في الانتفاضات العربية وأمريكا


محمود جلبوط
2011 / 3 / 6 - 22:09     

قبيل انطلاق الانتفاضة التونسية المجيدة حذّرت وزيرة خارجية أمريكا هيلاري كلنتون حلفائها العرب بأن أعمدة أنظمتهم "مبنية فوق كثبان من الرمال المتحركة وأنها معرّضة للغرق فيها" وقد أصابت كلنتون باستقرائها , فما كادت تنهي تحذيرها حتى انطلقت لعبة الدومينو , سقط حتى الآن نظامان وثالثهما قاب قوسين وربما يليه رابع بعد قليل إلى أن يأتي دور الآخرين .
إن ما أخفته السيدة كلنتون من الشق الثاني من قلقها هو ما أظهرته الانتفاضات العربية المتتابعة من عزم لا ينثني لدكّ دعائم سياسة بلادها نفسها في المنطقة إن تابعت واصلت هذه الانتفاضات الجميلة إنجاز مهامها الثورية , لذلك نراها بعد أن استعادت زمام المبادرة استعدت بكل مكرها المعهود مستندة على قوة تفوقها العسكري الناجز تعود لتقود قوى الثورة المضادة في ليبيا ولبنان والبحرين .
دلالات كثيرة يمكن استدلالها من سرعة انتشار الانتفاضات العربية في فترة زمنية تعتبر قياسية ولكن أقربها بداهة للتفكير هو اشتراك الواقع العربي في جميع ساحات الدويلات العربية رغم بعض الفروقات الطفيفة هنا وهناك بكلّ دواعي الانتفاض , والبداهة الأخرى الجوهرية هي الروابط المشتركة بين الشعوب العربية في جميع أماكن تواجده التي تدفع بكل بساطة لكسر الحدود المصطنعة التي تفصل بينهم .
ويبدو أن الجيل العربي الشاب قد ضاق ذرعا بإرث هذه الأوضاع المزرية في ظل إرث استبداد وطني امتد عشرات السنين كان جزءا من دائرة استبداد خارجية أوسع يعيد إنتاجه دون انقطاع أدت إلى مضاعفة مشاعر الإحباط والمهانة لديه مما شكل دوافع مركزية للشباب للانتفاض على هذا الاستبداد البنيوي ذو التركيبة المعقدة متطلّعا للخلاص من مشاعر مكبوتة من مهانة مركبة فردية جمعية كان المسئول المباشر لتشكلها لديهم ذلك الشكل المعقد من الحكم المتخارج ليعيد إعمار منظومة "المواطنية" الكريمة ببعديها : في بعدها الفردي المسحوقة على يد استبداد محلي "وطني" وثيق الصلة باستبداد خارجي غالبا معادي قدّم له الاستبداد الوطني الوطن أو "المواطنية الجمعية" قربانا إيفاءا لخدمة بقائه في كرسي الحكم. وبقدر ما كان الاستبداد الوطني يمعن في سحق الكرامة الفردية كان الاستبداد الخارجي المعادي يتمادى في إذلاله له أكثر وفق علاقة جبرية . فإن لم تجد الشعوب العربية وسيلة للخلاص إلاّ بالانتفاض على حكامها الذين كانوا السبب الداخلي المباشر لمهانتهم الفردية سيكتشفون لاحقا أن لا مناص لإكمال عمارة الكرامة بهيكلها الجمعي الوطني الجديد إلاّ بوضع حدّ لتغوّل هذا الاستبداد الخارجي الممثل بالرأسمال الصهيوامبريالي بقطع دابر الحلقة الشيطانية لعلاقة التبعية من أجل إنجاز الحرية التامة والاستقلال الحقيقي .
إنّ المهانة المرّة التي استجلبتها الأنظمة العربية لشعوبها إلى جانب المظالم اليومية هي استدخال شعور الهزيمة الجارح إلى سلوك كل فرد في الأمة , ورهن أمن ومصير كلّية البنية العربية بمجملها بقضها وقضيضها إلى أمريكا و"إسرائيل" إن بالاحتلال المباشر أو بالقواعد العسكرية والاتفاقيات الثنائية أو برهن السياسة الخارجية والداخلية لمصالحهما .
