تأملات / صوب المرتجى بأناشيد سلم وحرية !


رضا الظاهر
2011 / 4 / 11 - 17:03     

تأملات

صوب المرتجى
بأناشيد سلم وحرية !

لا يحار المرء كثيراً في تفسير موقف "المتنفذين" من الاحتجاج السلمي، فهذا مرتبط، أساساً، بخشيتهم من تهديد الأصوات المحتجة، المختلفة، لامتيازاتهم. وكم يتمنى المرء لو أن هؤلاء المتنفذين، قصيري النظر الى حد تضحيتهم بمن يسعون الى دعمهم، يدركون هذا الواقع ويتخلصون من عماهم الآيديولوجي وازدرائهم للرأي الآخر والاختلاف في التأويل والاجتهاد.
وإذا كان مفهوماً أن يخشى الحكام من خصوم، فإنه من غير المفهوم أن يخشوا من متضامنين ساعين الى إصلاح النظام والعملية السياسية، إلا إذا كانوا، هم أنفسهم، من السعاة الى تحويل المحتجين الى خصوم في السياسة والفكر، فيمهدوا، بذلك، سبيلاً أمام خصوم حقيقيين للعملية السياسية، وبينهم، بالطبع، أنصار النظام المقبور ممن يغذون نزعات قمع "المعارضين" وتخويف السلطة التي تسلقوا أو تسللوا إليها بعد أن خرجوا من معطف الدكتاتورية الفاشية، متلونين كحرباء.
ولا حاجة بنا الى كثير قول إن السبب الرئيسي للاحتجاجات يتمثل في استمرار الأزمة الاجتماعية في البلاد على مختلف الصعد، وإن الحركة الاحتجاجية، الواسعة والمتخطية الانقسامات الطائفية والاثنية والمناطقية، والمجسدة الدور الواعد للقوى الحية من الشباب والنساء والمثقفين خصوصاً في عملية التغيير، صاغت قضايا مطلبية اجتماعية في شعارات ناضجة، وسارت في اتجاه ينبيء بفتح آفاق وتحويل ما يبدو مجرد أزمات معزولة الى طابع تحرك شامل مما ينطوي على إمكانية تطوير حركة شعبية قادرة على فرض إرادتها المشروعة وتحقيق مطامحها العادلة.
غير أنه مما يثير الأسى أن إسهامنا في الحركة الاحتجاجية وموقفنا منها، وهو موقف بعيد كل البعد عن اللهاث وراء مغنم أو مبتغىً ضيق، أثار حفيظة البعض وأقلقهم دون وجه حق.
أما الحملات التي سعت، عبثاً، الى إسكات أصوات المحتجين بالتضليل والتشوية والقمع، فقد أخفقت أمام عدالة الاحتجاج وسلامة أساليبه ومشروعية مطالبه ونزاهة وإصرار قواه التي ماتزال تخوض التحدي السلمي في إطار العملية السياسية ذاتها من أجل إصلاحها وإصلاح النظلم السياسي برمته إصلاحا جذرياً.
ومن ناحية أخرى فانه إذا كان هناك من فضل للحركة الاحتجاجية على "قادة" سياسيين، وأفضالها كثيرة، فانها أخرجت البعض من عزلة المكاتب ووضعت أقدامهم على أرض الواقع بعد أن كانوا محلقين في سماء أحلام أو أوهام، فكانت درساً بليغاً من الشباب تمس الحاجة الى تقييمه بواقعية وعمق. وقد كان على المتنفذين أن يدركوا أفضال حركة الاحتجاج عليهم، فيتخذوا منها الموقف المنفتح المتعاطف لا المرتاب المرتعب.
ولا ريب أن بعض الشباب "المتحمسين"، المتباهين بالعفوية حد التقديس والمزدرين التنظيم حد الصبيانية، يرتكبون خطأ فادحاً عندما ينظرون بتعالٍ الى حركات سياسية عريقة، ويبتعدون عن التواضع واحترام الخبرة، ويحولون القضية الى "صراع بين أجيال" بدفع من متطرفين ومغرضين من ركاب موجات أو ساعين، عبر إيهام وخداع، الى إجهاض الحركات والانتفاضات الثورية. فشباب الاحتجاج لم يظهروا بغتة من فراغ، وحركاتهم لم تنزل فجأة كما مطر من السماء، وإنما هي حركات ذات بعد سياسي ومحتوى اجتماعي ترتبط، على الرغم من مستوى عفويتها والتباساتها، بحركة الواقع وتراكم المعاناة ونضج السخط وتبلور الأمل.
وبوسعنا القول إن رهان الاحتجاج يستند، من بين مرتكزات أخرى، الى التكامل بين حماس الشباب الساخطين وتبلور وعيهم في تمارين الكفاح وبين أهل التجارب ممن ينقلون خبرتهم الى أجيال جديدة. وهذا التفاعل بين الأجيال هو من سمات حركة التاريخ وتطور الحياة.
ومن المعلوم أن الشباب كانوا، على الدوام، نسغاً يغذي حركات الاحتجاج ويمنحها العافية والشرعية ويفتح أمامها أبواب التجاوز وآفاق الرجاء. ومن دون الشباب البناة، ومن دون النساء واهبات الحياة، ومن دون المثقفين حملة مشاعل التنوير، ما كان يمكن أن نشهد استيقاظاً في التاريخ، ولا نوراً يبدد الظلمات، ولا شرارات يندلع منها لهيب الكفاح، ولا نداءات إصرار على بزوغ فجر حياة جديدة وغد وضاء.
* * *
احتج أبو ذر الغفاري ضد عثمان ورفض عطاياه فظلت الأجيال تتذكره .. وأطلق الحسين، سيد الشهداء، صرخته المدوية "هيهات منا الذلّة" ضد بني أمية فانتصر وكانوا المهزومين .. وانتفض القرامطة والزنج، وقبلهم سبارتاكوس، وبعدهم مقتحمو السماء في باريس .. واليوم يكتب محتجو ساحة التحرير فصلاً جديداً في مسيرة التاريخ الانساني يضيء نفسه بإرث عريق مجيد، ويتطلع، بمثال ملهم، الى مرافيء الضفاف الأخرى.
الاستيقاظ، الذي بدأت شرارته في تونس ليندلع اللهيب ممتداً الى ساحات أخرى شهدت سخط الشباب وهتافاتهم الغاضبة المفعمة بالتحدي والاقتحام، كشف، من بين أمور أخرى، عن وهم أن الجماهير كتلة صماء لا يمكن اختراقها، وعن حقيقة أن الشعوب لم تكن، كما تخيل يائسون وفاقدو صبر، في رقاد. فقد نهضت في اللحظة المنشودة لتحسم خيارها وتطيح بعروش الطغيان وتعيد الى التاريخ ناموسه الحقيقي، وتثبت أن بوسع قوى الشعب الحية أن تواجه الاستبداد وتسير، غير هيّابة، رائدة الدروب، وخائضة غمار المعارك، وماضية صوب المرتجى بأناشيد السلم والحرية ورايات الأمل الوطيد وينابيع المعرفة التنويرية.