).
بمعنى أن النقد يقوم على الأرضية ذاتها،أي انطلاقا من المنطق القديم ذاته)، حيث يجب التساؤل أولاً عن صحة هذا التقسيم وعن الطابع التخصصي الذي يحكمه؟ والتساؤل ثانياً عن صحة «القوانين» المحدَّدة في هذه الفروع كلها؟
لقد جرى انتقاد «القوانين» المتعلقة بالرأسمالية وبالاشتراكية كما هي واردة في هذه الماركسية، وجرى رفضها والتشكيك فيها، مع ثبات «المنهجية»، لكن كيف كان وضع المنهجية في هذه الماركسية.
إن الدارس لصيغة الماركسية هذه (التي أسميت الماركسية اللينينية، والتي يطلق عليها الماركسية السوفيتية) يلمس عملية انتقال ممنهجة (وربما لم تكن واعية) من كون الماركسية هي «منهجية عامة» (ما كروية) إلى كونها «منهجية جزئية» (ميكروية) أي من كونها «القوانين العامة الناظمة لحركة الكون والمجتمع» إلى كونها «القوانين الخاصة» بالديالكتيك كفرع مستقل والخاصة بالتاريخ كفرع مستقل كذلك، والخاصة بالاقتصاد والاشتراكية. وهذه الانتقالة حققت «الانقلاب الأول» في الماركسية، حيث أصبح معنى المنهج هو تلك الطرائق التي تتعلق بفرع معيّن (طرائق البحث الاقتصادي مثلاً أو قوانين الاشتراكية العلمية)، وهذا يفرض البحث في هذه «القوانين الخاصة». لكن الأهم هنا يتمثل في أن «القوانين العامة» التي تؤسس لترابطات تنطلق من أن الوجود كل متكامل (الذي أسماه لوكا ش انطولوجيا الوجود الاجتماعي) وأن فاعلية الإنسان هي محور الوجود الاجتماعي، وبالتالي فإن هذا الوجود لا يمكن أن يدرس إلا في ترابطه أولاً، وحركته الدائبة (صيرورته) ثانياً.
أما «الفروع» (وليس تلك التي أشرت إليها سابقاً فقط) فهي مستويات مترابطة ومتتابعة في هذه الصيرورة (أي المستوى الاقتصادي، المستوى الاجتماعي، المستوى الثقافي الأيديولوجي، والمستوى السياسي).
وهذا الأمر يستدعي البحث في الجدل، لأن كل ذلك هو مجال بحثه. ولقد تمظهرت المشكلة الأولى والأهم في الماركسية التي نعرفها (والمشار إليها سابقاً) في هذا الفصل (ألقسري) بين ما أسمته المادية الجدلية (الديالكتيكية)، وكل الفروع الأخرى، لأن هذا الفصل أفضى إلى تحويل الجدل إلى «فلسفة تأملية»، لأنها أصبحت بحث في «القوانين المجرّدة"، بمعنى أنها عادت فلسفة بالمعنى التقليدي (الكلاسيكي) للفلسفة، أي عادت إلى أن تكون مبحثا في الفلسفة بالطريقة ذاتها التي كانت قبل ماركس. إنها بحث فلسفي «قائم بذاته»، ويدور حول «ذاته». لهذا أصبح عبئاً ثقيلاً على الماركسيين يهربون من الغوص فيه، حيث بدت وكأنها غير ذات معنى سوى المعرفة ذاتها، وليس لها من «دور» في إطار المنظومة كلها. لأن كل الفروع الأخرى، لها «منهجياتها» و«قوانينها»، وبالتالي آلياتها التي «تكشف» الواقع.
وبهذا فقد ضاعت فاعلية الجدل التحليلية، مادام النظر إلى الواقع بات ينطلق من «منهجيات» و«قوانين» أخرى: تدرس الواقع مجزأ وسكونياً.
بمعنى أن الجدل المادي لم يعد يحكم النظر إلى الواقع في كليته وصيرورته، فتنحّى لمصلحة «منهج كلي» آخر، هو هنا مضمر، يقوم من جهة على التطبيق الميكانيكي لتلك «القوانين» على الواقع، حيث أصبح تعبير «القوانين» يعني «التصور المتكامل» عن الواقع، مما جعل البحث في الواقع يعني إخضاعه لتلك «القوانين» لكي تتحقق المطابقة، وبالتالي أصبح الواقع ثانوي، وهو انعكاس للفكرة (التي هي «القوانين» تلك). الأمر الذي أعاد إنتاج «المنطق النصّي" (اللاهوتي)، القائم على مفهوم القياس، قياس الواقع على النص، ليبدو الواقع كظلال باهتة للنصّ (الملخصّ في المادية التاريخية، والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية).