تقضي الحكمة عدم إغفال عوامل أخرى آزرت هذين الشعورين على رأسها انسداد آفاق المستقبل أمام عامة الشباب التي تمثل الغالبية الشعبية في المجتمعات العربية وخصوصا لخريجي المعاهد والجامعات وانتشار البطالة بين صفوفهم , الفقر المدقع والتجويع أداّ إلى تراجع بل انهيار الفئات الاجتماعية الميسورة , لم يكن لشحّ في الموارد الوطنية أو الانفجار السكاني كما تدّعي السلطات العربية في البلاد الغير نفطية(هناك فقر وبطالة أيضا في أغنى الدويلات العربية) بقدر ما كانا نتيجة سياسات هذه الأنظمة التي اتبعتها على مدار حكمها : نهب مباشر بل تجريف للثروة ونهب جهد الشعب وقوته وأمواله , ثم تهريب كلّ ما نهبت إلى الخارج وإيداعه في بنوك المركز الامبريالي وكثيرا ما وصل بطرق عدة إلى الكيان الصهيوني سلاحا لقتل العربي ودعما لسياسته الاستيطانية في قضم الأراضي العربية .
أما بصدد هدر الكرامة الفردية فحدث ولا حرج فقد تبنى الاستبداد المحلي (الوطني)سياسة القمع اللارحيمة لسحق الحريات بكل تجلياتها : الفردية والسياسية والاجتماعية والقومية والثقافية والدينية لتختزل جميعها إلى حرية واحدة وحيدة : حرية نهب الشعب والأموال العامة والخاصة , حدث ذلك بإتباع سياسة تجريف التربة المجتمعية من أيّ نبتة لرأي مخالف , فتدهورت الأحوال النفسية "المواطنية" لتسود حالة اكتئاب شدّ من أزرها تدهور الأحوال المعاشية ومستوى التعليم والخدمات الصحية والصناعة والزراعة واكتفت السلطات بتشجيع قطاع وحيد متضخم هو قطاع لا إنتاجي خدماتي إن في السياحة أو التجارة في العقارات وغيرها والسمسرة للشركات الأجنبية.
لقد استعاضت الأنظمة ما جرّفته من التربة الاجتماعية من قيم وأخلاق بزرع خبيث وأكثرت منه : فساد بكل فروعه , مالي-أخلاقي-اجتماعي-قانوني , واحتقانات متعددة أشرنا إليها كثيرا طائفية-مذهبية-عشائرية-عائلية , ثم خيّرت المواطنين الرافضين لزرعها الخبيث بين القبول به ومبايعة السلطان والولاء له وتقبيل أياديه شكرا وإلاّ واجهوا تصفية كربلائية , وكربلاء كما هو معروف ممتدة الجذور في تاريخ السلطنات العربية قديما وحديثا , ولا يسقط احتمال عفو السلطان , ليكتفي بالإشارة إلى أجهزته الأمنية برميهم في بطون السجون والمعتقلات لفترات طويلة بلا أحكام يعانون بعد آلام التعذيب أمراضا جسدية ونفسية مزمنة , وربما تستغرق فترة اعتقالهم جلّ حياة المعتقل فيموت فيه أو يكاد, أو يموت السلطان(1) , وإن رقّ قلب السلطان وأفرج عنهم لأسباب صحية أو لإقلاعهم عن النشاط السياسي أو تحت ضغوط خارجية أو وساطية سيتعرضون دون جدل لمحاربة في لقمة عيشهم حتى يطهئوا فينتحروا أو سيختار المحظوظ فيهم منفاه الاختياري لأن المنفى الإجباري غير مدرج على لوائح السلطان .
