أيام الثورة الفرنسية 1848-1849( الحلقة الثانية)


ابراهيم حجازين
2011 / 3 / 13 - 18:04     

ثورة فبراير في فرنسا-- في المقالة السابقة اطلعنا على أوضاع الدول الأوروبية وخاصة في فرنسا، وتلمسنا الظروف المعيشية السيئة التي عانت منها الجماهير الكادحة مما كان ينبئ بتحول ثوري في بلدان أوروبا وفي البداية فرنسا، وفي هذا المقال نتابع أيان الثورة الفرنسية. فخلال صيف عام 1847 اكتسبت التناقضات الاجتماعية طابعا حادا. أوساط المعارضة البرجوازية بدأت حملات جماهيرية بشكل الدعوة لمآدب وكانت مطالب هذه الحملات إصلاح انتخابي وديمقراطي. حملة المآدب هذه كان يقودها شخصيات من الليبراليين المعتدلين والمسماة معارضة السلالات.
كانت أوضاع فرنسا في ذلك الحين تدعو للرثاء نتيجة هيمنة الارستقراطية المالية الطفيلية على مقدرات الدولة. الأرستقراطية المالية كانت تسن القوانين مستغلة برلمان صوري تتمثل فيه نفسها، وتصرف شؤون الدولة، وتتصرف بكل جهاز سلطة الدولة المنظم، وتؤسس شركات وهمية لمزيد من الاحتيال وبالنظر لمثل هذا الوضع، ولأنها تسيطر على وسائل الإعلام كانت تقبض بيدها على الرأي العام وأبقته مستلبا دون إرادة لكن إلى حين، لذا ففي جميع المجالات، ابتداء من البلاط الملكي وانتهاء بأوكار الدرجة السفلي، كان يسود الفساد نفسه، والكذب الوقح نفسه، والولع نفسه بالإثراء، لا عن طريق الإنتاج، بل عن طريق اختلاس ثروة الأخرين المتوفرة وسرقتها بحذاقة وشطارة. وفي الأوساط العليا من المجتمع البرجوازي على الأخص، كانت تتبدى مطامع جامحة، غير سليمة، فاسدة، تصطدم لدى كل خطوة حتى بالقوانين التي وضعتها نفس الأوساط، وتفتش فيها عن الثروة المكتسبة بالمقاربة لنفسها أو تلتف عليها أو تغيرها تبعا لمصالحها ، وتبحث عن ترضية تصبح فيها المتعة خلاعة ويتلاقح فيها الذهب والقذارة والدم معا. إن الأرستقراطية المالية ليست، من حيث أسلوب إثرائها وحياتها، ومن حيث متعها، غير انبعاث لحثالة البروليتاريا وأساليبها في الأوساط العليا من المجتمع البرجوازي الذي يظهر في غاية الأدب واللياقة والهندام الأنيق وهذا كله من .
كانت البرجوازية الصناعية قد رأت خطرا على مصالحها نتيجة هذه الهيمنة، وكانت البرجوازية الصغيرة مفعمة بالغضب الأخلاقي، وكان خيال الشعب مستاء. وباريس كانت غارقة في أهاجي من نوع: "سلالة روتشيلد"، "المرابون – ملوك زماننا"، إلى أخره. وكانت تفضح وتدمغ بالخزي والعار، بقدر متفاوت من الفكاهة والطرافة، سيادة الأرستقراطية المالية.
وفي خضم العمل والحراك السياسي ضد الحكومة تحدد في يوم 22 فبراير 1848 موعدا لمأدبة تتبعها مظاهرة شعبية. لكن غيزو رأس حكومة الملك لوي فيليب أوراليان وممثل سلطة الارستقراطية منعت المأدبة . هذا أجج غضب جماهير باريس، وخاصة العمال والحرفيين والطلاب الذي كانت معاناتهم قد وصلت بهم إلى رفض الاستمرار بالوضع القائم، وهكذا انطلقت التظاهرة بشعار ليحيا الإصلاح ولتسقط حكومة غيزو.