ويقوم هذا المنهج من جهة أخرى على مبدأ الهوية الأرسطي، القائم على تحديد الأشكال أولاً: وعلى التأكيد على التناقض الثنائي (خير/شر) ثانياً: وعلى الجزم بأن المتناقضات هي (إما، أو) ولا ثالث لهما. لهذا اخترقت هذه الماركسية مفاهيم «حادة» مثل برجوازية/ بروليتاريا، رأسمالية/اشتراكية...الخ وأصبح المطلق هو أساسها بحيث انتهت «التوسّطات»، وغاب «التركيب» الذي هو جوهر الجدل المادي (والذي يسمى نفي النفي).
فالخير خير مطلق والشر شر مطلق (ويمكن القول ذاته على الأبيض والأسود). وهذا المنطق هو منطق أحادي يرفض التعدد، و يلخّص الواقع في ثنائيات متضادة. وهنا يظهر واضحاً بأن «منطق التفكير» لازال هو المنطق الأرسطي (المنطق الصوري)، متزاوجاً والمنطق اللاهوتي النصيّ (الذي هو منطق صوري كذلك و رديف المنطق الأرسطي في المستوى العمومي). وإن الجدل المادي (أو المادية الجدلية حسب التعبير الدارج) الذي هو «الفرع الأول» حسب إشارتنا السابقة، وبالتالي هو جزء من «الماركسية اللينينية»، هو في الحقيقة مجهول و«خارج المعرفة» لذلك فهو «خارج الاستخدام»، انه الغائب الأساس و غير المفهوم على الإطلاق.
إننا إذن إزاء ماركسية تستند إلى منهجية سابقة لنشوء المنهجية الماركسية، ومتوارثة منذ أرسطو، ومعممة بشكلها البسيط عبر توارث الوعي التقليدي. وسنلمس هنا أن «قوانينها» (حتى التي وضعها ماركس) ومنظوماتها، ستخضع لتحوير ضروري، لكي تتوافق والمنهجية القديمة تلك، وتتراكب معها.
سنلمس أولاً كيف أن واقعنا سيُقصر في إطار نصّ مسبق، حينما نتناول مسألة ارتقاء «المجتمع العربي» حيث انحكمت رؤية الواقع لـ«قانون» يقول بانتقال المجتمعات من المشاع إلى الرق إلى الإقطاع، ومن ثم إلى الرأسمالية لكي يكون مهيئاً للانتقال إلى الاشتراكية.
ولاشك في أن إشارات من هذا القبيل وجدت لدى ماركس/ إنجلز، كما وجدت إشارات لتخطيطات أخرى (النمط الآسيوي مثلاً). وبالتالي ليس من السهل القبول بأن ماركس هو الذي بلور هذا «القانون». لكن سنجد أنه أصبح من «الماركسية» حينما تشكلت كـ«فروع» وكان في صلب «المادية التاريخية».
ولأنه «قانون» فهو حتمي، لهذا فإن كل المجتمعات يجب أن تتطوّر وفق هذا الشكل الارتقائي، دون إمكانية لـ«انحراف» ما. هذه المسألة فرضت أن يتحدّد تطور العرب في أواسط القرن العشرين، بالارتقاء من الإقطاع إلى الرأسمالية،لأن حتمية نشوء الرأسمالية فرضت أن يلعب الشيوعيون دوراً مساعداً في «ثورة» ليست لهم، لأنها برجوازية الطابع، وتقاد من قبل البرجوازية.
وسنلحظ أولاً أن هذا «التشكيل» للماركسية (الماركسية اللينينية) فرض أن تنتقل من صف لينين إلى صف بليخانوف (والمناشفة)، رغم أنها في هذه اللحظة بالذات أسميت «الماركسية اللينينية». بمعنى أن تصور لينين المختلف عن التصور الماركسي الأصلي، وبالتالي المختلف عن «دوغمائيي» الماركسية آنئذ (وخصوصا بليخانوف)، القائم على فهم الواقع المعقد، والذي تبلور نتيجة رؤية لينين لعجز البرجوازية عن تحقيق «ثورتها الديمقراطية»، بفعل التطور العالمي للرأسمالية (وهذا ما سوف يحلله بشكل دقيق في كتابه «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»)، مما إستوجب أن تلعب الطبقة العاملة دور تحقيق الثورة الديمقراطية في صيرورة مركبة توصل إلى الاشتراكية.