لم تكتفِ هذه الأنظمة برهن الوطن وكرامات شعوبها لأمريكا و"إسرائيل" كرمى بقائها في الكرسي بل ساهمت معهم بتحطيم المارقين وشاقّي عصا طاعة "المعلّم" من بينهم (لا ترضى أمريكا إلا أن يؤدبوه جماعيا)كما حدث مع صدّام وعرفات كمثالين حاضرين , بل يساهموا في محاصرة وضرب أيّ مقاوم تسوّل له نفسه في مواجهة هذا الخارج المتجبّر , كما حصل وما هو حاصل في العراق وفلسطين ولبنان أيضا كأمثلة حاضرة وما خفي أعظم , بل ذهبوا معه إلى ما هو أبعد من تأديب العربي وشاركوا في تحطيم أفغانستان مرتين : مرة وهي شيوعية بحجة محاربة الكفر الشيوعي ومرة وهي إسلامية بحجة "إسلامها الإرهابي" , واليوم تجند كل إمكانياتها إن بقيت في السلطة لتشاركه في محاصرة إيران والإعداد للهجوم عليها وربما تشاركه اللحظة في الإعداد للهجوم على ليبيا لا ندري , بل هي شاركت في تمويل هذه الحروب بمساعدات عينية بالمال أو بإبرام عقود سلاح بالمليارات تساعده في حل أزمة بطالته.
النكتة أن بوش قرّر غزو العراق قد أعلن عن "أجندات للحرية" واكتفاها حجة بعد انكشاف نفاقه وكذبه بالحجج الأخرى(أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع تنظيم القاعدة) وعزم في حينه على نشر"الديمقراطية" وأقسم على أن يجعل من العراق بعد "تحريره" أمثولة لشعوب المنطقة(وقد صدق! بجعله فزاعة لكل مواطن عربي يفكّر في إسقاط دكتاتوره) مما سيشجع نزوعا لدى شعوب المنطقة العربية نحو "الحرية" وبناء "الديمقراطية" فيتحول العراق بقدرة أمريكا إلى "منارة" في "شرقها المتوسط الجديد" بعد أن أنارت"ديمقراطية إسرائيل" "الشرق المتوسط القديم" وبالتالي سيتدافع العرب لاستنساخها كاندفاع العديد من ببغاوات لبرالييهم في حينه , ولا غضاضة ذلك لأنها شلّة متصهينة , الطامة الكبرى كانت أن هذه الدعوة البوشية قد دغدغت أحلام "بعضٍ" قد قضى فترة طويلة من عمله السياسي يناضل في ظلّ برامج أحزاب يسارية وشيوعية ضد الاستعمار والامبريالية الأمريكية .
تحول العراق فعلا كما أراد بوش إلى أمثولة للذاكرة العربية ولكنها أمثولة لذاكرة مكويّة كلما استعادها العربي كفر بكل "الديمقراطيات" الغربية.
لم تصمد دعاوى أمريكا في دعم "الديمقراطيات" و"الانتخابات الحرة" طويلا وذلك من خلال مثالين ظاهرين للعيان:
أولا في تجربة المثال الفسطيني , بعيدا عن رأينا حول "الانتخابات الفلسطينية الحرة" , إلاّ أنّ الغرب الداعي والراعي لها لم يعترف بنتائجها ولم يكتف بهذا بل بذل كل مساعيه من بعدها لشق الفلسطينيين والدفع لاحترابهم وفرض عقوبات جماعية وحصار وحشي غير مسبوق في التاريخ البشري على أراضي الاحتلال الثاني في فلسطين مازال مستمرا إلى الآن وأطلق يد "إسرائيل" في الاستيطان والقتل المنظم لكوادر المقاومة عقابا للشعب على انتخابه حماس وامتناعه عن انتخاب قوى التطبيع والصهينة جماعة أوسلو .
ثانيا المثال اللبناني وحول تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة ميقاتي المدعوم من حزب الله والأكثرية النيابية الجديدة المتشكلة على أنقاض حكومة آل حريري-جميل-جعجع عبر"لعبة ديمقراطية" لم تخدش المقاييس الغربية التي تدعو أمريكا والغرب ليل نهار للحرص عليها لتنظيم العلاقة بين الفئات السياسية اللبنانية , اعتبرت أمريكا ما جرى "انقلابا" على "الشرعية" وراحت تحرض عليها لدى حلفائها لأن الشرعية في نظر أمريكا بكل بساطة تعني سلطة عملائها والمرتبطون بتنفيذ أجنداتها ولكن ما أسرع ما يفقد هؤلاء شرعيتهم لديها عندما يهتز سلطانهم لتسارع بنفضهم من يديها كما شهدت الأحداث الأخيرة عليها.
