التيار الديمقراطي ودوره في تعميق التجربة الديمقراطية في العراق


هاشم نعمة
2011 / 3 / 21 - 16:54     

لا يمكن أن نتصور بناء أسس نظام ديمقراطي ناضج دون وجود أحزاب وقوى وطنية ديمقراطية علمانية فاعلة سياسيا واجتماعيا وثقافيا تؤمن فكرا وممارسة بقيم وثقافة الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وحرية التعبير وحقوق الإنسان. ومنظمات مجتمع مدني بعيدة عن تبعية الدولة وفاعلة وعلى مساس بحياة الجماهير. حيث يعد ضعف التيار الديمقراطي ومحاولات إقصائه من الساحة السياسية في العراق عاملا أساسيا في تعثر وإخفاق التجربة الديمقراطية تلك التجربة التي نتجت من خصوصية تمثلت بإسقاط النظام السابق بالاحتلال ولم تنتج من تراكم التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. وهذا الضعف بالطبع ناتج بشكل أساسي من حكم الأنظمة المتسلطة والدكتاتورية لعقود والتي همشت الطبقة الوسطى والقوى الوطنية الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني وقوانينه. وهذه حالة لا ينفرد فيها العراق فتكاد تكون حالة عامة في كل البلدان العربية مع فارق بهذا القدر أو ذاك في الدرجة فيما بينها. لأن الاستبداد وغياب الحياة المدنية ينتج حالة من الفراغ الذي تملأه الأفكار الدينية المتطرفة. وكما يقول مونتسكيو في كتابه روح الشرائع "الاستبداد مكتف بذاته، وكل ما حوله محض فراغ. وعندما يصف لنا المسافرون بلداناً يهيمن عليها الاستبداد، فإنهم بالكاد يتحدثون عن القوانين المدنية" ويقول"البشر متساوون في الحكومة الجمهورية؛ وهم متساوون لدى الحكومات المستبدة; في الأولى لأنهم كل شيء، وفي الثانية لأنهم لا شيء." ويعرف عبد الرحمن الكواكبي الاستبداد " بأنه هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم". وبهذا الصدد يذكر الدكتور عامر حسن فياض بأن ضعف الطبقة الوسطى في العراق يجعل مقومات وجود واستمرار البناء الديمقراطي ضعيفة وهو ما يضع أمام استيطان الديمقراطية الليبرالية في البلاد شرطين هما (الوعي) الذي يضطلع به المثقفون وشرط الحكم ومؤسساته الديمقراطية المصاغة وفق الصيغة الدستورية البرلمانية. لذلك في تقديرنا إن تنمية الشرط الأول نحتاج لها اليوم لكي تكون رافدا هاما للمحاولات الجارية لبناء تيار ديمقراطي في العراق.

ومن جانب آخر فإن وجود تيار ديمقراطي فاعل سياسيا واجتماعيا وثقافيا يقود إلى مساهمة الثقافة الحزبية ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين الديمقراطيين من باحثين وأكاديميين وكتاب وصحفيين في إنتاج وتعميم ثقافة ديمقراطية وحقوقية ومدنية في أوساط شرائح واسعة من المتعلمين. وهذا يوفر شرطا ذاتيا لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي المتعثرة.
لا يمكن بناء نظام ديمقراطي عبر إنجاز المشروع الوطني الديمقراطي إلا من خلال دولة علمانية. وبهذا الصدد يذكر المفكر سمير أمين بأن الديمقراطية تتطلب انعتاق المجتمع من هيمنة الإيديولوجية الميتافيزيقية. لذلك تمثل الدولة الدينية معرقلا أساسيا للبناء الديمقراطي. وتجربة الثورة الإيرانية التي ساهمت بها قطاعات واسعة من الجماهير ومن منحدرات طبقية وسياسية وفكرية مختلفة خير دليل على ذلك حيث انتهت إلى دولة دينية متسلطة احتكرت السلطة السياسية وأمسكت بكل مفاصل المجتمع وحرمت التعددية السياسية وبالتالي لم تسمح بالتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية. ولا يحدثنا الفكر السياسي بأن هناك تجربة ديمقراطية في العالم نجحت بدون أن يكون للقوى الديمقراطية دورا أساسيا في صيرورتها وتطورها. لذلك المطلوب أصلاح دستوري يرفع الصبغة الدينية عن الدستور العراقي.
كان روبرت دال من أهم دارسي الديمقراطية المعاصرة في الغرب قد أعاد تعريفها بأنها نظام حكم الأكثرية. والأكثرية هنا يجب أن لا نفهما بغير الأكثرية السياسية وليس الأكثرية الطائفية أو القومية. هذا الفهم الأخير الذي بات سائدا في الساحة السياسية العراقية ويخفي من وراءه بالطبع مصالح طبقية وحزبية وفئوية وشخصية ضيقة. ويرى دال أن النظام الديمقراطي يتميز بخاصيتين أولهما أتساع حقوق المواطنة لتشمل كافة المكونات السكانية وثانيهما يتضمن حق المواطن في تنحية أعلى مسؤول في الدولة من منصبه من خلال عملية التصويت في الانتخابات. ومما لا جدال فيه أن رفض مبدأ المواطنة وإنكار حق المساواة السياسية من قبل أغلبية دينية أو مذهبية أو عرقية يقود إلى الإخلال بأحد المستلزمات الأساسية للبناء الديمقراطي.
لذلك فإن المحاولات الجارية لتوحيد صفوف التيار الديمقراطي بشتى مشاربه ومرجعياته السياسية والفكرية وجعله تيارا سياسيا واجتماعيا واسعا والتي قطعت أشواطا متقدمة من خلال عقد المؤتمرات الـتأسيسية لهذا التيار على مستوى المحافظات والخارج تعد خطوة بالغة الأهمية في هذا الـتأسيس والمطلوب من كل الأحزاب والقوى والشخصيات الديمقراطية أن تدرك المسؤوليات الملقاة على عاتقها وأن تبذل أقصى جهودها لنجاح هذا المشروع لأن فشله يعني أن الساحة السياسية العراقية ستظل مصبوغة بالطائفية السياسية والتي ليس لها علاقة بالتنوع الطائفي والمذهبي والتي تختزن خطر انهيار التجربة الديمقراطية برمتها. و تقود إلى المزيد من تفتت وحدة المجتمع العراقي وترسيخ نشوء نظام هش مشوه لا يمكن أن يرتقي بأي حال من الأحوال إلى مرتبة الأنظمة الديمقراطية حتى الوليدة منها.
أخيرا إن بناء الدولة الديمقراطية في العراق لابد أن يعكس بقدر معين سمات البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية للمجتمع وتكون له خصوصية بقدر معين تتناغم مع هذه البنية والتي يعاد تشكيلها كلما تعمقت المسيرة الديمقراطية من خلال أتساع نفوذ وفكر القوى الديمقراطية في المجتمع والدولة.