في 23 فبراير تجددت التظاهرات ضد الحكومة مما اضطر الملك أن ينحي رئيس الوزراء غيزو وأن يشكل حكومة جديدة من أنصار الإصلاح. لكن الوقت كان متأخرا على هذه الخطوة ولهذا في نفس اليوم توسعت الانتفاضة وشملت كل باريس وكان على رأس الانتفاضة ممثلين أعضاء من مختلف الاتجاهات السياسية المعارضة من الجمهوريين والاشتراكين وصحفيين راديكاليين. وكانت ثورة فبراير. كان الشعار الجديد إسقاط نظام الحكم.
في يوم 24 احتل المنتفضون كل المواقع الإستراتيجية للعاصمة وحاصروا قصر لوي اوراليان ملك فرنسا ومجلس النواب، فهرب لوي فليب إلى انجلترا . وبفراغ السلطة وتحت ضغط الجماهير تشكلت حكومة مؤقتة بالرغم من تردد ممثلي البرجوازية.
اتفقت الاتجاهات الرئيسة التي شاركت في الثورة الجمهوريون البرجوازيون والديمقراطيون ممثلو الطبقات الوسطى والصغرى والاشتراكيون على تشكيل الحكومة التي ضمت سبعة ممثلين للجمهوريين اليمينيين واثنين من اليسار الجمهوري واثنين من الاشتراكيين هما لوي بلان والعامل ألبرت كما عرف هذا في أوساط عمال باريس والحركة الثورية الفرنسية. قيم كارل ماركس الحكومة مشيرا أنها مساومة بين الطبقات المختلفة التي أسقطت الملكية من أسرة أوراليان بعمل مشترك، لكن كانت مصالح الطبقات التي يمثلها هؤلاء الوزراء متناقضة. كانت المواقع القيادية والسيادية في الحكومة قد احتلها اليمين الجمهوري. ومن هنا تباطأت الحكومة في إعلان الجمهورية بالرغم من مطالب جماهير باريس. لكن بعد أن توجه رسباي عضو جمعية أصدقاء الشعب على رأس وفد عمالي إلى مجلس النواب وهدد انه سيعود مع 200000 متظاهر أعلن المجلس النيابي فرنسا جمهورية وكانت هذه هي الجمهورية الفرنسية الثانية في تاريخ فرنسا.
منذ الأيام الأولى للثورة دخل عمال باريس في صراع مع الحكومة الجديدة حول مسائل عديدة منها لون علم الجمهورية وحول مرسوم العمل كذلك حول لجنة القضايا العمالية، وبعد مفاوضات طويلة وباقتراح من لوي بلان وتحت ضغط الشارع، أصدرت الحكومة المراسيم التالية: مرسوم ضمان حق العمل لكل المواطنين ومرسوم تشكيل لجنة القضايا العمالية برئاسة لوي بلان نفسه وألبرت العامل. هذه اللجنة عقدت اجتماعاتها في قصر اللوكسمبورغ ولكنها لم تلقى دعم الحكومة ولم تحوز حتى على أية سلطات لتنفيذ قراراتها، لقد استخدمت الحكومة هذه اللجنة لتنمية أوهام الجماهير الشعبية بينما كانت تكسب الوقت لتقوي من مواقعها في السلطة، وانتقل ممثلو العمال عن مواقع السلطة المقررة إلى لجان الثرثرة التي لا تطعم ولا تغني من جوع جماهير فرنسا الكادحة لسلطة تمثلها كما أملوا عند اندلاع الانتفاضة كما غابوا عن الشارع مكتفين بأوهام اللجنة وترف النقاش فيها كما قيم كارل ماركس عمل اللجنة. ومع هذا الوضع استطاع العمال أن يحققوا مكسبا هاما حيث جرى تقليص يوم العمل إلى 10 ساعات في باريس و11 ساعة في الريف.
أصدرت الحكومة المؤقتة عدة قوانين تكرس حرية الرأي والاجتماع والتنظيم كما أقرت قانون الاقتراع العام الذي نص على حق كل رجل فوق 21 عاما أن يصوت كما ألغت العبودية في المستعمرات وهنا اكتفت البرجوازية بالذي تحقق من مطالبها، وانتشرت على إثر ذلك الأندية الجمهورية وظهرت صحف ديمقراطية جديدة كتعبير عن المرحلة الجديدة التي دخلتها فرنسا.