في مقابلة لغرام بنرمان أستاذ التاريخ الأمريكي ومحلل "الخطط للشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية" أجراها معه راديو الجمهورية المحلي قال أن الإدارة الأمريكية , إن في عهد أوباما أو في عهد سلفه بوش , "لا تأبه أبداًََ بما يدور من أحاديث عن التغيير في المنطقة العربية وحقوق الإنسان فيها" بل أوضح قائلا "أن نشر وحماية حرية الرأي في الشرق الأوسط هي ضدنا بشكل كامل" لأن الحكومات والأنظمة الجديدة التي ستتشكل على أنقاض الأنظمة المنهارة على يد الاحتجاجات الشعبية الأخيرة هي معادية لأمريكا ومصالحها وبالتأكيد ستكون أقل ودا حيالها , وهذا في الحقيقة سيشكل تحديا جديا ومشكلة كبيرة بالنسبة لنا".
منذ زيارة السادات للقدس قبل ما يقارب 34 عاما وتوقيعه اتفاقية العار في كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ترعى النظام العسكري الدكتاتوري الفاسد في مصر حتى سقوط مبارك , ليس لمحبة جمعتها مع السادات ولا لسواد عيون مبارك من بعده , بل لأن مصر مثلت له بعد انسحابها من دورها العربي والأفريقي المركزي بعد توقيعها الاتفاقية حجر الرحى لسياساتها في منطقة ما تسميه "الشرق الأوسط الكبير" الذي يحتوي على أكبر مخزون نفطي عالمي وقناة السويس وعقدة مواصلات عالمية وقريب من التخوم الأوربية , وتبنته ركنا أساسيا لحماية أمن كيانها الصهيوني المدلل ووظفته رأس حربة متقدمة للتطبيع معه هذا عربيا(قبل تسليم الراية لجماعة أوسلو) مقابل منحة سنوية سخيفة لا تتجاوز نصف ما تحققه مصر من بيع غازها الذي تمده لإسرائيل بربع قيمته العالمية كما بات معروفا , تصرف هذه المنحة على قذائف ورصاص وقنابل مسيلة للدموع وهراوات استعملتها قوات النظام الأمنية ضد المنتفضين مؤخرا وقد أظهر العديد ممن تعرضوا لها للأجهزة الإعلامية ما كتب عليها : صنع في الولايات المتحدة الأمريكية .
فوجئت الإدارة الأمريكية باندلاع الانتفاضات العربية وارتبكت خططها المعدة للمنطقة سلفا , في البداية حاولت وكالعادة دعمها لحلفائها عن طريق إدلاء وزيرة خارجيتها السيدة كلنتون بعد ثلاثة أيام من اندلاع الانتفاضة التونسية وقبل هروب الرئيس المخلوع إلى مآله الأخير في السعودية بتصريح عبرت فيه عن قلقها من "أحداث الشغب وعدم الاستقرار" في تونس وأشادت "بعلاقاتهم الإيجابية والجيدة" التي جمعتهم مدة طويلة مع الدكتاتور بن علي وأكّدت على موقف أمريكا "المحايد" اتجاه ما يجري محاولة استغباء جمهور المنتفضين الذي يعلم جيدا بأنها هي من ساندت ودربت وجهزت أجهزة النظام الأمنية مسبقا طوال فترة حكم بن علي بكل ما يلزم من وسائل القتل والقمع , ثم فجأة , وبعد انهيار بن علي وهروبه , اكتشف أوباما "شجاعة وكرامة الشعب التونسي" كما جاء في خطابه عن وضع حالة الاتحاد وعبر عن "تضامنه ووقوفه إلى جانب الشعب التونسي" في حين لم يحظى الشعب المصري الذي كان يتعرض في أثناء إلقاء أوباما لخطابه للاعتقال والقتل والدهس في شوارع القاهرة والمدن المصرية الأخرى على أيد أجهزة أمنية جهزت أيضا بعدة قمع أمريكية و"إسرائيلية" من هراوات