تأملات / -غيبوبة- مساءلة .. وفساد وترقيع !


رضا الظاهر
2011 / 4 / 4 - 16:35     


في ظل نهج المحاصصات وصراع الامتيازات وشيوع أخلاقية التواطؤ وطمس الحقائق وغياب المساءلة والرقابة الحقيقية تأتي الفضيحة الأخيرة التي كشف عنها تصريح نادر في الحادي والعشرين من شباط الماضي، وفيه أعلن مجلس النواب شروعه بـ "البحث عن 40 مليار دولار مختفية". وقال رئيس المجلس إنه "تم تشكيل لجنتي تحقيق لمعرفة مصير 40 مليار دولار سحبت من صندوق التنمية العراقية ومصيرها مجهول".
وفي هذا السياق لابد، ابتداء، من إضاءة عدد من الحقائق. فالفساد الذي يستشري على نحو "مؤسساتي" هو، أولاً، آفة اجتماعية تعود جذورها الى عهد الدكتاتورية الفاشية التي أشاعت الخراب المادي والروحي، وخلقت ظواهر مدمرة أسهمت في تعميق التشوه الاجتماعي ونمط التفكير والسلوك المنحدر، وبينها ظاهرة الفساد التي تفاقمت بعد "التحرير" وصار لها "فرسان" بارعون من الحكام والمنسقين معهم ومع "المحررين" في عالم الصفقات و"عقود" الاعمار والنهب المنظم. وتحولت ظاهرة الفساد، الشائعة في كل الميادين والمستويات، الى واقع تعجز إجراءات الحكومة الترقيعية عن معالجته، بينما تغيب الوسائل القانونية الفعلية لملاحقة الفاسدين والمفسدين "الوطنيين" والغرباء.
والفساد، الذي يخضع، شأن أمور أخرى، لنهج التسييس، هو، ثانياً، مرتبط بظواهر سائدة في المجتمع بينها الارهاب والتخريب من ناحية، والبؤس والتهميش الاجتماعي من ناحية ثانية، وفي ظل ثقافة تخلف ومحاصصات، ناهيكم عن الاحتلال الذي "برع" فرسانه في إشاعة المآسي مثلما في إشاعة الفساد "الجديد" بأساليبه المبتكرة في النهب حيث إعادة الاعمار الفاشلة والاستثمارات الوهمية والرشوات المقدمة الى "المتنفذين" وعمليات شراء الضمائر وما الى ذلك من بلايا تترافق عادة مع كل "تحرير" وكل حكام "محاصصاتيين" يجسدون، هم أنفسهم، المناخ الملائم لتواصل النهب والفساد، بينما ينغمرون في تصريحات متناقضة واتهامات متبادلة في سياق سلوك تسييس وطمس حقائق وتطويع أخرى للمنافع الضيقة، ناهيكم عن غياب الدور الرقابي الفاعل للبرلمان وخضوع القضاء "المستقل"، في أحيان غير قليلة، الى عمليات ابتزاز وضغط سياسي.
والفساد، ثالثاً، وهو موازٍ في خطورته للارهاب، لا يمكن معالجته باجراءات ترقيعية عجولة وعابرة، ولا يجري التصريح بها إلا عندما تنكشف فضيحة، ولا بلجان تحقيقية تحولت الى أضحوكة لأنها لم تكشف عن مفسد "كبير" ولا عن قتلة شخصيات بارزة في المجتمع بينهم مسؤولون في هيئات النزاهة ومعنيون بالرقابة المالية وسواها. ومثل هذه المعالجة تتطلب زمناً أطول لأسباب عديدة بينها ارتباط الفساد بنمط التفكير والثقافة السائدة، ويتطلب اجتثاثه اجراءات تعالج البنية الأساسية التي نشأ عنها الفساد، وخطوات عملية تشيع ثقافة الرقابة والمساءلة والعدالة.
وإذا شئنا أن نبقى في حدود الأسابيع الأخيرة لا أن نعود الى انحطاط السنوات الثماني، وفضائح "المحررين" و"المقررين" وصفقات ما خلف الكواليس وعمليات التواطؤ وطمس الحقائق، بل وتصفية من كشفوا معلومات عنها، وسوى ذلك الكثير والكثير من المآسي والمهازل، بوسعنا الاشارة الى فضيحة واحدة جديدة.
فقد أطلق خبراء ومختصون في التعليم يوم 23 من آذار الماضي تحذيرات ومخاوف من احتمال تسبب الفساد، الذي يسود المؤسسات والدوائر الحكومية المركزية والمحلية، في تبديد منحة بلغت 17 مليون دولار قررها الاتحاد الأوروبي لتحسين فرص الحصول على التعليم الأساسي الجيد.
ولسنا بحاجة الى التذكير بفضائح التعليم في بلادنا، وبينها على سبيل المثال لا الحصر، المدارس الطينية ومحاولات منع التعليم المختلط، وتحريم الموسيقى من ضمن قائمة تحريمات لا تنتهي، وتبديد المنح في مجال التعليم وسواه. وقد حق لمختصين اعتبار أن انعدام إرادة الاصلاح الحقيقي لدى حكام البلاد يشكل عائقاً جوهرياً أمام تحسين التعليم. وبالتالي فانه لن يكون مما يثير الاستغراب اذا ما تلاشت منحة الاتحاد الأوروبي مادامت مليارات الدولارات التي دخلت العراق سابقاً أخفقت في أي تحسين أو تحديث في التعليم أو سواه.
أما الستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي أقرها مجلس الوزراء في كانون الثاني من العام الماضي فقد ظلت، حتى الآن، شأن كثير من القرارات، مجرد حبر على ورق، لتدخل مع شقيقاتها الى مملكة الأوهام.
* * *
رغم الانفاق الفلكي والتبديد الذي لا نظير له ما زال العراق في "غيبوبة" مساءلة وفساد وترقيع، وليس هناك ما يوحي بأنه سيخرج من هذه الغيبوبة قريباً مادامت البرامج الاجتماعية الاقتصادية السليمة غائبة، ومعها تغيب إرادة "المقررين" وتُغيَّب إرادة الملايين.
أيمكن في ظل فوضى "التحرير" والأوضاع الاستثنائية، والتمسك بنهج المحاصصات، وخوض صراع الامتيازات، وشراء السكوت المتبادل، وضعف الدور الرقابي للبرلمان وسواه، وما الى ذلك من مفارقات وأعاجيب، حل معضلة مستعصية مثل معضلة الفساد ؟
تنطلق الأصوات وما من أحد يسمع لأن المتنفذين يخشون هذه الأصوات العادلة .. وتنطلق النداءات وما من مجيب .. إنها لتجرية قاسية أن تنادي فلا يستجيب للنداء أحد. غير أن سخط الملايين سيتعالى مع رايات الاحتجاج في ساحة التحرير وكل ساحات البلاد التي لا تقبل روحها الخنوع، وتظل متطلعة الى الأفق والأمل بغد وضاء لابد آتٍ على يد مقتحمي السماء !