«الماركسية اللينينية» أسقطت هذه الفكرة الهامة التي كانت نتاج تحليل مادي جدلي لواقع محدّد هو الواقع الروسي، وفي لحظة معينة هي لحظة تحوّل الرأسمالية إلى نمط عالمي.وكرّست حتمية يجب أن يمّر الواقع بها، مما جعل النص هو الذي يحكم الواقع. وإذا كانت الرؤية المادية الجدلية التي امتلكها لينين هي التي أوصلته إلى ذاك الخيار المركّب، الذي اعتبر خروجاً على «كلاسيكيات» الماركسية آنئذ، فإن «الماركسية اللينينية» أعادت إحكام النص. وسنلمس هذا الإحكام في الموقف من المسألة القومية، ومن مفهوم الدولة، والحزب، ودكتاتورية البروليتاريا، و الأممية..الخ. حيث تحوّلت بعض تصورات ماركس إلى قوانين، وأصبحت هي الحاكم، وهي ـ بالتالي ـ محدّد الواقع، رغم أن البحث فيها لم يكن قد بدأ، وأنها لم تُنضج إلى الحدّ الذي يفرض تحوّلها إلى قوانين، فقد كانت لما تزل مفهومات لم تكتسب جوهرها بعد: أي لم تتبلور في تصورات مكتملة.
وبهذا فقد «توسعت» رقعة القوانين لتشكّل كلية المجتمع، أي لتشمل كل عناصر المجتمع، وبالتالي لتخضع كل السلوك البشري لجبروتها، فأصبحت الماركسية «فلسفة مكتملة»، أو «نظرية مكتملة». وأصبح هدف البشر هو تطبيقها.
ومن هنا نشأ التمييز بين النظرية والتطبيق، رغم أن الماركسية لا يمكنها أن تقبل هذا التمييز، نتيجة الطابع المركّب للعلاقة بين الوعي والممارسة فيها. لكن «المنطق الأحادي» كان لا يني ينتج هذه الثنائيات.
و«المنطق الأحادي» فرض تأسيس بنية تبسيطية، وجدت صداها في «فروع الماركسية» الأربعة، حيث فرض اختزال الواقع إلى ثنائيات، مثل تناقض برجوازية بروليتاريا، الذي غدا التناقض الأوحد في المجتمع، الأمر الذي قاد الى تجاهل الطبقات الأخرى (المتوسطة مثلاً) خصوصاً في مجتمع متخلف، حيث الفلاحون هم القوة المهيمنة آنئذ، وبالتالي قاد إلى تجاهل التناقضات الأخرى. وفي مجتمع مثل مجتمعنا قاد التأكيد على الطابع البرجوازي للثورة الديمقراطية إلى تجاهل التناقض معها، وتركيز هجومه على «عدو خارجي"، أو على كل الطبقات التي تمرّدت وعملت على إسقاط البرجوازية.
ولاشك في أن هذا المنطق، الذي كان يحوّل التناقض بين الرأسمالية والاشتراكية إلى حدود التناقض بين الشر والخير، أو الشر المطلق والخير المطلق (حيث ستبدو كل من الرأسمالية والاشتراكية كتكوين مجرد، لا واقعي)، فرض تحقّق التحوّل الذي جرى بعد انهيار الاشتراكية، والذي تأسس على مبدأ «قلب» الشر والخير، لتصبح الاشتراكية هي الشر المطلق مادامت لم تتحقق في أوانها، وأن الرأسمالية هي الخير المطلق ما دامت تعيش زمنها. وهنا نلمس التمسّك المفرط في «قانون» ارتقاء أنماط الإنتاج الذي أشرت إليه سابقاً، ليتوضّح كيف يوّلد «المنطق الأحادي» المنطق النصيَّ، وكيف يتزاوجا في منطق متسق.
هذه المشكلات التي نتجت عن سيادة «المنطق الأحادي النصيّ» حكمت كل «فرع» الماركسية اللينينية، وشكلت منها نصاً «متكاملاً» ومنسجماً، لكنه غير ماركسي. لقد أصبح «نصاً مقدساً». سنلمس هنا «التحوير الضروري» الذي طال «المادية الجدلية» لكي تطابق منطقاً أحادياً ونصياً، أي التحوير الذي أعاد ماركس و هيغل إلى أرسطو، فشطب مجهودهما العظيم ومن ثم شطب استنتاجاتهما، وأساساً شطب المنطق الذي تبلور معهما معاً. و عبر هذه العملية أعاد الماركسية إلى أيديولوجيا القرون الوسطى، و حوّلها إلى دين جديد.