وقنابل دخانية ورصاص مطاطي وحي بإطراء وكلمات ودية مماثلة , لم يقف النفاق الأمريكي عند هذا الحد فقد أكّد نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في اليوم التالي لخطاب رئيسه ذاك دعمه لرئيس النظام المصري المخلوع قائلا:"كان مبارك حليفا مهما في كثير من المسائل التي تهم أمريكا , وقد عبّر عن تعاون لا محدود في خدمة المصالح الأمريكية الجيوسياسية من خلال الالتزام بالتطبيع مع إسرائيل" مضيفا أنه "لا يحبّذ وصفه بالدكتاتور" ولا تنبغي استقالته , واقتصرت "التوصيات" الأمريكية للنظام المصري السابق على كلام أجوف عبر نصحه لإصلاح نظامه , كانت الولايات المتحدة في حينه تعيد حساباتها وتحاول استعادة المبادرة التي أفقدتها الانتفاضة التونسية والمصرية لكسب الوقت جاهدة كما عبرت عن ذلك صحيفة وول ستريت "لاستيعاب غضب واستياء شعوب المنطقة من سياسات أنظمة عميلة لها في المنطقة وتوجيه ثورة الغضب هذه إلى مسارب آمنة" فقد بادرت إلى إرسال مبعوثها جيفري فيلتمان إلى تونس في مناورة للالتفاف على الانتفاضة هناك والحفاظ على أركان النظام دون بن علي , وفي مصر عملت بحذر أكبر من خلف الستار فباركت توجه البرادعي إلى القاهرة وحرصت وزيرة الخارجية إلى إرسال بعض "أولادها" على وجه السرعة للمرابطة إلى جانب المعتصمين في ميدان التحرير عساها تستطيع حلاّ تفاوضيا مع مبارك الذي واجه محاولاتها بعناد شديد قبل أن ينصاع أخيرا ويسلم سلطاته إلى المؤسسة العسكرية.
لا تعدم المحاولات الأمريكية حيلة للالتفاف على ما يجري في المنطقة , وليس ذي أهمية ارتباكها الذي أبدته في بداية الأحداث مادامت قد استطاعت استعادة زمام المبادرة فما زالت الانتفاضات العربية في كل الأحوال حديثة العهد وغضة العود , وهاهي أمريكا تباشر مع حلفائها قيادة الثورة المضادة ومن سوء حظ الانتفاضة الليبية العاثر أن هذا يجري بالتزامن مع انطلاقتها , إن أمريكا تحضر الساحة الليبية لتكون أرض لتحضير المعارك المضادة ليس لهدف إجهاض الانتفاضة الليبية وحسب بل محاولة الانقضاض على مكاسب الانتفاضتين التونسية والمصرية وإن لم تنجح حصار نتائجها فهل تستطيع؟ لا نرجو ذلك بالتأكيد.
إن أكثر ما تخشاه الإدارة الأمريكية أن ينتقل غضب الشعوب العربية المنتفضة على أنظمتها ليعم الأصقاع الأخرى منه فتكنس ما تبقى من دكتاتوريين وتلقي بهم عن كاهلها لباس الذّل والخنوع والتخلف الممتد لعشرات العقود من حكمهم حتى كادوا أن يخرجوها من التاريخ لصالح القوى الإقليمية المحيطة بها , وأن تبدل طابع المنطقة الاستبدادي إلى واحة الديمقراطية الشعبية الحقيقية المتمايزة عن الديمقراطية الأمريكية التي تسعى جاهدة لتعميمها وصفة طبية للمنطقة. ينتاب أمريكا فزع أن تنسف انتفاضة الشعوب العربية خططا بذلت من أجلها الغالي والنفيس لتحقيقها واستتبابها ليخلو لها الجو لنهب حتى تراب المنطقة ورملها , لم يرتقي اعتبار سكان المنطقة ونظمها في ظلّ هذه الخطط مستوى العبيد ومن تسوّل له نفسه بشق عصا الطاعة تقطع رأسه أو تسممه أوتسحقه بقوتها العسكرية الماحقة على أنه "إرهاب" .
