العلمانية أولاً..


سمير دياب
2011 / 3 / 11 - 07:46     

كانت "الطائفية" أيام الصيغة عرفاً، ثم تحولت مع الطائف دستوراً. بعدها، جاء اتفاق "الدوحة" ليضيف لمساته المذهبية، بإقرار أطرافه قانون الستين الإنتخابي، الذي أنتج مجلساً نيابياً بأصوات تكاد تكون صافية طائفياً ومذهبياً، وفقا لتقسيمات القانون، المخالف نصاً وروحاً لدستور الطائف، ولمقولة أن عضو المجلس يمثل الأمة جمعاء. فكيف له ذلك، عجباً!!
تنعف الطائفية في أعماق الدولة ومؤسساتها نعفاً، وتتغلغل في داخل حياتنا، وتعبث بمستقبلنا ومصير شبابنا، وتقتحم دون إستئذان كل شريان من شرايين مجتمعنا الذي بات مكبلاً بالمطلق لمعادلات الطبقة السياسية المسيطرة، بغير إرادته وقناعاته. وبتنا أسرى نقاشات الفكر اليومي، وسياسة الأحداث الظرفية، وكدنا أن نستسلم لواقع طائفي طال أمده، ولنظام سياسي أشهر إفلاسه في قدرته على قيام دولة، التي اصبحت كحلم مستحيل التحقق في كنف رعايتها لطوائفها على حساب ولو" طائفها".
إتـُهمنا، كحزب شيوعي بخشبية الخطاب، وبالتخلف عن مواكبة طرفي النزاع الآذاري السلطوي، وكثرت الانتقادات علينا من كل حدب وصوب لأننا خارج الصورة والمشهد وصناعة الحدث.وإذا كان النقد البناء يفيدنا ويصوب عملنا، ويعطينا قوة دفع وثبات وعزيمة نضالية، إلا أن النقد الهدام منه فإننا نحيل الإجابة عليه للوقائع الراهنة لتبرهن صحة وضرورة طرح المشروع الوطني الديمقراطي العلماني المقاوم، والتمسك به، والاصرار على طرحه، والعمل من اجله، كونه لا يخدم طرفاً، أو فئة، أو طائفة، أو حزبا. بل يخدم لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات، ويخدم دوره ووظيفته وموقعه في الصراع ضد المشروع الإمبريالي الأميركي، وضد العدو الصهيوني، وضد كل مشاريع التفتيت والتقسيم والتطييف والالتحاق والارتهان والتبعية.
فالأزمة اللبنانية غارقة في وحول مستنقعات أهل النظام، وكلما اشتدت يشتد أزرالعصبيات الطائفية والمذهبية بشكل متوازي معها، ويتم تفريق الكتلة الشعبية الى فرق متناثرة ومتنابذة، ويجري تحويلها الى قوائم وأرقام طائفية ومذهبية، لأغراض سياسية فئوية ضيقة، بعيداً عن قضاياها وهمومها ومشاكلها الحياتية، وهي الكتلة الفقيرة" المفلسة" التي بالكاد تؤمن خبزها اليومي الناشف، مثل مشهد الإفلاس السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأرباب النظام، الذي نعيشه يومياً، على شاشات التلفزة، وفي الخطابات والتحديات والتهديدات المتبادلة، كأنها حلبة صراع حتى الموت. المتصارعون عليها، هم الطبقة السياسية الفاعلة ذاتها، أما الضحايا فهم الطبقة العاملة المفعول بها ذاتها. هم الشعب، ومنهم الشباب تحديداً. في حالتي السلم والحرب، وفي فترات المد والجزر بين اطراف السلطة. فالنتيجة واحدة هي المزيد من الفقر والبطالة والتهميش للشعب. مقابل المزيد من الهدر والفساد والمحسوبيات للطبقة السياسية – الطائفية، التي استولت بأحزابها ومؤسساتها وتسوياتها على حقوق المواطن، بإسم حقوق الطوائف. ثم عمدت الىتحاصصها بداعي حمايتها، مغلقة جميع المنافذ المؤدية الى طريق الإصلاح والتغيير الديمقراطي.
المشهد اللبناني راهناً، في أعلى سلم الإصطفاف الطائفي والمذهبي، بحيث بات من الصعب التعرف إلى اللبناني خارج هذا الإطار. بعد أن إتفقت البرجوازية اللبنانية على أن تشكل "الطائفية" قاعدة لعلاقة الفرد بالدولة. لكن هشاشة " الصيغة" وتناقضاتها، جعلها ولاّدة أزمات أفقية وعمودية، ترجمت بصراعات دورية، كانت البرجوازية تلبسها ثوباً طائفياً أو مذهبياً لطمس جوهر الصراع الطبقي، ولو بتدخل خارجي ،لإعادة إنتاج صيغة طائفية جديدة مع إختلاف كمية الحصة لهذا الطرف الطائفي أو ذاك، ومع لازمة لا غالب ولا مغلوب.
ومع كل تسوية، كانت مظاهر الدولة تتراجع لمصلحة تقدم مظاهر دويلات الطوائف، على حساب الانتماء والهوية والوحدة والثقافة الوطنية، ومن " كيس" العمال والكادحين والمزارعين والشباب والنساء والمعلمين والموظفين والحرفيين الذين تحولوا من رعايا للدولة الوطنية الى رهائن في فيدرالية الطوائف .