رغم أن ماركس ضمّن تصوراته جدل هيغل بعدما حوّله من البحث في المجرّدات إلى البحث في الواقع انطلاقاً من أنه منتج الأفكار والتصورات، ورغم أن إنجلز حينما حاول أن يشرح الجدل المادي ويؤصله أكد على قانون نفي النفي، فقد ثارت مشكلة تالية (إضافة الى مشكلة بيرنشتاين الذي رفض كل أثر هيغلي في الماركسية، وخصوصاً الجدل)، تمثلت في التأكيد على خلو جدل هيغل من «الثلاثية» (أي الفريضة ـ السلب ـ نفي النفي) التي تسمى اختصاراً قانون نفي النفي، وكان بليخانوف هو من أثار هذه المسألة وأكد على أن جوهر الجدل هو قانون التراكم (أي التراكم الكمي المفضي إلى تغير نوعي)، وبدأ البحث انطلاقاً من هذا الأساس، وعلى ضوئه أصَّل حتمية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية في روسيا، وأصبح هو: «قانون» ارتقاء المجتمعات البشرية في صيغتها الحتمية/ الجبرية.
هذه المسألة حكمت «الماركسية اللينينية»، حيث أصبح قانون التراكم هو جوهر الجدل المادي، مما جعل الظواهر تسير حتماً في تراكم صاعد يفضي حتماً (كذلك) إلى تحقق عملية التحوّل النوعي التي تأتي بظواهر جديدة مختلفة نوعياً عن سابقتها، وهكذا...
والعودة إلى كتاب ستالين المعنون «المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية» يمكن أن تلمس هذه المسألة، وتلمس كيف أنها تساوقت مع منطق أرسطو (مفهوم الهوية خصوصاً) لتؤسس لمنطق شكلاني دوغمائي فظ، تضمّن تخطيطات مبسطة مشوشة، أصبحت هي الواقع الذي يجب أن يسير الواقع على شاكلته، كما تضمّن محاكمات أرسطية بامتياز، وإن لم تكن في مستوى الرقي الفلسفي الأرسطي.
وبالتالي فإذا كان تقسيم الماركسية إلى فروع قد أهدر الجدل المادي، فإن الصيغة التي تبلورت فيها هذه الفروع، والمنهجية التي حكمت تبلورها أفضت إلى صياغة «قوانين» ليست دقيقة علمياً، على العكس يمكن التشكيك في علميتها بكل ثقة، سواء عبر إخضاعها للواقع، أو عبر إخضاعها للجدل المادي( لكن ليس ذاك الوارد في الماركسية اللينينية بل الجدل المادي الماركسي).
ربما كنت أهدف من كل ما سبق،الى التأكيد على أن «الماركسية» التي نظرنا عبرها إلى الواقع، وإلى الرأسمالية والاشتراكية، وإلى التاريخ والفلسفة والمجتمع...الخ كانت صيغة أخرى مختلفة عن صيغة ماركس/ إنجلز، ولينين (وآخرين)، وكانت متخلفة عنها سواء بمنهجيتها، أو بتصوراتها. ولقد كانت المسألة الجوهرية التي حكمت نقد الماركسية الرائجة قبل انهيار المنظومة الاشتراكية هي هذه، وأقصد أنها تمثلت في مقاربة «الماركسية اللينينية» بالماركسية سواء في المستوى الفلسفي (أي الجدل المادي) والمستوى العام، أو في مستويات محدّدة، مثل التصور حول المسألة القومية، والديمقراطية، وطبيعة تطوّر المجتمعات المخلّفة، والحزب، وأنماط الإنتاج، كلها أو بعضها.
ولهذا وسمت «الماركسية اللينينية» بالماركسية السوفيتية، للإشارة إلى أنها غدت «نسيج ذاتها»، وأنها تفارقت مع الماركسية، مما سمح بالتأكيد على ضرورة العودة إلى الماركسية، الماركسية الأصلية.
الماركسية التي لم تتشكّل إلا حينما تبلور الجدل المادي في «عقل» ماركس، وأصبح أداته البحثية والعلمية الصادقة.
من كل ذلك نستخلص بأن الماركسية هي طريقة في التفكير أولاً، وأنها منظومة قوانين ومفهومات تشكل آليات النشاط الذهني الضروري لكل بحث، وخصوصاً لكل بحث في الواقع، إنها منهجية وعي (تفسير وكشف) يكون الواقع هو ميدانها الأساسي، من أجل وعي الصيرورة الواقعية ذاتها( وهنا فهو يتجاوز السكون حكماً)، حيث سوف يكون هدف التجريدات النظرية في ترابطها وتقاطعها وتناقضها وحركتها الدؤوبة، هو وعي صيرورة الواقع المتشابكة والمترابطة، والدائبة، والمعقدة، وكذلك المتراكبة.