إن "الحرية" التي تسعى أمريكا كزعيمة "للعالم الحر" لتصديرها إلى بقاع العالم وتعميمها على كل مجتمعاته ومن ضمنها المجتمعات العربية هي لزوم الالتحاق باتفاقية التجارة العالمية تحت مظلّة أمريكا المعولمة التي تدعو لالتحام الجميع ب"سوقها الحرة" المفتوحة والغير مراقبة(سوى من قبل أمريكا). الحرية التي تدعو إليها أمريكا هي دعوة الجميع لنهج سياسة الخصخصة اللامحدودة واللامراقبة من قبل الدولة حتى في القطاعات الحيوية مثل الصحة والطاقة واستخراج الثروات الاسترتيجية واتّباع إرشادات ووصفات وول ستريت والبنك الدولي المدمرة وكثيرا من الوصفات الأخرى المقدّمة من قبل المنظمات التابعة للرأسمال العابر للقارات التي لا تعنى ولا تلقي بالا أصلا سوى لحفنة طفيلية ضيقة جدا لا يتجاوز تعدادها عشرات الأفراد من التشكيلة المجتمعية يمثلون رأس النظام أو من تربطه بهم علاقة زواج شرعي أو غير شرعي تنتظم مع بعضها غالبا مافاويّا أو الأصح "بلطجيا" لا يتجاوز دورهم في هذه الدويلات دور جابي ضرائب أو سماسرة ووكلاء وأحيانا قوادين وقتلة مأجورين عند أمريكا , بينما تترك الأكثرية الساحقة من الشعب نهبا للجوع والبطالة والتشرد ليزدادوا فقرا وتشردا وجوعا كلما تم الانخراط في السوق الرأسمالية أكثر . الأنكى أن هذه الحفنة المتخارجة المغتنية لا تسمح لهؤلاء المنهكون بأي احتجاج حتى ولا بالإيماء تكمّ أفواههم بالقتل أو الاعتقال , حتى في حالة الاعتقال لا تكتفي السلطات العربية بتغييبهم خلف القضبان مدد طويلة وما يستتبع ذلك من مآس لهم ولعائلاتهم , بل تستخدم في حقهم هناك خلف القضبان كل الوسائل المتنوعة لسحق آدميتهم وهدر كراماتهم وكرامات عائلاتهم(2) .
يوجد في الوطن العربي ما نسبته 40% من السكان (باستثاء الدويلات النفطية) يعيشون بدولارين أمريكيين لاغير في اليوم وأحيانا أقل من هذا , في حين أن أميرا أو مسئولا عربيا أو ابنا أو قريبا أو صهرا يهدر أكثر من مليوني دولار في ساعة واحدة على متع لا ضرورة لها في التقييم الإنساني السوي. تبلغ نسبة البطالة وخاصة بين خريجي الجامعات والمعاهد , أي عمالة فنية وتقنية , ما نسبته أحيانا بين 20-40% أي الملايين من العمال والفنيين وخريجي الجامعات في الوقت الذي تستورد أنظمة الدويلات الخليجية الغنية بالنفط الملايين من العمالة الأجنبية . هناك عدد كبير من الناس في مصر يسكنون المقابر , ومثلهم في سوريا تسكن مناطق مهمشة أو مناطق المخالفات كما يسمونها في سورية , ولو كان في سوريا مقابر على الطريقة المصرية لافترشوها أيضا . المصيبة أن أموال رجالات النظام المنهوبة تهرب إلى الخارج وبالذات إلى البنوك الأمريكية فتخسرها البلاد مرتين : مرة حين نهبوها ومرة أخرى عندما لا يستثمرونها محليا في حين يرهنون أمن الوطن والمواطن لاستقدام الاستثمارات الأجنبية التي لا تشتهي أن تستثمر إلاّ في قطاعات النهب( سلاح , استخراج البترول , سياحة, تجارة, دعارة..