تأملات: غضب عادل أضاء نصب الحرية !


رضا الظاهر
2011 / 3 / 7 - 18:40     


فضحت بغداد أضاليل وأوهام المرتعبين من صوت آخر مختلف، مهدد لامتيازاتهم. فقد أثبتت تظاهرات جمعة الكرامة، السلمية والمتحضرة، التي شارك فيها مختلف الناس، وخصوصاً الشباب والمثقفون، والتي طرحت مطالب شعبية عادلة، أنها ليست، كما صرح مسؤولون كبار، أداة بيد البعث أو الارهابيين أو الانقلابيين.
ولم يثن حظر التجوال المفاجيء، وحصار ساحة التحرير، ونصب الحواجز الكونكريتية، ومنع قوات الأمن الناس من الوصول اليها، واتباع مختلف الأساليب التضليلية والقمعية لحرمانهم من التعبير عن آرائهم عبر التظاهر الذي كفله الدستور، لم يثن الآلاف عن المشاركة في الاحتجاج الذي أنهاه العسكر قسراً.
وكان "المطعم التركي" في الطابق الثامن من البناية المهجورة المطلة على ساحة التحرير كاشفاً لـ "غرفة العمليات" التي ساهم في إدارتها مسؤولون كبار برلمانيون وعسكر وآخرون يشرفون على المحتجين "الفقراء الى ربهم"، وعلى نحو يفضح خشية "المشرفين" من ممارسات الناس المشروعة وتعاليهم عليها، حتى على الضد من توجيهات رئيس الوزراء الذي دعا المسؤولين الى النزول الى الشارع والتواصل مع المتظاهرين، لا اللجوء الى ممارسات "الطوابق العليا".
ولم تقتصر مظاهر القمع على بغداد حسب، ذلك أن السلطات مارست أشكالاً "بارعة" من العسف في سائر أرجاء البلاد، بينها اعتداء على صحفيين كما حدث في البصرة مثلا، وسوى ذلك الكثير مما بات مفضوحاً.
ومن الطبيعي أن سبب كل هذا يعود، من بين أمور أخرى، الى هلع السلطة من الرأي الآخر الحر، واحتجاج الناس على الفساد، ومطالبتهم المشروعة بانهاء المعاناة وحل الأزمات المستعصية.
ومما يلفت الانتباه أن هذه الممارسات ترافقت مع تصريحات مضلِّلة من جانب مسؤولين يضمرون في دخيلتهم موقفاً مناقضاً لما يلفظون. وهم يضغطون على أنفسهم ويتحدثون بلهجة تجهد في أن تكون "هادئة" و"قوية الموقف" بطريقة تمثيلية يعرفها القاصي والداني. وهذا ليس غريباً في ظل أجواء غياب المصداقية، وسعي المتنفذين للحفاظ على امتيازاتهم بأي ثمن، وليذهب "الآخرون" من ملايين المحرومين الى الجحيم.
يحق لمحللين أن لا يستغربوا من ألاعيب الساعين الى إنهاء الاحتجاجات العادلة، فهذه بعض من ترسانة قديمة لأنظمة استبدادية وقد باتت مفضوحة. أفلا ينظرون الى العقيد الليبي المعتوه الذي ينفي، وأبناؤه الفاسدون، حتى مجرد وجود احتجاجات، ذلك أن الشعب الليبي بأسره يحب "القائد" !؟
ويحق لهم أن يتساءلوا: ما ضرَّ حكومة المحاصصات لو أنها تركت الشباب المسالمين المتحضرين يعبرون عن آرائهم المطالبة بالاصلاح في سياق دعم العملية السياسية، لتثبت أنها، في الأقل، حكومة لا تخاصم السلم والتحضر، ولا تلجأ الى القمع السافر خشية من الحق والعدالة ؟
ما ضرها لو أنها تخلت عن خنادقها، ولم تلجأ الى الرصاص حيث خرّ أبرياء صرعى، والى الهراوات حيث الاعتداء على مبدعي فكر وفن، والى اعتقال وتعذيب وأشكال ترهيب مختلفة أخرى ؟
ولماذا لم تشعر حكومة "الشراكة الوطنية" في بلد "ديمقراطي" بالحرج من اتباع ما يذكّر بالأساليب القمعية لمهندس المقابر الجماعية وسواه من الطغاة الذين شهدت الأسابيع الماضية الاطاحة بعروشهم، وماتزال عروش تنتظر مصيرها لتتهاوى أمام إرادة الغاضبين المطالبين بحق مشروع عادل ؟
بوسع المرء أن يرتاب في أن متنفذين يمكنهم أن يسمعوا نداءات المحرومين، حتى وإن كانوا يراقبون الشاشات أو تنقل اليهم كاميراتهم الهتافات من الأعالي في ساحة التحرير، ذلك أنهم، على ما يبدو، محصّنون ضد الاصغاء الى صوت الحق، ببساطة لأن مثل هذا الاصغاء سيؤدي الى ضياع امتيازاتهم.
غير أن هذه هي "الديمقراطية" الجديدة التي سعى "محررون" الى تسويقها كنموذج لشرق أوسط جديد. ومن بين عناصرها التي بدأت تتبلور، مؤخراً، بوضوح، حصار محتجين وقتل أبرياء واعتداء على مفكرين وإسكات لأصوات الناس، وصراع مقيت على المغانم في إطار بلية المحاصصات، وغياب لحياة آمنة وخدمات أساسية، واستشراء لفساد وبطالة، وأزمات متفاقمة، وسوى ذلك الكثير من المآسي.
ومما يثير السخط أن الحكام لم يكلفوا أنفسهم الاعتذار عما ارتكبته أجهزة أمنهم من انتهاكات صارخة. ولم يصرحوا بما يكشف عن توجههم لاجراء تحقيق جدي بما ارتكب ضد المحتجين من قتل واعتقال وتخويف واعتداء وحصار، وإنزال العقاب العادل بالجناة. على أن قضية تشكيل لجان تحقيق لم تعد سوى مسخرة من مساخر "الديمقراطية" وفصل جديد من فصول التسويف والتضليل وطمس الحقائق والضحك على الذقون.
* * *
في البلاد المبتلية بالمصائب ثقافتان تتصارعان .. سائدة للمهيمنين الساعين الى فرض الخنوع، وناهضة للمحرومين الساعين الى رفض الخنوع. ولن يتوقف هذا الصراع على مسار التطور ووجهته. وما احتجاجات ساحة التحرير وساحات البلاد الأخرى سوى تجلٍ لهذا الصراع الذي يضع المكافحين الحقيقيين أمام تحدٍ يفضي بهم خوضه الى ضفاف الحرية ..
وسيعلم من يريدون إسكات أصوات المتظاهرين المطالبين بالحق والعدالة أنهم سيدفعون ثمنا غالياً جراء مآربهم وإيغالهم في أوهامهم.
بغداد أضاءت، بغضب الشباب المحتجين، ملاذ التطلع الى وطن الناس عند نصب الحرية ..
و... "الما يزور التحرير عمره خسارة" !