حلت الحكومة غرفتي البرلمان كخطوة لإجراء انتخابات جديدة كما ألغت الألقاب الإقطاعية وضيقت الأبواب امام الدخول في الحرس الوطني وأبعدت أخطر الموظفين والقضاة. لكنها توقفت أمام الجهاز البوليسي والعسكري وأبقت على مواقع القادة فيهم وكان الجهازان تحت سيطرة الضباط الملكيين.
ولحل مشكلة البطالة ولكسب العمال إلى جانب الحكومة نظمت منذ أوائل مارس 1848 مشاغل وطنية على أسس عسكرية في باريس وبعض المدن الأخرى وخلال شهرين ضمت هذه المشاغل حوالي 113 ألف شخص عملوا في الطرق وحفر القنوات وزرع الأشجار إلى أخره أي دون عمل حقيقي منتج بل كان الهدف كسب وتنظيم العاطلين عن العمل ليكونوا تحت إمرة الحكومة وخارج أي النشاط الجماهيري قد تقوم به الطبقات الأدنى وخاصة العمال.
تحت ضغط القوى اليمينية جرى تشكيل جهاز الحرس المتحرك مشكل من 24 شخص اكثرهم عناصر غير واعية سياسيا ومن المهمشين الذين قدمت لهم امتيازات جعلت منهم مخلصين للحكومة اليمينية، أما قادة الحرس المتحرك فكانوا من الضباط الرجعيين المعاديين لحراك الجماهير الشعبية، وهكذا شكلت الحكومة اليمينية قوتها الضاربة التي ستواجه بها الكادحين. وهكذا كانت حكومة اليمين الفرنسي تعد العدة للتراجع عن ما تحقق بعد ثورة فبراير وتستعد للمعركة القادمة مع الجماهير.
كانت السياسة المالية للحكومة المؤقتة تصب في مصلحة الارستقراطية المالية الكبيرة والتي شكلت القاعدة الاجتماعية لنظام الملك لوي فيليب أوراليان. فلمنع إفلاس بنك فرنسا قررت الحكومة جعل كل بنوك المقاطعات فروع لبنك فرنسا واعتمدت توجه جديد للنقد, وأضافت إلى الضرائب القديمة اخرى جديدة رزحت على ظهر الشعب وطبقاته وفئاته الفقيرة. دعمت البرجوازية الكبرى ورجال الدين والارستقراطية وأنصار الملكية بفروعها الثلاث آل بوربون وآل اوراليان والبونابرتيين سياسات الحكومة، بالمقابل كسبت عداء الطبقة العاملة والفلاحين والبرجوازيين الصغار.
كان لثورة فبراير صدى واسع وعميق في الدول الأوروبية فالشعوب المقهورة في بولونيا وتشيكيا وإيطاليا وأيرلندا رأت في ثورة فرنسا الأمل لانتزاع حريتهم، لكن الحكومة المؤقتة خيبت الآمال عندما عملت على إقامة علاقات الصداقة مع الدول الأكثر رجعية مثل بروسيا والنمسا وانجلترا، وساعدت السياسة الفرنسية بهذا على قيام العاهل النمساوي بالقضاء على الاحتجاجات الثورية التي انطلقت في إيطاليا.
نلاحظ أن الطبقات العليا بعد تحقيقها لمطلبها المباشر تبدأ بالانتقال إلى جانب الطبقات القديمة خوفا ورعبا من حراك الجماهير وتقوم بالإعداد للثورة المضادة والانقضاض على حلفاء الأمس وتتحالف مع أكثر الطبقات رجعية من خصوم الأمس. في الثورة الفرنسية رأينا اليمين الجمهوري يتحالف مع أعداء الأمس مع الارستقراطية المالية المحتالة التي امتصت دماء الفرنسيين وأدخلتهم في أزمة وجود وكرامة وشكلت قمة نظام لوي فيليب الفاسد. ونتعلم درس مفاده ضرورة أن تستعد الجماهير لاستكمال الثورة لحمايتها وحماية نفسها ما أن تتحقق أول مطالبها لآن الثورة المضادة تطل برأسها وتستخدم أبشع السياسات لتحقيق أهدافها بما فيها القتل والاغتيال والتعذيب والتدليس والاحتيال.