وهنا، دون الوقائع ليس من الممكن أن يحقق البحث شيئاً مفيداً، مما يجعل الواقع محل بحث مستمر، كما يجعل الماركسية محل إعادة إنتاج مستمرة، لأنها هنا تستخلص صيرورة الواقع عبر تنظيرها، مما يجعل كل ما هو محدّد مسبقاً محل تساؤل، سواء من أجل إعادة الإنتاج، أو سواء من أجل النفي، أو الاغناء. وصيرورة «الموت والحياة» هذه هي التي تحكم الماركسية، مما يجعل اليقين موضع شكّ مستمر، و الشكّ مجال الوصول إلى اليقين. هذه العملية تستلزم الواقع حكماً، ولن تكون ممكنة أو مفيدة دونه، وهي تتأسس على الجدل المادي.
والصيرورة تتضمن تعدّد المستويات، وتعدّد المتناقضات، كما تتضمن التراكم والتحوّل النوعي، والتركيب (أي نفي النفي). لهذا يجب ألا نلمس زاوية من الواقع ونتجاهل أخرى، أو ننطلق في التحليل من لحظة ساكنة ونتجاهل أن الواقع في صيرورة مستمرة.
هذه النقلة من أرسطو إلى ماركس نقلة حاسمة، لأنها أفضت إلى تحوّل نوعي في المنطق، وهي ضرورية عندنا، لكي نتجاوز «منطق القرون الوسطى» الذي يولد مع ولادتنا. ليصبح أرسطو مستوى أولياً في علمية معقدة من البحث العقلي، ويكون الجدل المادي هو أداة التحليل التي توجّه نشاطنا الذهني، فالخير المطلق والشر المطلق سيبدوان عند التحليل المدقق أنهما متحدّان، حيث ما يمكن أن يكون شراً لي سيكون خيراً لآخرين، كما أن ما بين الأبيض والأسود طيف واسع من الألوان، وكذلك مركّب منهما. وحيث السكون لحظة عابرة في الصيرورة، يمكن التركيز عليها كخطوة أولية، ولكن لا يمكن فهمها إلا في سياق الصيرورة... الخ.
النقطة الأولى إذن، لكي نستطيع نقد الاشتراكية وإعادة النظر في ماركسيتنا، تتمثل في إمتلاك المنهجية الماركسية، امتلاك الجدل المادي، وهي الخطوة الضرورية من أجل إعادة بناء التصورات والأفكار، «وتشكيل» الماركسية في منظومة متّسقة و راهنة، وكذلك علمية. فالماركسية هي «فلسفة» التفسير، أي أنها منهجية تسمح بتفسير الواقع، ولكنها في تفسيرها هذا توصل إلى ضرورة التغيير، مما يجعل التأسيس النظري يرتبط بالتأسيس العملي، وليكون التأسيس النظري عملاً أولياً في سياق تأسيس حركة اجتماعية فاعلة، تسعى لتحقيق التغيير، عبر تأسس الحزب الذي هو شكل «الاتحاد» بين فئات مثقفة وفاعلي (أو ناشطي) الحركة الاجتماعية (المحددة في العمال والفلاحين الفقراء أساساً)، مما يجعلها حركة نوعية لأنها تستند إلى عنصري الوعي والتنظيم في إطار حركة اجتماعية حقيقية.
وستكون النقطة الثانية بالتالي هي تأسيس الرؤية، حيث أفضت «الماركسية اللينينية» كونها «الموجّه» الأيديولوجي، إلى تبني تصورات مشوّهة، ومخالفة للواقع، وبالتالي ضارّة بنشاط الماركسيين (مثل دور الشيوعيين وطبيعة المهام، المسألة القومية، المشروع الصهيوني، مفهوم الحزب) والمؤسسة لدور «مهادن» ويميل إلى «قبول الأمر الواقع»، وينحصر في «مسائل مطلبية»، ويقبل بـ«قيادة الآخرين»، ويؤكد على عقلانية لا عقلانية.
الأمر الذي يفرض إعادة صياغة التصورات حول العديد من القضايا الأساسية، وبلورة رؤية تحويل الواقع، وتحديد الهدف العام الذي نسعى إليه، وتأسيس الحلم المستقبلي.