لقد أثبتت التجارب الملموسة، أن النظام السياسي- الطائفي لم يكن، ولن يكون نظاماً للمستقبل. وآخر تجربة نعيش فصولها " لايف" عُقـَد تشكيل حكومة الميقاتي، شكلها، عددها، وحصة كل طرف فيها.. في الوقت الذي، تـَحقق فيه خطوة سياسية مهمة بإسقاط حكومة الحريري، والمفترض أن يتقدم صُناعها بخطوات سريعة ومدروسة، كسباً للوقت، وتوظيفاً له، لتأسيس قاعدة إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية ديمقراطية من شأنها تحصين عوامل الوحدة والبناء الوطنيين، في مواجهة إحتمالات الحرب الأميركية – الإسرائيلية المباشرة علينا، أو غير المباشرة عبر الفتنة الداخلية، تحت شعار 1559 أولا، أو المحكمة أولا، أوالسلاح أولا، ..الخ. وهذه الخطوات ما زالت ضائعة بين ضفتي أهل السلطة، موالاة ومعارضة، وبين تبدل أدوارهما، حتى أصابنا
" الحول" بدون التكحل "بالحُسن" المرجو من الاكثرية المستحدثة.
وإذا كنا ندرك صعوبات وتعقيدات المرحلة، ونتفهم النوايا الإصلاحية لدى بعض الاطراف السياسية ضمن الاكثرية الحالية، إلا أنها ليست كافية لتبديد مخاوفنا من تسوية جديدة ما، في حال لم تترجم هذه النوايا الى أفعال ذات صلة بالمشروع الوطني الديمقراطي، وفي مقدمتها "العلمانية" التي تشكل مفتاح عملية إلإصلاح، وقاعدة لبناء مواطنة متساوية في الحقوق. والعلمانية ليست موضوعاً طارئاً على جدول الأعمال، بل هي مهمة وطنية منذ خمسينيات القرن الماضي هدفها نقل المواطن الى فضاء دولة المواطنة.
لقد تعرض مفهوم العلمانية لحملة تشويه سياسية وأيديولوجية ودينية مركزة وحادة، هي جزء من عدة شغل النظام السياسي –الطائفي، وتم قذف أنصارها بما لذ وطاب من الهجوم والتحريض والتعبئة ضدهم، وإتهامهم بالكفر والالحاد، وبكل أشكال العمالة للغرب الفاسق الفاجر.. لكن العلمانية، أمس واليوم وغداً، هي حصيلة مسار تقدم البشرية في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية ضد الموروثات والغيبيات. وقاعدتها الحرية والعدالة والمساواة للجميع، واتصالها عضوي بالديمقراطية. حيث يستحيل تحقق العلمانية خارج إطار نظام وطني ديمقراطي.

وفي هذا المجال، يشكّل فصل الدين عن الدولة، حلقة مركزية في تحقيق العلمانية، وهي الحلقة ذاتها التي تناولتها البرجوازية لمحاربة أنصار العلمانية، رغم يقينها بأن العلمانية لا تمس الدين، بل تهدف الى إقامة دولة المواطنة والقانون والمؤسسات. دولة الحرية والديمقراطية والعدالة يتحقق فيها الفرز بين العام والخاص.
ونموذج نظامنا السياسي، فريد في قلب أدوار العام والخاص. بحيث أحال الخاص- الطائفي، دور العام – الدولة، الى التقاعد. وأصبح الخاص هو العام، في تطبيق الدستور والممارسة. نجمت عن هذه الفرادة تعًطل وظائف الدولة الوطنية الديمقراطية بحكم السيادة الطائفية الخاصة، التي منعت قيام الدولة وتوفير فرص نجاحها. لذلك، فإن العلمانية، والقانون المدني الموحد للأحوال الشخصية، والقانون الإنتخابي النسبي، تشكل حجرالزاوية في إسقاط النظام السياسي – الطائفي. وهي المضاد الحيوي لمقاومة إلتهابات أمراض الطائفية التي أبقت أبوابنا مشرعة أمام لعبة الأمم المضادة لوحدتنا وديمقراطيتنا وعروبتنا واستقلاليتنا، ولصمود شعبنا وإنتصارات مقاومته التاريخية التي تغنى بها كل أحرار العالم.
كفى طائفية، ولنبدأ بتغيير نظامنا، بتكريس العلمانية أولاً. وإلا فإن أحفاد العلمانية- شباب لبنان- لكم بالمرصاد، وفي الميدان.