إلخ فقد فتحت لهم الأنظمة في بلادنا مواخير عربية للترفيه عنهم وتخفيف حر شمسنا) . أهملت سياسات الأنظمة و"السوق الحرة" معا قطاع الصناعة والزراعة فهجر المزارعون أرضهم أو هجّروا منها في أحايين كثيرة إما إكراها أو إغراءا مقابل وظيفة في أجهزة المخابرات المتعددة أو حرس جمهوري-وحدات-سرايا ...إلخ لمواجهة الشعب , لكي نستورد بعد ذلك كل ما نأكل وما نلبس وما نركب من أمريكا وأوربا والصين وحتى من "إسرائيل" . كلّ ذلك حوّل المنطقة إلى مرجل من البارود وصل حدّ الانفجار , وانفجر اليوم في وجوههم جميعا نتيجة ما أوكت أيدي أمريكا من سياسات بمعيّة كلّ "الآلات" العائلية الأميرية منها والملكية والجمهورية الساجدين عند قدمي دلّوعة أمريكا "إسرائيل" خصوصا بعد التصعيد المتوالي من سياسة التحقير التي اتبعتها معهم منذ مؤتمر مدريد الذي عقدته بربطة كل من شاركوها للتخلّص من العراق وفلسطين لتفرض صهينة قصريّة تطال حتى الأفراد في هذه المنطقة العزيزة على قلبها , انفجر برميل البارود إذا دفعة واحدة ثأرا منها بإسقاط كراكوزاتها الحثالة لاسترجاع كراماتهم المهدورة .
نعم إن الشباب المنتفضين اليوم في تونس ومصر وليبيا واليمن والأردن والبحرين والعراق وعمان وغدا في سوريا والسعودية سيثأرون لنا ويردّوا اعتبارنا وكبريائنا المجروح الذي داسوا عليه , إنهم يصنعون لنا تاريخا جديدا , إنهم ينفضوان عن كاهلنا ثياب الذّل والهوان .
















(1)-على طريقة ما كنا نتندر فيما بيننا في المعتقل بعد أن طالت فترة التوقيف كنا نقول جوابا لمن يسأل عن موعد الإفراج بالتالي : إما بموت السجين أو بموت الحمار أو ما يعةد ينبت الحشيش أي العشب

(2)-يقوم الضابط المشرف على تعذيب المعتقلين أحيانا في إجبار المعتقل المراد التحقيق معه على تقبيل أو لعق حذائه أو عضّها بتقريبها أو إدخالها إلى فمه وهو قابع في الدولاب مقيد اليدين إلى الخلف ومعصوب العينين , وفي أحيان أخرى يدخل في دبره "قنينة" أو عصا أو كابل الكهرباء الذين يجلده بهما , وأحيانا أخرى يلعب بأعضائه التناسلية أو يطبق الكهرباء عليها "ليقطع نسله" كما يصرّح له : ولا يقوم الضابط الذي يأمر بالتعذيب بهذا لانتزاع الاعترافات بل من قبيل التفكه في إذلال ضحيته التي لا حول لها ولاقوة لأن هذه الوسائل ليست ذا مردود ألمي كوسيلة ضغط لانتزاع الاعترافات فهناك مواقع أخرى من الجسد تؤلم أكثر , وهناك الكثير من الوسائل الأخرى تسمح للضابط بانتزاع الاعترافات من المعتقل بشكل مجدٍ أكثر وأسهل , ولكن لجوء الضابط إلى هذه الأساليب هو لزوم الإهانة والإيغال في إذلال المعتقل حتى أمام نفسه لكي لا يتجرّأ مستقبلا على الاعتراض على السلطان وقول كلمة لا , والأفظع من هذا أن هذا الغلو في الإهانة يترك بالتأكيد ندوبا على نفسية المعتقل تحتاج فترة طويلة لتندمل وأحيانا تبقى راسخة ولا تندمل , لنتصوّر بعد ذلك لو كان المعتقل فتاة أو امرأة . إن هذا المثل المضروب ليس منقولا قيل عن قال بل كان من تجربة شخصية لكاتب هذه السطور في أقبية الأجهزة الأمنية في سوريا .